خمسة جنود وأنا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم أصدق كذبتي كما صدقتها في تجربتي الأخيرة كممثل في فيلم "سبعة جلود" مع المخرج خليل المزين وطاقم العمل من الممثلين (نعيم نصر، نضال دامو، مفيد سويدان، رامي السالمي، وبقية الطاقم من ديكورست (عرب، وطرزان) وأهما أخوان فريدان حقاً على المستوى الشخصي والفني، والعديد من أفراد الطاقم الذين كانوا خلف الكاميرا، كي نكون أمامها، والأطفال الذين لعبوا أدوارهم الهامة في الفيلم... نعم لقد أصبت بداء فظيع في تلك الأيام، لقد شعرت بمرض خطير يتغلغل في أنحاء جسدي، وأنا ممعنٌ في تصديق الكذبة. أنا من يشعر بحاجز كبير بينه وبين اللغة العبرية، أصبحت استيقظ لأقول لزوجتي "بوكر توف" حفظت نصوص زملائي وذلك يعود ربما لقصر نصي الذي اقتصر على ثلاثة جمل ربما وبعض الإشارات والكلمات، ولكنني كنت سعيد بها، ووجودي المستمر كشخصية منذ البداية حتى النهاية ضمن دورية الجنود الإسرائيلية كجندي إسرائيلي، جعل وجودي مهماً في معظم مراحل التصوير مما جعل مرضي يتغلغل في داخلي أكثر، وجعل الشخصية أكثر سطوة وقوة!
عبد الفتاح شحادة
ربما حتى الآن لا يستطيع أحد فهم كلمة مما اعنيه، ولكنني سوف أوضح كل شيء، وليحتملني الجميع في هذا السرد الدرامي الذي سوف يأتي: لقد وصلنا إلى مكان التصوير الساعة الرابعة عصراً في أول يوم، كلٌ منا استقبل ملابسه (بدلة جندي إسرائيلي) وخوذته بابتسامة عريضة، أخذنا وقتنا في ارتداء الملابس وتعديلها واشتغلت ذاكرة الممثلين زملائي من كبار السن ليتذكروا تفاصيل ملابس الجنود الاسرائيلين في تلك الفترة، راجعوا الشارات والرتب ووزعوها، حملت أنا جهاز اللاسلكي، ووضعت الخوذة ومنذ وضعتها شعرت بسطوة تلك الملابس على جسدي وروحي، وكانت الكارثة حينما وقعت نظراتي على قطع السلاح، فلم أشعر إلا ويدي تنتقي قطعة M16 ذات الحجم الطويل وهي المستخدمة من قبل الجيش في ذلك الوقت، وهناك انسحبت قليلاً إلى الزاوية تحت ثقل الخوذة، وقدمت هاتفي الخلوي فيما أذكر لنضال داموا الذي التقط لي بعض الصور. وهو يقول "يلعن إلي طرقك طالع من الكُبنية" في إشارة إلى أنني أشبه جندي إسرائيلي إلى حد بعيد، وابتسامة من نعيم نصر تخرج هادئةً، فيما يتقافز خليل المزين "زي الجاجة إلى ع طيزها البيضة مش عارف يقعد" أقول لنفسي، وكل لحظة انظر إلى وجهه الذي اسود على نحو مرعب تحت وطأة حرارة الشمس اللعينة.
حملت السلاح لبضع الوقت ثم خرجنا من الاستراحة حيث استضافنا رجل طيب من الحي الذي كان فيه اللوكيشن، خرجنا معاً 6 جنود وضابط ومشينا في الشارع في صفين متوازيين، ونحن نتحدث ونتبادل أسماءنا الجديدة بلغةِ الآخر، نتقمص بشكل ما شخصية جلادينا، فكل واحد منا الآن يلعب دور الجندي الذي آذاه يوماً، فأنا ألعب دور الجندي الذي ضربني وانا في السادسة من عمري، ضربني كف لن أنساه طوال حياتي، فيما يلعب نعيم نصر دور سجانه، ونضال دور جندي آخر في ذاكرته وإلا من أين لنا أن نكون بهذه القسوة، في تلك اللحظات. لقد منحتنا تلك الألبسة والأسلحة قوة وجبروت وخيلاء لم نكن لنتصورها مطلقاً، انطلقنا عبر الشارع بأسمائنا الجديدة (حاييم، روني، موشي، باروخ، كوبي)
مشهد من التصوير
فيما أنطلق الأطفال ورائي لينعتوني بصوت عالي باسم "شاليط" الجندي الاسرائلي الأسير لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، جعلني هذا الاسم أصاب بالفزع من نفسي قليلاً، ولكنني ما لبثت أن استعدت قدرتي على التركيز تحت سطوة الشمس والغبار، والأفكار المتلاحقة وربما آلام الرأس التي لم تتركني في تلك الأيام حتى في ساعات الليل.
