من مطبخ السياسة العراقية الراهنة: صورة المعارضة قبل 2003 وبعدها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قبل العام 2003
منذ تغيير نظام الحكم الملكي في 14 تموز 1958 على أيدي العسكر وتسلم الزعيم عبد الكريم قاسم الحكم، ثم مجيء حزب البعث وحرسه القومي في 1963 بعد انقلاب دموي راح ضحيته عبد الكريم قاسم وآخرون كثر، وبعد إزاحة البعث وتسلم الحكم من قبل الأخوين عارف(عبد السلام وعبد الرحمن) العسكريين، ثم عودة حزب البعث إلى السلطة مرة ثانية في 1968 و"تصفية" أحمد حسن البكر ومؤيديه فيما بعد، ثم تسلم صدام حسين السلطة كاملة في العام 1979 بعد أن قام بسفك دماء المعارضة(داخل حزبه وخارجه على السواء) ثمة نصّبَ نفسه حاكما مطلقا في البلاد وحتى إزاحته بفعل الغزو الأميركي، لم تتغير صورة المعارضة العراقية كثيرا في تلكم المراحل. كانت ملامح المعارضة العراقية واضحة حتى العام 2003. إذ كان هناك معارضون ذوو برامج- تحملوا وزر ما فعلوا سواء أصابوا أم أخطئوا.
فإذا ما استثنينا فترات الحكم الملكي منذ تأسيس الدولة العراقية في 1921 وحياتها النيابية "الموجهة"(أجريت أول انتخابات تشريعية في العالم العربي في العراق عام 1923) وحتى سقوط الملكية في 1958 ، يصبح من الممكن القول: إنه في الفترة ما بين 1958 - 2003 لم تكنْ هناك ديمقراطية تذكر أو حياة نيابية في العراق بالمعنى المتعارف عليه لدى الأمم المتحضرة أو شبهها.
على سبيل المثال، ما فعله عبد الكريم قاسم من إصلاحات اجتماعية وقانونية واقتصادية وزراعية يعد آنذاك إنجازا كبيرا قياسا بالفترة الزمنية التي حكم فيها. لكنه لم يؤسس لحياة نيابية أو ديمقراطية إطلاقا، بل نراه قد انفرد في السلطة في فترة حكمه الأخيرة، بحيث لاحق حتى الداعمين له. على أن هذه الحجة الظاهرية الواهية(المتمثلة بديكتاتورية قاسم) التي ساقها البعثيون للقيام بانقلابهم الدموي ضده في العام 1963 لم تدفعهم إلى التصرف خلافا لمنطق شريعة الغاب فقاموا بسفك دماء معارضيهم.
منذ 1968 كان الحزب الواحد هو الحاكم الفعلي في البلاد، ولكي يظهر بوجه أقل دموية في بادئ الأمر ويهدئ الأوضاع إلى حين، كي يبسط فيما بعد نفوذه المطلق على العراق، قام في العام 1973 بتشكيل ما أطلق عليه "الجبهة الوطنية القومية التقدمية" التي تألفت بشكل رئيس من حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي المعارض - دفعه إلى ارتكاب ذلك الخطأ التاريخي- سوء قراءته للأحداث وتدخل العامل الخارجي المتمثل بضغط الإتحاد السوفيتي وحلفائه عليه للمشاركة في حلف مع "الشيطان".
كانت قيادة حزب البعث الحاكم آنذاك تريد لتلك الجبهة - باعتقادنا - أن تكون منزوعة الأسنان والمخالب، مسالمة، ساندة ومطيعة لا غير، أن تكون صدى لمثيلتها السورية "الجبهة الوطنية التقدمية- التي تأسست في مارس 1972" والتي أصبحت واجهة للنظام الحاكم في سوريا.
رغم تهدئة الأوضاع الداخلية مؤقتا إلا أن الحزب الحاكم لم يتوقف عن ملاحقة معارضيه في السر والعلن. كان الملاحظ هو أنه كلما قوي موقع صدام حسين في السلطة ازداد عنفا وقسوة بحيث أجبر تصرفه كافة قوى المعارضة- أفرادا وجماعات - إلى العمل السري في الداخل أو اللجوء إلى المنفى ومن ثم العمل بحذر شديد في الخارج. وهكذا كان على جلّ المعارضين أن يتحملوا وزر مواقفهم: فقد تمت تصفية كل من كانت له مواقف مغايرة لنهج القائد الأوحد، من داخل حزب البعث الحاكم ذاته أو من خارجه. مع ذلك، كانت هناك معارضة متنامية(يسارية، قومية، دينية ومستقلة) عبرت عن نفسها بشتى الطرق. على أن صورة الحاكم المستبد والخوف من التفرد بالسلطة ما تزال عالقة في الأذهان حتى اللحظة.
لم تكنْ هناك معارضة برلمانية، لأنه لم يكن هناك برلمان فعلي في العراق، لكن كانت هناك معارضة، وبفضلها تعرفنا على طبيعة الحكومات المتعاقبة من جهة، بله على طبيعة وبرامج الأحزاب المعارضة ذاتها. نعم، كانت المعارضة تبالغ في أمور عديدة، خاصة فيما يتعلق بعرضها لصورة خصومها السياسيين، وهذا أمر طبيعي، لكنها كانت حاضرة بشكل أو بآخر، وكان لدى الناس أمل في تغيير الأوضاع نحو الأحسن. على أن الجدير بالذكر هو أنه لم نلمس في تلك الفترات وجود حزب أو تنظيم سياسي ذي قيمة بلا نزعة تسلطية تفردية ولو بنسب متفاوتة. كان الجميع يعرف، أنه لا يمكن استلام السلطة بالطرق الشرعية. كانت العقلية "الانقلابية" مستحوذة على نسبة كبيرة من القوى السياسية. أما أولئك الذين ساورهم في لحظات تاريخية مصيرية شعور بإمكانية انتهاج الطرق السلمية للوصول إلى السلطة كالحزب الشيوعي العراقي مثلا، فسرعان ما وقعوا ضحية "غانديتهم"(نسبة إلى غاندي) ولم يصلوا إلى السلطة إطلاقا.
إذن، أن تكون في السلطة آنذاك، يعني أنك قد سلبتها بالقوة أو بالخداع والغدر، وطالما كان هذا ديدنك، فإنك لا تثق بسواك، ولا ترعوي من أن تقصي أو تُسْكتَ معارضيك بشتى الأساليب، فيا ما أكثر السجون في البلدان العربية، وأوسع المنافي العالمية!
بعد العام 2003
إذا كانت المعارضة في مواجهتها للأنظمة المستبدة أو غير الديمقراطية تسعى إلى تغيير نظام الحكم وفق مبدأ مكيافيللي" "الغاية تبرر الوسيلة"، فإنها تسعى في ظل الأنظمة الديمقراطية إلى التغيير بالطرق السلمية وفي حدود ما يسمح لها الدستور والقوانين المرعية والناخبون خلال دورة انتخابية أو أكثر. لذا، فالمعارضة ضرورية للغاية، لتقويم مسيرة الأحداث في البلاد وتنقية الأجواء ومنع حصول خرق للقوانين أو استغلال السلطة أو تكريسها لخدمة فرد أو جماعة، أو انزلاقها إلى ما يخالف المبدأ السلمي لتداول السلطة. بعبارة بسيطة موجزة: إما أن يلبي الطرف السياسي الحاكم مطالب الناخبين أو أن يفقد السلطة.
لكن، ما الذي حصل، على صعيد تداول السلطة في العراق بعد 2003؟
جرت دورتان انتخابيتان تشريعيتان وانتخابات محلية. وكان ذلك فألا حسنا دفع العراقيين، للتباهي في الداخل والخارج، بأن دماء آبائهم وأبنائهم التي سفكت لم تذهبْ هدرا، وأن رحلة المعاناة والمنفى قد توقفت لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ بلادهم المعاصر وحياتهم الاجتماعية والشخصية... وهذا هو العامل المفصلي الذي دفع الناخبين العراقيين(في 2005 وفي 2010) للإدلاء بأصواتهم بنسب عالية، في الداخل والخارج، متحدين قوى الظلام والإرهاب التي كانت وما تزال تتربص بهم. ولم يكنْ يعرفون ما ستخبئه لهم قوادم الأيام.
