الجنس والعنف لدى أطفال الشوارع

يمثل الجنس والعنف، جناحي الحياة لدى طفل الشارع.. أسلحته التي لا يمتلك غيرها للسيطرة على رغباته الغريزية، وعلاقته بالآخرين.. دائرته المفرغة التي يدور فيها منذ نشأته.. فطفل الشارع يعيد إنتاج الأدوات نفسها التي استخدمت ضده سواء داخل الأسرة أو خارجها، ولكن بشكل أكثر شراسة وقسوة. تبدأ أول خطوة نحو الشارع حين يتعرض الأطفال للعنف والإساءة في المنزل، فيقرر بعضهم الهرب إلى الشارع خلاصا من واقع لا يستطيعون تحمله، ليبدأ ضدهم مسلسل أكثر مأساوية من العنف بكافة أشكاله، فيصبحون عرضة لكل أشكال الاستغلال والإساءة بمجرد أن تطأ أقدامهم الشارع.

ورغم أن هناك عوامل كثيرة متشابكة تؤدي إلى إفراز ظاهرة أطفال الشوارع، مثل الفقر، والبطالة، وانتشار التجمعات العشوائية، وعدم إشباع الحاجات الأساسية للطفل، وارتفاع نسبة الأمية، وانخفاض مستوى النظام التعليمي.. كل ذلك انعكاس واضح للفساد الشامل اجتماعيا واقتصاديا وتعليميا الذي لعب دورا مهما في تفريغ كل المؤسسات من دورها الحقيقي.. إلا أنه يبقى العامل الأهم والأخطر هو عدم استيعاب الأسرة لأبنائها واحتوائهم وتوفير الأمان النفسي لهم الذي يحميهم من أي إحباطات أو ضغوط خارجية، فالتفكك الأسري، والطلاق، وغياب دور الأب، وإيذاء الطفل بدنيا ونفسيا، وتعرضه للتحرش أو الإعتداء الجنسي من الأقارب أو الأصدقاء، كل ذلك يفقده الثقة في الذات والمحيطين به، فيحاول الانضمام إلى مجموعات من الأطفال في الشارع ليكوّن أسرة رمزية بدلاً من الأسرة التي تسببت في إيذائه وعدم إشباع حاجاته، لكن هذه المجموعات الجديدة تستغل الأطفال بدورها وتجبرهم على ممارسات مثل السرقة والدعارة والمخدرات وتجارة الجنس.

أفادت العديد من التقارير والدراسات، أحدثها دراسة قمتُ بإجرائها عام 2010 على (152) طفلا ممن يقيمون إقامة دائمة ويعملون في الشارع، في القاهرة الكبرى.. أن الآلاف من أطفال الشوارع في بلدان كثيرة يعملون على إشباع رغبات الرجال والنساء من البلد نفسه أو البلدان الأخرى، ما ينتج عنه تعرضهم للمخاطر الصحية بما في ذلك الإصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، والأمراض النفسية والتناسلية وإدمان المخدرات، والحمل غير الشرعي لفتيات الشوارع، بما يجعلهم رهائن لواقع مشوه يسود فيه الضعف وفقدان الثقة بالآخرين والإحساس بالعار والنبذ من المجتمع.. كما يحاول هؤلاء الأطفال، شعوريا أو لاشعويا، رد الصاع صاعين للأسرة والمجتمع اللذان فشلا في احتضانهم وتعاملا معهم في الغالب كأنهم وصمة وليسوا بشرا ساهما في تشويهم بشكل أو بآخر، فهؤلاء الأطفال في النهاية نتاج طبيعي لحالة التمزق الفكري والثقافي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي التي تعاني منه المجتمعات.