ورغم عدم قدرتي على تحدث اللغة العبرية إلا إنني وجدت نفسي أتابع زملائي الجنود بشكل جيد بل وأذكر بعضهم بنصه أو بمعناه أحيانا، وتحديدا تلك الجمل التي كان يعجبني سياقها ومعناها، قلت لنفسي حينها أن تتكلم لغة تكرهها من أجل دور في فيلم شيء ايجابي اتجاه رغبتك في أداء الدور والمشاركة، ولكن أن تبحث عما تقوله بهذه اللغة، وتحديداً تلك الألفاظ التي تعودنا عليها في أفواه الجنود الإسرائيليين (ألفاظ نابية) هناك بدأت أشعر بسطوة الملابس، الخوذة، شارة شعار الجيش الإسرائيلي (الثعلب) السلاح، أصبت بالفزع وانا أنظر إلى بعض صوري في التي التقطها لي زملائي في موقع التصوير.
ونحن نقف في اليوم الثاني تحت الشمس، وأثناء التصوير مرت امرأة وبمجرد ما وقع بصرها علينا كأن قلبها انخلع، وعلى ما يبدو أنها لم تكن من سكان الحي أو لم يكن لديها علم بأنه يتم تصوير فيلم في هذا الحي، فصرخت صرخة مكتومة قبل ان يخبرها الجميع اننا عرب فلسطينيين نمثل فيلم فابتسمت وهي تسير بخطوات حثيثة غير مصدقة أننا لسنا جنودا إسرائيليين!
رغم أن مشهد كالذي كنا نصوره في تلك اللحظة قد انقرض تقريباً من غزة، فلم تعد تر جنوداً إسرائيليين يستظلون تحت جدار، وكل هذا أصبح من الماضي إلا أن المرأة لم تشك للحظة واحدة أننا لسنا جنوداً إسرائيليين وربما يعود ذلك إلى دقة المخرج وفريق العمل في رسم الشخصيات والبيئة المحيطة والملابس وغيرها... هذا وقد انسحبت شخصية الجندي على حياتي الشخصية، قليلاً، ولكن ليس بشكل مرضي ولا يمكنني ادعاء ذلك، ولكن الدور أعطاني تصوراً حقيقياً لنفسية الجندي الإسرائيلي، فالسطوة التي تحيط به تجعله أكثر وحشية وعنطزة كما نقول بالبلدي، بحيث لا يستطيع أحد صده، فيما كانت سطوة السلاح قد أخذت تتلاشى فوجوده المستمر بين أيدي الممثلين جعل منه ما يشبه العصى، ولاحظت أن أي انفعال تتبعه حركة من اليد وبالتالي حركة من السلاح، ففي أحد المشاهد المؤلمة يمر أعمى من بين دورية الجنود فيقوم أحد الجنود بسحب أجزاء السلاح فيصدر صوت التكتكة المعهودة، فيتوقف الأعمى ويعدل مسار مشيته بعيداً عن الصوت، لكن جندياً آخر هو من يتولى إعادة العملية، فيصبح الكفيف في حيرة من أمره حتى يخرج من الكادر، ففي في هذا المشهد يستخدم السلاح كأداة تسلية بيد الجنود، وهنا يكمن الرعب، عندما تصبح أداة الموت أداة تسلية بالنسبة لشخص ما كما أصبحت أداة التعذيب "الصليب" رمز مقدس بعد ذلك لديانة، فهذا التحويل لاستخدام الأداة جعلني ارتعب حقاً.
نعيم نصر - عبد الفتاح شحادة [موقع التصوير]
أذكر عندما سرنا في دورية كنت أنا آخر جندي فيها وبقية الجنود أمامي، وكنت في الكادر أذكر أنني أصبت بالخوف للحظات، وأعتقد أنني نسيت تماماً في تلك اللحظة أنني واحد منهم!
كل ما حدث معي كان تحت سطوة الملابس وقطعة السلاح فقط! كيف لو كنت تحت سطوة الحقيقة الواقع المرعب؟! سؤال مفتوح على أبواب الموت فالجنود الإسرائيليين تتم صناعتهم تحت سطوة قوتهم وعماء بصيرتهم، فهم يتخبطون بأكوام الفشك تحت بساطيرهم الثقيلة وآلاتهم الحربية المدمرة، كيف يشعر الطيار الذي يدوس البشر بالنيران من فوق الغيم وهو يسير بسرعة الصوت، ويتعامل معنا كأهداف في لعبة فيديو هذا الفيلم أرعبني من الداخل، هذه الشخصية التي عشتها في الأيام السابقة كانت شخصية استفزت كل شر في داخلي... أذكر آخر يوم عندما كنا نتحرر من ملابسنا، قال نعيم نصر لي "ما أبشع شعور الجنود بقوتهم... بعربدتهم" نظرت إليه فأكد ذلك قائلاً "عن جد زي الزفت" نعم كانوا زي الزفت!
* كاتب من غزة