غازي القصيبي، كتب بالأشخاص وليس عنهم!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
العظماء فقط، هم الذين لا نسبق أسماءهم بأية ألقاب، غازي القصيبي واحد منهم. أهداني كتابه عن " أزمة الخليج " الصادر عن دار الساقي بلندن (علي ما أتذكر) وكتبت عنه مقالا في جريدة الأهرام في أوائل التسعينيات، كان سبب شهرة لي لمجرد عرضه وتقديمه للقارئ. الصدق والموضوعية والحرفية العالية في هذا الكتاب، والقضايا المسكوت عنها التي فجرها بسلاسة وعمق، جعلت منه أهم مرجع توثقي للطبقات " الجيو - نفسية " العربية - العربية.
الشخصيات التي رسم ملامحها قبل عشرين عاما، هي هي نفسها التي صورها في كتابه " الوزير المرافق "، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام 2010، ربما لأنه لم يكتب عن الأشخاص الذين عايشهم فترة عمله وزيراً للصناعة ووزيراً للصحة، إذ قام بدور الوزير المرافق لرؤساء وملوك زاروا المملكة، وأيضا مرافقة ولي العهد أو الملك السعودي في فترة السبعينات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وإنما لأن القصيبي الأديب كان يكتب (بالأشخاص) ويرسم بهم لوحة طبيعية شديدة الخصوبة والحيوية والتنوع.
يقول: " في هذا الكتاب فصول تحمل انطباعاتي الشخصية عن عدد من رؤساء الدول والحكومات، وقد حرصت على أن تبقى الانطباعات كما دونتها أول مرة منذ سنين طويلة...".
ولنبدأ من الصفحات الأخيرة والمعنونة " فاس... بين قمتين " حيث يستعرض القصيبي معظم الرؤساء العرب (بعبلهم) أو كما رآهم في القمة: ياسر عرفات، الذي عاصر كل التجارب المريرة - علي حد تعبيره - كان "يلقي بالكلام على عواهنه، وألفاظه تسبق تفكيره...". والملك حسين كعادته "منطقي منظم الأفكار شمولي النظرة". و"صدام حسين تمثيل بشري صادق للعنجهية والغرور". بينما "حافظ الأسد" هو "أكثر الزعماء العرب قدرة على الشرح والإقناع". و"الملك فهد.. لا يتكلم إلا قليلاً وبحساب". أما زعماء الخليج فقد " صمتوا طوال الوقت ".
لن تفارقك الابتسامة علي طول صفحات الكتاب، وأحيانا تمتزج ابتسامتك بالبكاء أو الرثاء أو السخرية، لا يهم، لأن عين القصيبي هي عين كاميرا في النهاية، تسجل اللحظة كما هي وتقبض عليها في طلاوتها وبراءتها، بدأت قمة فاس الأولى بمناقشة مشروع فهد للسلام الذي انطلق من تصريح للأمير وتباينت الآراء حول كلمة "تعايش" في ديباجته، وهنا قرر رئيس القمة الملك "الحسن الثاني" سحب المشروع، بعد أن أصرّ الأمير فهد على ذلك لوقف تطاول بعض الألسنة التي جرّحت المملكة. الغريب أنه في القمة الثانية انقلب الحال 180 درجة، وأصبحت الأجواء مهيأة لتبني المشروع من (جميع الدول) بعد إصرار سورية على تعديل كلمة " تعايش"، فقط.
عاش الأمير فهد سنوات طويلة يشعر بالحسرة علي أهم فرصة ضائعة أمام الفلسطينيين والعرب، فقد كان الأمير فهد كما يصفه القصيبي متمسكا بدولة فلسطينية مستقلة، ورغم أن الرئيس الأمريكي " جيمي كارتر " أنكر دور الأمير فهد حين صرح ذات يوم بأنه " لا يوجد قائد عربي طالب بالدولة المستقلة "، مع أنه ذكر في مذكراته بأن: " السعوديين وحدهم من يقولون في العلن ما يقولونه تماماً في المحادثات الخاصة " كما يؤكد (الوزير المرافق).
حنكة الأمير فهد السياسية تظهر جلية في هذا الكتاب، ففي الفصل المعنون "البيت الأبيض.. بين سيدين" تحدث القصيبي عن "نيكسون إمبراطور واشنطن" وقضية "ووترجيت" التي أطاحت به في الولايات المتحدة الأميركية حيث قدم استقالته ورحل، وكان هو السيد الأول الذي التقاه القصيبي في الزيارة الأولى عام 1974 مع النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء الأمير فهد.
ويحكي القصيبي أن وزير الدفاع في عهد نيكسون هو شليسنجر وحين صار وزيراً للطاقة في عهد "كارتر" ترأس الوفد الأميركي في اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي بين السعودية وأميركا، بينما تولي الأمير فهد رئاسة الجانب السعودي، وعرض شليسنجر وقتئذ مقترحاً - لا يخلو من غرابة وطرافة في نفس الوقت، ومفاده أن تقوم المملكة وعلى نفقتها ببناء المخازن المعدة للاحتياطي الاستراتيجي النفطي في أميركا، ثم تشحن النفط على نفقتها الخاصة إلى أميركا لوضعه في المخازن، وذلك لضمان تدفق النفط لو حصلت اضطرابات، وأنه بوسع المملكة أن تحظر النفط بكل اطمئنان، بعد ذلك!