من السذاجة أن نتصور أن العنف والإيذاء الذي طال هذه الفئة الضعيفة، سيعود بالضرر عليها وحدها أو أننا كمجتمع نتخيل أنفسنا أسوياء يمكننا عزلهم أو تجاهلهم أو التعامل معهم بتعالٍ وفوقية وكأنهم لا ينتمون إلينا.. لأن هؤلاء الأطفال يكبرون وينشأون في أحضان عدائية ويخلقون لأنفسهم مجتمع موازٍ لأنهم يفهمون جيدا أنهم يعيشون على هامش المجتمع الأصلي، ينتظرون فتات المحبة والشفقة والأكل والملابس القديمة، وغالبا ما يكوّنون حيلا دفاعية وأساليب مقاومة بالغة الخطورة ومن الصعب توقعها، فهم إذا تعاملنا معهم كأنهم "فيروس" فإن هذا الفيروس بدء في التحور بحيث أنتج لنفسه وسائل حمايته الخاصة به، ويعرف جيدا كيف يرد على إساءة الأهل أو بعض رجال الشرطة أو الأكبر منهم سنا، الذين استغلوهم ولم يحترموا برائتهم.. من هذه الطرق التي يستخدمها أطفال الشوارع للتعايش والبقاء على قيد الحياة، والانتقام لأنفسهم، ما يلي:
1.كلما ارتفعت درجة العنف والإساءة ضد هؤلاء الأطفال، ارتفع لديهم العدوان بكل أشكاله، كما أنهم يظهرون منظومة معقدة من السلوكيات الاجتماعية التي تشير إلى ضعف التحكم في النفس والقابلية لتشتت الانتباه والانفعال السلبي. وتصل هذه العدوانية إلى حد القتل أو الجرائم الهجومية، و44% من المشردين الذين تعرضوا للإساءة ارتكبوا جرائم عنيفة. كما أن الأطفال الذين يتعرضون للإساءة، خصوصًا الجنسية منها، يكنّون داخلهم نزعة عدائية كبيرة تجاه الذات (تعاطي المخدرات، وإيذاء الذات، وأحيانا الانتحار، شم الكلة)، وأيضًا نزعة عدوانية تجاه الآخرين، وتخريب الممتلكات العامة، والشجار الدائم مع الأقران، والاعتداء الجنسي على الزملاء الأصغر سنًا، والسرقة، والانضمام للعصابات والجماعات الإجرامية وغيرها من صور العدوان التي ينفس بها الطفل عن الإساءة التي وقعت عليه غالبًا بالإكراه من دون احترام لمشاعره، وهو ما يدق ناقوس خطر علينا الانتباه إليه.

2.الحيلة الدفاعية الأكثر خطورة التي يستخدمها هؤلاء الأطفال، هي أنه كلما زادت الإساءة (خصوصا البدنية والجنسية) ضدهم، ارتفع لديهم تقدير الذات! وكانت تصوراتهم عن أنفسهم إيجابية. وهي تبدو حيلة جديدة لديهم ابتكروها للتغلب على واقع مزر وغير إنساني يعيشونه، خصوصا أن المتنبأ به في ضوء نتائج معظم الدراسات أن تكون لمعاناة الطفل عمومًا من العنف والإساءة آثار نفسية بالغة في كل جوانب حياته وعلاقته بذاته والمجتمع المحيط به، الأمر الذي قد يصل أحيانًا إلى حد الانتحار. إلا أنه يبدو أن الإساءة الجنسية بالنسبة لهذه الفئة (أطفال الشوارع) أصبحت أمرًا معتادًا، بل أكثر من ذلك مثيرًا للذة، إذ أنه مع استمرار الممارسة قد تحول إلى إشباع لاذ، والنشوة الجنسية هنا خرجت من كونها إساءة إلى اعتبارها أسلوب حياة، واستراتيجية بقاء، ووسيلة للحصول على معظم حاجات الطفل الأساسية، بالإضافة إلى كونها منتشرة وشائعة بين كل أطفال الشوارع، الأمر الذي يقلص لدى ممارسها الإحساس بالعار أو الخجل، فجميعهم يفعلون الفعل ذاته، وبالتالي هم مصدر التقييم لبعضهم بعضًا، فمن أين يأتي تقدير الذات المنخفض على الأقل ظاهريا؟! كما أن الطفل الذي يتعرض للإساءة بشكل لا يمكنه الرد عليه أو الابتعاد عن المحيط المسيء له أو من جانب أشخاص يصعب عليه مواجهتهم أو الدفاع عن نفسه أمامهم، يحاول أن يشعر نفسه والمحيطين به بأنه من القوة والصلابة النفسية بحيث يتجاوز بسهولة هذه الأشكال من الإساءة، ويكون ذلك من خلال العدوان، أو منح نفسه نوعًا من التقدير والقيمة غير الحقيقية أو غير المعبرة عن الواقع النفسي والاجتماعي، وهو ما يطلق عليه "تقدير الذات الزائف"، الأمر الذي يخفض لديه الشعور المؤلم بالقلق والكآبة جراء الإساءة.. وهذا سلوك خطر جدا لأن هذا الطفل لم يعد يعنيه تقييم المجتمع له، ولا طرده خارجه، ولا الوصمة التي لصقها به، وبالتالي يتصرف وكأنه الأقوى وعلينا أن نحذره! الأمر الذي يجعلنا نتسائل أيضا: هل المجتمع في حاجة لمشكلات وإخفاقات تضاف لاخفاقاته حتى نبتكر عدوا من أنفسنا ندور معه في حلقة لانهائية من العنف والعنف المضاد؟!

د. رضوى فرغلي

معالجة نفسية