ما بعد الحداثة السياسية (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تسعي هذه المجموعة من المقالات إلي الكشف عن المياه الجوفية المحركة لما بعد الحداثة السياسية - Postmodrnism في بداية الألفية الثالثة، في ضوء فلسفة التاريخ عند الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي " أوغسطين كورنو " (1801 - 1877 )، أحد الآباء المؤسسين لما بعد الحداثة، الذي قدم أول رؤية متكاملة ومبتكرة للعالم في عام 1861، تجمع بين "الصين" في الشرق، والولايات المتحدة في الغرب.
تنوعت كتابات " كورنو " بين الرياضيات والميكانيكا والاقتصاد والفلسفة والتاريخ، وساهم في ايجاد الروابط والمعابر بين المناهج العلمية المختلفة، بعد أن ميز بينها بدقة، ومن ثم كان سابقا لعصره.(1)
الأهم من ذلك، أنه ساهم مساهمة جادة في استعادة التوازن المفقود بين العقل الإنساني وتكامل المعرفة ووحدتها (2) في عصر التخصص الشديد والتقسيم المتزايد للمعارف والعلوم، واعتبر كتابه: " المبادئ الرياضية لنظرية الثروة " عام 1838 أول كتاب يمكن تطبيقه علي نطاق واسع للعلاقات الاقتصادية في العالم، وأنه لا يقدر علي تأليفه عالم واحد مهما طالت حياته البحثية.. وبذلك وضع أسس ما يعرف بالثروة التي أحدثت انقلابا في دراسة الاقتصاد من خلال تطبيق التفاضل والتكامل بعد وفاته بثلاثين عاما، كما كتب أهم كتاب في فلسفة العلم والتاريخ، دشن ما بعد الحداثة في مجال السياسة.
فقد نشر في عام 1843 كتابا في فلسفة الرياضيات بعنوان: " تمهيد في نظرية الصدف والاحتمالات ". ثم أصدر في عام 1851 كتابه " مقال عن تأسيس الوعي الإنساني والنقد الفلسفي "، وفي سنة 1872 ظهر كتابه: " انعكاسات علي حركة الأفكار والأحداث في العصور الجديدة "، ثم كتابه " المادية والحيوية والعقلانية " عام 1875، وهو مجموعة دراسات عن استخدام نتائج العلوم في الفلسفة.
بيد أنه في عام 1861 وضع كورنو كتابه العلامة: " مقدمة في الأفكار الأساسية في العلوم والتاريخ ".
ldquo;Traiteacute; de l'enchainement des ideacute;es fondamentales dans les sciences et dans l'histoirerdquo;
ربط فيه بين المفاهيم الاساسية في العلوم والتاريخ، مؤكدا علي أهمية دراسة تاريخ الحضارات والثقافات دراسة مقارنة، والربط بينها وبين " الصدف " المتزامنة، والتي يمكن العثور عليها في التاريخ الصيني والأوروبي تحديدا.
والصدفة عند كورنو، هي نتيجة لتلاقي سلاسل مستقلة من الأسباب، وليست ناتجة عن جهل الإنسان، ولا هي مناقضة لمبدأ السببية، بل إنها مظهر من مظاهر السببية ذاتها، نجده في الحوادث المادية والظواهر البشرية علي السواء.
وإذا كانت الصدفة هي نتيجة لتشابك معقد من الأسباب، فإنها تعتمد - في جزء منها - على حساب الاحتمالات الذي يستند على بحث ومعاينة عدد كبير من الأسباب والظواهر، والمفاضلة بينها للوصول إلى نتيجة. وقد استخدم حساب الاحتمالات على سبيل المثال في العلوم الاقتصادية وفي الجغرافيا وفي فلسفة التاريخ، وغيرها.
وإذا كانت الرياضيات تقيس الصدفة عن طريق حساب الاحتمالات بتحديد فرص وقوع حادث ما عن طريق الصدفة، فلا يعني ذلك أن حساب الاحتمالات والإحصاء هو حساب للصدفة، بل هو بيان لحتمية مجهولة جزئيًا، وافتراض لوجود حتمية وراء الظاهرة التي حدثت صدفة. فحساب الاحتمالات يطبق على الطبيعة إذا أعوزتنا معرفة الوقائع معرفة حتمية، إما بالنظر لصغر العوامل أو لسرعتها أو لتشابكها. لذلك فأن حساب الاحتمالات لا يتناقض مع مبدأ الحتمية. (3)
كورنو قدم رؤية متكاملة ومبتكرة للعالم، ضمنها فلسفته الجديدة، تجمع بين " الصين " في الشرق، وأمريكا في الغرب، وتستند إلي تاريخ المدنيات في العالم وفلسفة الحضارة، وذلك في عام 1861.
كانت الولايات المتحدة قد خرجت للتو من حدود السيطرة الأوروبية ونالت استقلالها قبل كورنو بحوالي قرن من الزمان أويزيد: عام 1783، وما كان أحد يستطيع ان يتوقع أنها قادرة علي بسط نفوذها علي العالم الواسع. كما كانت الثورة الروسية البلشيفية عام 1917 لاتزال سرا في رحم الغيب، ولم يكن أحد يستطيع أن يتنبأ بها، ولا بما يمكن ان تسفر عنه من تطورات. ( 4).
فقد تزامن في تلك الفترة، ظهور العديد من المؤرخين الذين غازلوا المستقبل، وحاولوا استشراف شكل العالم ومراكز قوته وضعفه، في القرون القادمة أو بالأحري التي كانت قادمة وقتئذ، في ضوء الحتمية التاريخية وحدها، التي هيمنت في تلك الفترة وتسيدت الحلبة الفكرية والسياسية، ولم يشذ عنهم جميعا إلا " كورنو ".
وفي عام 1790 كتب " ميلشور جرم " إلي الملكة كاترين الثانية: ثمة امبراطوريتان سوف تشتركان في كل ثمار المدنية، من قوة ونبوغ وفن وصناعة ووسائل وأسلحة، هما روسيا وأمريكا التي استقلت أخيرا. وبعد ثمانين عاما، أي في عام 1870، قدم " باخوفن " تصورا عاما في هذا الأتجاه، حين قال: لقد بدأت في الاعتقاد ان مؤرخ القرن العشرين سوف يكتب فقط عن أمريكا وروسيا.
وفي الفترة التي تخللت ما أشار إليه " جرم " و " باخوفن "، اختتم " توكفيل " المجلد الأول من كتابه " الديموقراطية في أمريكا " بقوله: " يوجد في العالم في وقتنا الحاضر دولتان عظيمتان بدأتا من نقطتين مختلفتين، لكن يبدو أنهما تتجهان إلي غاية واحدة أو مطاف واحد، هما أمريكا وروسيا، فإن ما يجمعهما هو وجود رغبة قوية للسيطرة علي مقدرات نصف العالم.
هكذا تنبأ كل من " جرم " و" باخوفن " و " توكفيل " بإعادة توزيع مراكز القوي في العالم، خلال حقبة لم يكن فيها ما يوحي ببدء أفول نجم أوروبا التي كان لديها وتحت تصرفها وقتئذ الكثير من فائض رأس المال، وكانت قد انجزت بالفعل سيطرتها علي أفريقيا، ولقي علمها وتكنولوجيتها قبولا عاما.