تحمل العراقيون على مضض عواقب غزو بلادهم وذل الاحتلال والدمار الذي حلّ بهم وطول معاناتهم، طمعا بالظفر بحريتهم وبمستقبل أفضل لبلادهم. بلى، أصبح الناس أكثر حرية وأقل خوفا من ذي قبل دون شك، لكنهم خدعوا من قبل غالبية القوى السياسية الجديدة- القديمة ومن قبل المحتل.
لقد أدخل المحتل، في بادئ الأمر، تقليدا فريدا من نوعه في التاريخ، يعتمد على التناوب على رئاسة الدولة شهريا! لقد اشترك الجميع (فرحين) في الحكم ظاهريا، بينما كان المحتل هو الحاكم الفعلي في البلاد.
ظن الجميع أن بإمكانهم حكم العراق أو البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية، خاصة وأن الحكم قد سار وفق مبدأ "المحاصصة والتوافق" وليس بناء على ما تفرزه نتائج الانتخابات. تعوّد صغار السياسيين وكبارهم، ممن وجد نفسه فجأة في السلطة، ممن يستحق ولا يستحق، من له تاريخ طويل في المعارضة والسياسة أو من اصطنعته الأحداث وصار دخيلا عليها، أقول: تعود الجميع على المشاركة في الحكم، سواء في السلطة التشريعية أو التنفيذية. طالما، أن كل عراقي لا بد وأن ينتمي إلى عشيرة ما، حزب ما، طائفة ما أو قومية ما، فإنه يعتقد أن من حقه أن ينتمي إلى فئة الحاكمين. أخذ كل طرف يقول: أين حصتي؟ إذا ما استثنينا قوى الإرهاب البغيض، وتلك التي تطلق على نفسها "المقاومة العراقية"، لم تعد هناك معارضة تذكر اليوم في العراق.
السؤال الذي أخذ العراقيون يطرحونه على أنفسهم وعلى رب العالمين منذ فترة هو: لماذا لا أحد من الأحزاب والتنظيمات والمكونات السياسية العراقية يريد أن يعترف بخسارته في الانتخابات ويحترم نفسه ويتخذ موقف المعارض للسلطة، ويسمح للفائزين أن يشكلوا الحكومة؟ لماذا، يريد الصغير أن يفرض إرادته على الأكبر منه؟ لماذا يظن البعض أن من حقه التاريخي والعشائري والطائفي أن يكون هو الحاكم الفعلي وليس سواه؟ لماذا، يسمح قسم من السياسيين العراقيين أنْ يكون له أوصياء وأولياء من الخارج يتحكمون فيه وبفضله يؤثرون على مسيرة التحولات في البلاد؟ لماذا انخرط معظم رجال الدين في العمل السياسي؟
لا أحد في العراق يريد أن يكون معارضا ولو لفترة انتخابية واحدة. الأسباب كثيرة وبعضها مريع، ولكن دعونا نسلط الضوء على المهم منها.
باعتقادنا، لم يتخلص المعارضون العراقيون "سابقا" - الحاكمون اليوم بعدُ(رغم عيش معظمهم في دول ذات أنظمة ديمقراطية قبل 2003)، من عقدة السلطة، والشعور بأن الحاكم سيضطهد المعارض وأن المعارض اليوم سيقوم غدا بالانتقام من خصومه، حالما تحين الفرصة. السلطة حزمة لا تنتهي من المكاسب والاعتبارات، ولا أحد مستعد لخسارة ما حصل عليه بعد عشية وضحاها من امتيازات السلطة. يمكنني تشبيه العراق اليوم بقطار من زمن أفلام الكاوبوي الأميركية، يسير ببطء على سكة قديمة، تنهشه الرياح، يتوقف كثيرا أو توقفه بعض العصابات لنهب ما يحمله. المشكلة العويصة المضحكة هي أن قسما من راكبيه ينهبون ما فيه.
أن تنهب في ظل "التداول السلمي" للسلطة يعني أنك ستخضع للمحاسبة والمساءلة. وحتى فيما لو جرتْ محاسبتك بشكل بسيط، ستنكشف بعض أوراقك على الأقل. وهذا ما يخافه الجميع بسبب الفساد المستشري في العراق. حتى لو كان زيد أو عمرو من القادة السياسيين نزيها فإن من حوله ليس بالضرورة أن يكون كذلك. حتى لو كان بعض القادة السياسيين ميالا لدفع الأمور إلى أمام بتنازله هنا وهناك إلا أن من يحيطونه ويتحالفون معه لا يسمحون لنواياه بالتحقق لأن مواقفهم ذات صلة بمدى حصولهم على منصب في الحكومة الجديدة.
