فضاء الرأي

غازي القصيبي الذي لم أعرفه

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لم يكن الشاعر الأديب الراحل غازي القصيبي مجرد شخصية إدارية أو دبلوماسية، ولم يكن مجرد رجل دولة يقوم على تنفيذ الأعمال الوزارية بشكل بيروقراطي، لكنه كان إنسانا مبدعا في المحل الأول، كان الإبداع يشكل هاجسه الجوهري في معايشة الواقع والحياة والذات.
القصيبي كان يمثل استثناء في مشهد الثقافة والحياة السعودية، لأنه نموذج للمبدع في صورته العملية، لا النظرية. كما أنه نموذج للوعي التجريبي الذي لا يقف عند حدود العادات والتقاليد والقيم، بل يسعى لتطويرها ومجاوزتها، ولأنه قرأ العالم بروح أكثر استشرافا وأكثر تأملا، ولأنه حمل وعيه الوطني إلى عالم التجريب والاختلاف الذي عايشه خلال أسفاره طالبا ودبلوماسيا ووزيرا في مصر والبحرين وبريطانيا والولايات المتحدة، ومختلف البلاد التي قام بزيارتها، ولأنه تزوج من ألمانية، وعاش حياة مختلفة لا تعتمد التقاليد بالضرورة، فقد قدم حياة مختلفة عن السياق الثقافي العام الذي يثوي تحت مقولة: المحافظة. ومن هنا كان مثيرا وكان أكثر عرضة للنقد، وأكثر إثارة للأسئلة.
القصيبي كان يريد نهضة مجتمعه ووطنه، وأن يرى الناس أن هناك عوالم أخرى، وأن هناك حضارات وقيم أخرى، وأن السبيل للنهضة هو بممارسة الفكر المتجدد والتجريب، من هنا كانت نجاحاته في كل منصب تقلده نجاحا متميزا، في الصناعة والكهرباء وفي وزارة العمل.
في منصبه الأخير - رحمه الله- في وزارة العمل كان يريد أن يشيع ثقافة العمل الحر، والعمل المهني، وكان يقوم هو بنفسه بدور الطاهي حينا، وبدور العامل حينا آخر في بعض المطاعم السعودية ليقدم نموذجا عمليا للشباب في العمل المهني، لكنه اصطدم بشكل مؤثر بالتقاليد المحافظة، التي لا ترغب في العمل المهني، حيث لا تريد الأسر السعودية أن يكون أبناؤها نجارين أو سباكين أو فنيي تكييف، أو عمالا في مصانع النسيج أو الكهرباء أو الأغذية، معظم الأسر السعودية لا ترغب في المهنية ولا في إشاعة ثقافة العمل. كان القصيبي يريد أن يكسر هذه النظرة التقليدية للعمل المهني لكنه لم ينجح في ذلك. لأن معظم الشابات والشباب المتخرجين في الجامعات السعودية وغير السعودية يريدون وظيفة بمكتب، وظيفة إدارية لا مهنية، تعززهم انطباعات الأسر الكبرى عن ثقافة العمل المهني أو الحر، مما اضطر القصيبي ذات يوم أن يعلن أن رغبته في عمل الشابات السعوديات لا يقصد بها " بنات الحمايل" أي بنات الأسر الكبرى.. قالها على سبيل النقد والمفارقة.
كان القصيبي رائدا في الشعر السعودي، كان هو من أوائل الشعراء الذين اهتم بهم النقاد العرب خارج السعودية، فكتب عنه الدكتور عبدالقادر القط في كتابه:" الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر" الذي كان يدرس في الجامعات المصرية لأكثر من ثلاثين عاما، كما تناول شعره بشكل مبكر عدد من النقاد. وكانت للقصيبي جماهيرية متميزة، كان متأثرا في شعره بإبراهيم ناجي ثم بنزار قباني، كان عالمه الرومانتيكي صورة مثلى للشاعر الذي يشعر بنبض القضايا اليومية. كان ينشر قصائده دون وجل، ليقدم صورة للشاعر الوزير الذي يفصل بين وظيفته الوزارية وبين كونه أديبا مبدعا، ومن هنا كلفته قصيدته:" من المتنبي إلى سيف الدولة" منصبه الوزاري في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، فيما أقيل من منصبه الدبلوماسي كسفير للسعودية في لندن بعد نشر قصيدته عن الشهيدة الفلسطينية آيات الأخرس.
للقصيبي كاريزما مدهشة في المجتمع السعودي، وفي الندوات والأمسيات التي حضرتها له كان الحضور يملأ القاعات تماما، ليسمعوا من القصيبي بلغته السلسة، ورؤيته الساخرة المفارقة جديده من التصورات والأفكار. كان معترضا مثلا على مسمى وزارة الثقافة والإعلام، وكان يرى في ورقة له بعنوان:" ثقافة الثقافة" أن الثقافة التي تقدمها الوزارة ثقافة إداريين، ثقافة رسمية.
أكثر ما يبده في هذه الشخصية أنه كان يتوجس من أن يظل ثاويا في مجال أحادي، من هنا انتقل من الشعر إلى الرواية، حيث أحدثت روايته:" شقة الحرية" نقلة في عالم الرواية السعودية بجرأتها وبأجوائها غير المألوفة، وشكل هو وتركي الحمد ثم عبده خال بداية التحول إلى رواية سعودية جديدة، لا تقف عند حدود التقاليد أو الأجواء الرومانسية الهشة أو الكتابة عن البطل خارج الأجواء السعودية.
كان حضوره فذا في كل مجال: الكتابة، الشعر، الرواية، السيرة الذاتية، الإدارة، المنصب الوزاري.. ومن هنا سيظل القصيبي علامة فارقة في تاريخ الثقافة والإدارة في السعودية، وهو علامة على أن من يكسر حالة الخوف، وحالة العزلة، وحالة البيروقراطية وحالة التطرف وحالة التشدد سوف يسهم بلا شك في تطوير منصبه وبلده ومجتمعه.
لم أعرف غازي القصيبي بشكل مباشر، لكنني تعرفت عليه دارسا لشعره في الجامعة، وقارئا لرواياته ومقالاته، ومستشرفا لتجريبه وآرائه، وفي المرات القليلة جدا التي قابلته فيها، كان متواضعا في أسلوبه، مرحا وساخرا في كلماته، مرحبا وبشوشا في لقاءاته. ومن هنا احتل القصيبي هذه المكانة في نفوس أبناء وطنه ومجتمعه، بريادته، وبتأمله، وتجريبه، وجرأته، واستشرافه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف