رحلات كارل ماي الوهمية الى الشرق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
صورة الشرق في عيون الغرب
كان كارل ماي اصطنع لنفسه صورة ايديولوجية تبشيرية واتخذ من الشرق والعالم العربي والاسلامي وسيلة لايصال هذه الايديولوجية . غير ان المهم والغريب في الأمر معا، هو ان كارل ماي كتب جميع رحلاته عن الشرق قبل ان تطأ قدمه أية بقعة فيه او يتعرف بصورة مباشرة على ابطال رحلاته والتأكد من صورة المجتمع المتخيل الذي كتب عنه دون ان يراه من قبل.وكانت اول رحلة حقيقية له الى الشرق عام ،1899 بعد ان تجاوز السابعة والخمسين من عمره، حتى يثبت لقرائه ان رحلاته لم تكن وهمية وخيالية وانه فعلا بطل رواياته.
كان كارل ماي معلما فاشلا ولم يستطع البقاء في وظيفته لدخوله السجن عام 1861 متهما بسرقة ساعة يد. وبسبب معاناته من العوز والتشرد دخل السجن مرة اخرى ولعدة سنوات. وفي السجن اكتشف موهبته في الكتابة، اذ شعر بصوت داخلي خفي يحرره من أوهامه ويحوله الى "انسان آخر يبحث في العلاقة بين الانسان والوجود وبين الله والشيطان". وفي السجن اخذ يقرأ كل ما يقع امامه ويلتهم كتب التاريخ والرحلات والروايات ويتعرف على الشعوب والحضارات واللغات وتاريخها وعاداتها وتقاليدها. وقد تراكمت لديه معارف كمية هائلة من المعلومات الاثنولوجية عن المجتمعات والامم والشعوب والحضارات المختلفة وبدأ بكتابة رحلات وهمية منطلقا من عالم خيالي فسيح في مغامرات في بلاد العرب والفرس والاتراك وفي شرق افريقيا والهند وغيرها.
وكان كتابه "عبر الصحراء " ، الذي صدر في ستة اجزاء، نافذة "شعبية" يطل الالمان منها على الشرق بصورة عامة وعلى العالم العربي بصورة خاصة. فقد عثر صدفة على جثة قتيل مع قصاصة ورق، وحول هذه الاقصوصة الى مغامرة مملوءة بالاحداث والوقائع الغريبة والمفاجئات المتناقضة لتبرز منها فجأة مغامرة جديدة اخرى تغير اتجاه رحلته. وتتوالى الرحلات والمغامرات والمفاجئات بانتقاله من اسطنبول الى بغداد ومن بغداد الى اعماق الجزيرة العربية.
كان عالم كارل ماي عالم الخيال والوهم والاسطورة لا عالم الواقع والحقيقة، انه عالم مملوء بالصور المتناقضة. فهو يقسم البشر الى طيبين واشرار، نبلاء وخبثاء، شجعان وجبناء. هذه الثنائية الاخلاقية ، التي ليس لها وسطية، تعكس عنده وبشكل بسيط وساذج فكرة الصراع الازلي بين الخير والشر، بين الفضيلة و الرذيلة.
ينطلق كارل ماي في مغامراته الوهمية على جواده الابيض عبر الشرق والغرب ليخترق الصحاري والجبال والسهول ويتعرف على عادات الشعوب واخلاقها. فهو يخرج من مغامرة ليدخل اخرى، ويفعل مثلما فعل الملك " أنور" ويعني به الملك اشور بانيبال، او مثل " رينالدو" البطل الذي يلاحق الاشرار ليعاقبهم ويساعد الطيبين والضعفاء، تماما مثل فرسان القرون الوسطى . ان قلبه مفعم بالمبادئ المسيحية الاخلاقية، فهو" متحضر بين الاجلاف الغلاظ ، مسيحي مؤمن وسط اناس يعتنقون ديانات اخرى. وتتاح له فرصة يدخل خلالها بين المسلمين ليبشر بالمسيحية. فهو مبشر من المبشرين، يقارن مثلا، بين مبدأ الثأر عند البدو وبين مبدأ الحب والايثار في المسيحية رغم انه يقول: "يوجد ايضا اعظم الاوغاد بين المسيحين الفاسدين ".