الأمر الآخر، أن هناك كيانات سياسية بعضها هش ومصطنع، تشكلت في السنوات الأخيرة لأسباب نفعية أو طائفية أو أثنية، يخاف "القيّمون عليها" أن ينفرط عقدها، في حالة لجوئها إلى صفوف المعارضة. باستثناء قلة من الأحزاب القديمة التي تعودت على أن تكون في صفوف المعارضة في ظروف متنوعة، لا أعتقد سواها، بوجود طرف سياسي عراقي قد ينجو من عاقبة التشظي في حال لجوئه إلى صفوف المعارضة البرلمانية أو خارجها. أن تكون في السلطة يعني أن يلتف حولك (إضافة إلى عناصرك الحزبية) المنتفعون الجدد. كل سلطة لها مؤيدوها وزبانيتها. وفي الواقع العراقي الحالي يعني أن بإمكان المكون الحاكم أن يضعف منافسيه ويكسب بعض ممثليهم في البرلمان، وربما يشتت قواهم تماما، وهذا عامل مضاف يخيف البعض من دور المعارض.
علاوة على ذلك، أن القوى السياسية العراقية ما تزال في طور الصيرورة، وأن ابتعادها عن السلطة قد يجهض طموحاتها الذاتية ومشاريعها الطائفية والأثنية.
على أنني أرى حاليا، أن العوامل الخارجية أقوى من العوامل الداخلية، ولها الأثر الكبير في عرقلة مسيرة الأحداث، وخاصة فيما يتعلق بإجهاض العملية الديمقراطية الوليدة في البلاد. وفعلا، نعتقد أن تلك القوى قد نجحت في تشويه صورة الوضع الجديد. إن صراع المصالح والإرادات بين دول الجوار وبين بعضها والطرف الأميركي له دور فعال في تأخر تشكيل الحكومة العراقية، وهذه القوى هي التي تدفع من جعلته الانتخابات الأخيرة أقل شأنا من سواه لكي يعرقل، قدر المستطاع، انتقال السلطة سلميا.
بعد كل ذلك، نقول: إن وضعا غريبا قد نشأ في العراق لا مثيل له في العالم، مفاده أن المعارضة انتقلت من خارج السلطة إلى داخلها. يعني، شاركْ في السلطة، وتمتعْ بامتيازاتها، وعارضْها في نفس الوقت، أو تخلَّ عنها قبيل الانتخابات التشريعية بقليل. لذلك نرى، أنه طالما بقيت السلطة في العراق قائمة على فكرة التوافق والمحاصصة البغيضة، وبالتالي فقدان المعارضة البرلمانية الفاعلة/ الكل يريد أن يحكم على أساس أن الفرصة يمكن ألا تتكرر مطلقا/، فأن الكل، بنسبة ما، مسئول عن الفساد الواسع الانتشار في الحياة العامة وأجهزة الدولة ومؤسساتها، ومسئول عن عدم تنفيذ المشاريع والخطط، والكل مسئول عن انعدام أبسط مقومات الحياة للمواطن العراقي، والكل مسئول عن عرقلة العملية السياسية في البلاد، والكل مسئول عن تشويه سمعة الحكومة وزعزعة هيبة الدولة.
يبدو، أنه لا مفر أمامنا من إعادة الانتخابات التشريعية إذا ما بقيت الأمور كما هي عليه. وعليه فإذا لم يرفض المشرعون الجدد مبدأ المحاصصة والتوافقية السياسية، ولم يعِِ الناخب العراقي خطورة هذه الإشكالية ويسعى لتغييرها في أقرب انتخابات تشريعية، بحيث يمنح ثقته لطرف دون الآخر، بناء على نزاهته وبرنامجه الانتخابي، بشكل يحسم مهمة تشكيل الحكومة ولا يجعل الفوارق طفيفة بين الأحزاب، أقول إذا لم يحصل ذلك ستفشل التجربة العراقية الوليدة بعد 2003 ، لأن المتربصين فيها، في الداخل والخارج، كثيرون.