فضاء الرأي

جسر البوعزيزي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

غالبا ما كان الاستقلال الوطني في البلدان العربية ضربا من الانتصار على الاستعمار والهزيمة امام التخلف. كان الاستقلال اشبه بتسديد ضريبة الحاضر لضمان اسلاب الماضي. شكل حديث للحفاظ على جوهر قديم. تذهب القدم الاجنبية وتخلفها غيلان محلية. تنتهي قيود خارجية وتبدأ سجون وطنية. ننهض من كبوة ونتدحرج في هاوية. تكاد تكون هذه هي سيرة جمهوريات التحرر الوطني العربية من الجزائر غربا الى العراق شرقا.
تونس وحدها تفردت بسيرة مخالفة. فقد اهتمت بعصرنة نفسها بالقدر نفسه الذي اهتمت فيه بالاستقلال. ويعود الفضل في ذلك لشخصية الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهورية التونسية واول رؤسائها. وهو رجل لا يوجد فيه الا القليل جدا من الشبه بنظرائه العرب. وكانت" علمانيته" الصريحة ابرز وجوه تميزه: " يظن البعض ان العلمانية هي التنكر للدين. ولكنها بالنسبة الي هي ان يصبح القانون التونسي من وضع الرجال وليس من وحي الأديان". هذا ما قاله في فجر الاستقلال عام 1956 .
وعلى ما يبدو فان هذه الرؤية ليست هي اعمق وجوه نظرته الى الدين و دوره في المجتمع. قال بورقيبة يوما لوزير خارجيته محمد المصمودي ان لديه مع الباري عز وجل شيئا يشبه رهان باسكال. وخلاصة هذا الرهان ان المؤمن سيكون رابحا اذا ثبت وجود الله وانه لن يكون خاسرا اذا ثبت العكس. اما رهان بورقيبة فهو انه " اذا كان الله موجودا فلابد ان يكون راضيا عني، واذا لم يكن موجودا فأنا راض عن نفسي"!
في "مذكرات الأمل" كتب شارل ديغول " ان بورقيبة رجل عرف دائما كيف يكون في المواعيد التي ضربها له التاريخ". ولأن الرجل كان بطريقة او اخرى تونس نفسها فقد وصلت بلاده الى مواعيدها مع " الحداثة" في جوانب مهمة مثل: تحرر المرأة، التعليم، الاستقلال. عام 1956 وعندما لم يكن الاستقلال الوطني قد انجز، وعندما لم يكن خروج القوات الفرنسية من تونس قد اكتمل بعد، اصدر مجلة الاحوال الشخصية، التي حظرت تعدد الزوجات ومنعت الطلاق خارج المحكمة. كان ذلك بمثابة ثورة اجتماعية نلمس نتائجها الى اليوم في حجم المرأة بين القوى العاملة في البلاد. وهي مشاركة تزيد على الربع.
حدث امر مشابه لذلك في التعليم الذي عمل على توحيده وعلى عصرنته. ولسنوات طويلة خصص ثلث ميزانية البلد للتعليم، وكان هذا ومازال امرا فريدا من نوعه. وبسبب ذلك تتمتع تونس بارقى مستويات التعليم في العالم العربي.
خارج اطاره المحلي ضرب بورقيبة للعالم العربي موعدا مع التاريخ، عام 1965، في خطاب اريحا الشهير الذي دعا فيه الى قبول القرار الدولي 181 ، وهو القاضي بحل الدولتين، وكانت مساحة الأرض الفلسطينية الموجودة بعهدة الدول العربية، وهي القدس والضفة الغربية وغزة، اكبر من مساحة اسرائيل ذلك الوقت. يومها، وبدل الاستجابة الى الموعد، هاجت عليه" الأمة"، وعدوة الأمة معا: غولدا مائير قالت فيه بعد خطابه ذاك" انه الأكبر خطورة من جميع اعدائنا".
لكن بورقيبة تخلف عن الموعد الذي ضربه له التاريخ مع الديمقراطية. هذه خطيئته الكبرى. لقد تحققت لتونس في ظله شروط اجتماعية وتعليمية كافية للوصول الى الديمقراطية. بل ان شخص بورقيبة نفسه كان اهم هذه الشروط، فلو تزعم الحركة الديمقراطية وهو من هو في بلاده لنجحت بكل تأكيد. ولعل كل زائر " ذي نظر" الى تونس في اي عقد من العقود الاربعة الماضية يستشعر بطريقة او اخرى نضجها للديمقراطية.
والذي حدث ان الرجل عين نفسه عام 1975 رئيسا مدى الحياة. وقد وضع ذلك" نهاية رسمية" لمواعيد تونس مع التاريخ. والواقع ان سيرة النكوص هذه بدأت عام 1967 مع اول ذبحة قلبية اصابت بورقيبة. فمنذ ذلك الوقت اصبح " جوهر" السياسة و" كد " الساسة يتركز على موضوع الخلافة. لقد هرم رجل تونس الذي ولد مع مطلع القرن العشرين. وفقد القدرة على المبادرة ونام نومته التي لم يفق منها الا بعد اخراجه من السلطة عام 1987 بسبع شهادت طبية تؤكد فقدانه القدرة العقلية والصحية على ادارة البلد.
مع وريثه زين العابدين بن علي فقدت تونس طعم القائد والرمز و" الشخصية". وامسى" التاريخ" فيها عاطلا عن العمل. المؤسس جاء من الفكرة. والخليفة جاء من الشرطة. كان فاصلا طويلا مملا ومخجلا. لقد ظل لسلفه طعم حتى خلال اقامته الجبرية وهو يقترب من عامه المائة الذي مات فيه. ذات يوم جاء الرئيس بن علي الى " اسيره" الرئيس المخلوع بورقيبة، وقال له، بين الجد والهزل، ان زوجة السياسي المعروف صالح بن يوسف، عادت الى البلاد وهي تنوي رفع دعوى للقضاء ضد بورقيبة بتهمة قتل زوجها. ويبدو ان ذهن الزعيم كان لايزال قادرا على اجتراح لمعة، اذا ما وجد نفسه محصورا أمام ظلمة، فقال لبن علي: لابأس فلتشتكي وانا لدي سبع شهادات طبية بالجنون!
في المقابل ليس للتاريخ على ما يبدو حكاية تستهويه في الخلف. لحظة توليه عام 1987 كان عزل السلف المريض هو القصة، وكانت ناس تونس في تلك اللحظة" تبكي وتقول حمد الله مشى". وفي لحظة خلعه كان البوعزيزي وكانت انتفاضة تونس هي القصة. وما ابرده وامسخه وهو يقول في كلمته الاخيرة " غلطوني". كان بن علي فاصلا طويلا ومملا.
ان الكثير من مجد تونس بورقيبة يعود الى سباحتها ضد التيار. وكان في غير قليل من ذلك الكثير حكمة بينما كان التيار العربي الغالب من حولها تدافعا من حمقة وراء حمقة. كانت تونس " نهضة" وكانت الدول من حولها " ثورة". وكانت لغزا حاصرتها الريب والشكوك من كل صوب. ولذلك لم تعبر انوارها الى محيطها كما فعلت كلمات شاعرها ابو القاسم الشابي. اليوم تفعل. اليوم هي في الموعد الذي ضربه التاريخ لها مع الأمل. والعرب جميعا مأخوذون بها. لقد جعل البوعزيزي حتفه جسرا الى الاحساس والروح والتاريخ، او الى ما يوجز بكلمة، ويا لها من كلمة: "الحريةّ"!
هل ستعبر تونس جسر البوعزيزي؟ أنظار العالم العربي اليوم جميعا مسلطة على هذا الجسر. في هذه اللحظات يموج هذا الجزء الحزين من العالم بأشواق اللقاء مع التاريخ. السجناء متلهفون والسجانون مرتعبون. انه رهان تونس.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
جسر بورقيبة
قيس حسن -