ولا تخلو رواياته ومغامراته واساطيره من توصيف لسحرالشرق وغموضه ورومانتيكيته. وقد ابتكر في رواياته ابطالا وهميين او اسطوريين ما زال ذكرهم يتردد على ألسنة الناطقين بالالمانية، وفي مقدمتهم " حاجي خلف" و "الفارس ملك الجياد" الذي اطلق عليه اسم " الريح" الذي ضحى بنفسه من اجل انقاذ سيده. كما كانت لديه القدرة على التخيل الدقيق وابراز تصورات ابطاله ورؤيتهم للعالم . "فابن نمشي " كانت له رغبة قوية في اكتشاف اسرار عالم الشرق وحل الغازه واساطيره وخرافاته التي تسكن زوايا الشرق الغامضة.
في الاجزاء الستة من مؤلفه المشهور " عبر الصحراء" وكتابه المعروف من "بغداد الى اسطنبول" و " الحج الى ارض الشرق" و " الأمير" و " المهدي " يتعرض كارل ماي الى العلاقة بين المسيحية والاسلام وبين العرب والكرد بطريقة وعضية ساذجة. وكل ما يصفه من احداث في وجودها وتكوينها وماهيتها لايتعدى الوصف الخيالي الواسع. وهو لا يكف عن الحديث عن الخرافات التي تسكن الشرق، ويحاول ان يوهم الناس مثلا ان" طلقات الرصاص لا تستطيع اختراق جسده ولا تصيبه بأي أذى" ويحاول تبرير ذلك بخدع كلامية، وهو بهذا اشبه بالبهلوان.
ومن جهة اخرى يأخذ كارل ماي بنظر الاعتبار ردود افعال الاخرين عليه فيعرض نفسه ذكيا لأنه يمتلك " عقلا حسابيا" ويستطيع ان يخضع الطبيعة لارادته. ومن النادر ان يعبر كارل ماي عن ضعفه او حيرته ازاء قوى الطبيعة، فهو يملك حدسا وغريزة ويضع قوالب اخلاقية لحركة المكان ومضمونا مجازيا للطبيعة في شكل منطقي متسق لا يعبر عن برنامج خلقي محدد مسبقا، وانما موجود عن طريق الصدفة والمغامرة. ومن هنا يشعر القارىء ان " الأنا" عنده متضخمة ولها قوة خارقة وتتمتع بكافة القدرات الممكنة وفي كمالها المطلق. وتنمو هذه القدرات مع حجم المغامرة التي يقوم بها، في ركوب الخيل واطلاق النار ومجابهة المخاطر ومناقشة القضايا الاجتماعية والدينية والاخلاقية.
ومن الملاحظ ان جميع مغامراته تقع خارج حدود أوربا. فهو بين البدو في الصحراء وبين الاكراد في جبال كردستان ومع المهدي في السودان وبين رعاة البقر في غرب اميركا ومع الهنود الحمر في اميركا الشمالية. وفي كل مغامراته هو البطل المنتصر، ويبرز انتصاراته كبطل أوربي من القرن التاسع عشر والشرقي عنده خرافي، كسول، غير موثوق به، وهو بشكل او آخر غير شجاع، والمرأة الشرقية عنده مجرد متاع، بالرغم من انها تؤدي جميع الاعمال، اما الرجل فلا عمل له سوى ركوب الخيل والتدخين وقطع الطرق والثرثرة والاسترخاء والتنبلة. . ولذلك جاءت صورة الشرق عنده صورة آيديولوجية مفارقة دوما، مثلما كان يراها البرجوازي الاوربي آنذاك، منطلقا من فكرة التمركز الاوربي على الذات.
وتظهر أحكامه المسبقة في اغلب رواياته، فهو يردد دوما:" فلتأخذ حذرك .. اياك ان تثق بهم " او " اياك ان تثق بالعربي .. ولا بالتركي ...ولا بالايراني" ، ويالمقابل فالاوربي مثقف وذكي وسريع الفهم ويمتلك مهارات عقلية واسلحة فتاكة لا يعرفها الآخرون، لانها من منجزات الحضارة الغربية وحدها.
واذا كانت تلك الصورة تعبير عن آيديولوجية وعن مصالح اقتصادية واهداف توسعية، فانها في ذات الوقت، قراءة نقدية لصورتنا معكوسة في اذهاننا ومواقفنا وممارساتنا، وكذلك في ردود افعالنا حيال الغرب، وهي في الأخير صورة "ايديولوجية " عاجزة عن رد أي فعل على تلك الايديولوجية المعادية.