يقول القصيبي: "كوزراء سعوديين حاضرين جميعنا نظرنا لبعض وحسدنا الأمير فهد على سعة صدره وهدوء أعصابه ورباطة جأشه، فقد قال للوزير الأميركي: "هذه على كل حال فكرة تستحق الدرس والعناية...". تلك كانت واشنطن "نيكسون" أما واشنطن "كارتر" فليس هناك أباطرة ولا نجوم. رئيس متواضع لكنه كما وصفه الأمير فهد "لا ينفع صديقاً ولا يضر عدواً"، فقد تبنى الاعتراف في تلك الأيام بمنظمة التحرير بشروط ليست صعبة وذلك برعاية الأمير فهد.
الرئيس الفرنسي " ميتران " حسب الوزير المرافق: "رجل ذكي، قوي الشخصية، ولكنه إنسان متجهم لا يتصف بالمرونة... نادراً ما رأيته يبتسم خلال الزيارة"... " ابتسامته النادرة كالورد الاصطناعي، هل هذه طبيعته؟ لا أدري. ربما كان السبب القلق الطبيعي الذي حسّه رجل اشتراكي ماركسي وهو يزور بلداً محافظاً ".
أما الرئيس الأوغندي " عيدي أمين "، قاهر الإمبراطورية البريطانية وحامل وسام الملكة فكتوريا، فقد طلب القصيبي مرافقته من رئيس المراسم الملكية أحمد عبدالوهاب وقتئذ، ربما ليرسم لنا أصعب فترة حكم في القارة السمراء أمتدت عقدا من الزمان وشهدت المجازر وأجهزة المخابرات والجثث الطافية على النهر والفضائح النسائية لأكثر الرؤساء تخلفا وجهلا. ففي أثناء حرب أكتوبر 1973، زار عيدي أمين المملكة وحسب رواية الأمير فهد الذي حضر اجتماع " أمين " بالملك فيصل، عرض " أمين " "خطة جهنمية" لمهاجمة إسرائيل بحيث تنقل طائرات عربية مئات الطيارين العرب إلى المطارات العسكرية الإسرائيلية وتحط بهدوء ثم ينقض الطيارون العرب على الطائرات الإسرائيلية ويطيرون بها ثم يدكّون إسرائيل، فرد عليه الملك فيصل بذكاء دون أن يحرج مضيفه: بأن عليه عرض الخطة على دول المواجهة، وأن المملكة جاهزة لأي رأي تراه الدول العربية المعنية!
وفي مرة زار الملك فيصل أوغندا وتفاجأ بحفل ترقص فيه فتيات ويغنين للملك "إنا أعطيناك الكوثر" فشاح الملك فيصل بنظره بعيداً، بينما أعتقد "أمين" أنه قدم للملك حفلة (إسلامية) حسب وصف القصيبي الذي راح يعدد مطالب الرئيس الزائر بعد أن استقبله الأمير فهد - ولي العهد آنذاك - مع الوزير المرافق وخرج عليهما من طائرته الصغيرة بلباس عجيب جعل الأمير فهد يُخفي ابتسامته عن الرجل والصحافة. لقد انتهى حكم " عيدي أمين " وفر إلي ليبيا ثم لاذ بالمملكة حيث توفي سنة 2003.
لكن أغرب صفحات هذا الكتاب الممتع كانت من نصيب ليبيا أيضا، خاصة لقاء القصيبي "مع الأخ العقيد.. في الحافلة"، حيث يذكر أن أول ليلة في ضيافة العقيد نام الوفد السعودي في البلكونات لشدة الحر وخلو الغرف من المكيفات، ثم يُبرز لنا الوزير نقاشات مختلفة بين مستشار الملك خالد الشرعي وبين العقيد في جوانب فقهية كثيرة وأهمها اختراعه لتاريخ هجري لمخالفة المسيحيين الذين يؤرخون بميلاد السيد المسيح، وحجة القذافي إنه ابتكر هذا التاريخ لأنه حاكم مسلم وعمر بن الخطاب حاكم مسلم، فسأله "الملك خالد مذهولاً: أنت مثل عمر بن الخطاب؟!".. كان رد العقيد صادما: "الأيام بيننا.. سوف ترون...".
لاحظ الملك خالد علامات القهر بادية علي الرائد الليبي "عبدالسلام جلّود" الذي لا يكاد يجلس حتى يأمره العقيد القذافي بأمر لا قيمة له كجلب الشاي أو توجيه الشرطة ألا تسرع أمامهم، فأراد الملك خالد أن يطيب خاطره، وقال: "يا أخ عبدالسلام، شكراً لك، سيد القوم خادمهم ". لكن يبدو أن هذا الرائد كان (حالة خاصة)! فقد كان شديد السذاجة حسب وصف القصيبي، فقد سأل الرائد جلود الوزير المرافق: "لماذا لا يثق (الرئيس السوداني) جعفر نميري بنا؟..."، فأجابه القصيبي: لأنكم دبرتم انقلاباً رهيبا ضده ً... فقال الرائد: "صحيح إنا "دبرنا عليه انقلاب". ولكننا اعتذرنا له بعد ذلك. ألا يكفي؟".. يعلق القصيبي على كلام الرائد بأنه كان يتحدث بجد ولا يمزح، فـ"بإمكانك أن "تُدير" انقلاباً على رئيس دولة مجاورة يقتل فيه المئات وتسفك الدماء البريئة... ثم يفشل الانقلاب، فتعتذر له، وكأن شيئا لم يكن!
رحم الله " غازي القصيبي " رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وخالص العزاء لأسرته ومحبيه في كل مكان وزمان..
dressamabdalla@yahoo.com