بورقيبة في السلطة كان ، متفردا ، اصيلا ، وشجاع ، كان عاقلا في عصر الجنون ، وواقعيا في زمن الثورية ، و مدنيا متحضرا في بلاد الجهل والحمق ، لكنه فشل بامتياز في اختبار ; التداول السلمي للسلطة ; وبدا امامها ، جبانا ، متكررا ، وسطحيا ، لم يؤمن بها ليس زهدا بها بل احتقارا لها ، رمي خارج السلطة وفوق راسه سبع شهادات تثبت جنونه لا سبع شهادات تتغزل بحكمته ، ماذا لو فتح بورقيبة صندوق الاقتراع ؟ هل كانت نيران البو عزيزي قادرة على حرق نظامه وخليفته معا ؟ لقد احرق بورقيبة كل جسور الثقة بالحكام العرب حتى اولئك الذين تفردوا بالحكمة ، الا يرقد الطاغية الشرقي في اعماق اكثر حكامنا عبقرية ؟ في ترك السلطة لم تكن رقبة بورقيبة طويلة . شكرا لك يااحمد المهنا قيس حسن

مبروك تونس
عيسى النابلسي -

ان تونس هي شمعة الامل لدى الشعوب الاخرى،اني اويد الكاتب فيما قال والحقيقة ان تونس احسن حالا من الدول العربية الاخرى، وقد كانت السباقة للتحرير فالف تحية لشعب تونس العظيم، رحل الديكتاتور ومتى سيرحلوا ديكتاتوريات العرب في سوريا ومصر واليمن والقائمة تطول؟؟

عندنا يستحيل
عربى مقهور -

عند جميع امم الأرض عندما يفشل المسؤول فى تحقيق اهداف الشعب ينسحب ويترك المجال لغيرهحتى لو كان بعظمة الجنرال ديجول الذى حرر فرنسا وجعلها فى مصاف الدول العظمى اما عندنا فأصغر حاكم هو الرجل التاريخى لكل زمان ومكان حتى لو جاع الناس فى عهده حتى لو هزمت بلاده شر هزيمة يظل البطل المغوار فى كل الدنيا المسؤول الذى يفشل يستقيل اما عندنا فيستحيل

مبروك لتونس
عدنان الجبوري -

يعيش الشباب التونسي الذي اشعل الثورة واطاحة بالدكتاتور ...مبروك لهذا الشعب البار انا اريد ان اعلق فقط على المبادئ والافكار التي جاء بها ابورقيبة الاول لا الثاني وبخصوص القرار الدولي 181 في الحقيقة انة رجل عصرة لم ياتي رجل بشجاعتة هذا الذي فهم الوضع وقال يجب الاعتراف بالقرار181 ولكن للاسف العربان لم يفهموا اللعبة الدوليةوقالوا فلسطين من النهر الى البحر اما الان اليهود يسحفوا من متر الى متر وسوف لاتقوم قيامة الى فلسطين ولم تقم دولة فلسطين التي نادى بها العربان واتمنى ان اكون خاطئ عندما ينادوا اليهود في السر والعلن سوف تكون اسرائيل من البحر الى النهر اللة يرحمك ياابورقيبة ومرة ثانية مبروك لااحباءنا التوانسة