تونس... شعب صغير يصنع الثورة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
(لا شعر بعد اوشفيتز)... أدورنو
إلى روح الزميل: صالح بشير
ما يجري في تونس هذه الأيام هو حدث تاريخي بامتياز ليس بالنسبة للشعب التونسي فحسب، وإنما لإقليم واسع في هذه المنطقة العربية التي تغص بأنظمة ديكتاتورية باتت هي المنظومة الأخيرة في العالم تقريبا. فبعد سقوط الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية، وشرق أو ربا وبعض الدول الأفريقية، تبدو هذه الثورة التي تجري الآن في تونس، بداية النهاية لذلك الانسداد التاريخي الذي أعاق ومازال يعيق هذه المنطقة العربية عن أن تكون جزءا من العالم الحديث سياسيا. صحيح أن هناك أسبابا ذاتية وموضوعية لعبت دورا كبيرا في هذا التحول الفريد الذي وقع في تونس، لكن الصحيح كذلك هو أن هذا الحدث أجرى قطيعة كبرى مع العديد من الأساطير والسرديات السياسية التي عششت في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا ؛ كتلك الأسطورة التي أسست لها أدلوجة مبنية على قياس فاسد مفادها : إن هذا الانسداد الذي يلف العالم العربي ويخنقه بالأنظمة الديكتاتورية إنما هو أفضل وضع للسلم والأمن العالمَيين بالنسبة للغرب، قياسا بما يمكن أن يأتي في حال تفكك هذه الأنظمة : الفوضى أو الإسلاميون. لكن ما يجري في تونس حتى الآن دل على إمكانية الطريق الثالث ؛ فما يجري الآن في تونس هو حكاية شعب أصبحت له قدرة حقيقية على الإمساك بمصيره السياسي عبر طبقة وسطى متميزة، ونخب سياسية وقانونية ناشطة في نسيج هذا الشعب ظلت تمنحه باستمرار القدرة على الفرز والوعي والسعي من أجل تحويل تطلعاته إلى مكاسب ملموسة ومنضبطة في أطر سياسية تجعل من ذلك التدفق العفوي للثورة مترجما عبرها.
لزمن طويل، وبفعل تراكمات معقدة ومتصلة ببنية التخلف الذي يضرب هذه المنطقة لقرون طويلة، كان ثمة تصور غامض لدى الكثير من المفكرين يهجر اليقين بخصوص التحولات الثورية التي يمكن أن تنتجها مفاهيم مثل الحداثة والتنوير والديمقراطية في مستقبل هذه المنطقة ؛ بحيث يكون لها القدرة على إنتاج ثورة حقيقية ؛ لأسباب كثيرة ومعقدة منها : الفوارق الواضحة اليوم في صورة حياة وعالم لم يعودا بتلك الشروط التاريخية التي أنتجت الحداثة والثورة الفرنسية في أوربا لأول مرة.وبسبب أن هذه المنطقة المعنية في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا هي في جوهرها جزء من العالم القديم في تصوراته وعلاقاته السياسية. لكن ما حدث في تونس أبطل هذه التصور الاحترازي لدى أولئك المفكرين من ناحية، وكشف عن تهافت تلك السردية الباطلة التي تسوق لها الأنظمة العربية في الغرب من ناحية ثانية.... والسؤال هو : كيف يمكن في ظل ظروف معقدة في منطقة المشرق العربي للعديد من الأسباب، ليس اقلها تلك البلبلة التي يعكسها الإعلام وقنوات التلفزة بطريقة تجعل من المواطن العربي مشوشا (لبنان نموذجا) ؛ كيف يمكن إعادة إنتاج مشروع الثورة التونسية مرة أخرى في منطقة المشرق العربي ؟ بالرغم من الكلام الكثير الذي سال في الإعلام والصحف عن إمكانية نقل الثورة التونسية إلى مناطق أخرى في المنطقة العربية بطريق العدوى، وما أطلقه البعض من حماس ساذج لنقل الثورة عبر البث المباشر ؛ إلا أن ثمة احترازات موضوعية لا تتوقف فقط عند تلك البلبلة التي يمكن أن تنعكس في وعي الناس من أثر الملتيميديا (الإعلام المتعدد) وما تضخه من تشويش وحيرة ؛ بل وكذلك ترتبط في العمق بقضية الفرق الواضح بين تونس وبقية البلدان العربية الأخرى. فإذا سلمنا بحظ تونس في بعدها عن الملفات العالمية الثلاثة في منطقة المشرق العربي (النفط ـ الإرهاب ـ أمن إسرائيل) وكذلك خلوها من الطوائف (مثل تلك التي في لبنان) ومن القبائل (مثل تلك التي في اليمن والخليج) فإن في تونس ـ وهذا هو الأهم ـ أدلوجة للتميز جعلت من هذا الشعب أكثر افتتانا بذاته ونخبه ومكاسبه التي حصل عليها في التعليم والمرأة من محيطه الخارجي في المنطقة ؛ هذه الثقة الواعية بالذات وبالمكاسب التي حق لتونس أن تفاخر بها هي التي جعلت من إحساس هذا الشعب بذاته أكبر بكثير من مؤثرات الملتيميديا، سواء تلك التي كان يبثها النظام أو تلك التي تبث في الخارج. هذا شعب أدرك فرادة قدراته ومكاسبه التي يتميز بها عن أقرانه ومن ثم أصبحت له القدرة على الإمساك بالمصير السياسي. وهذا تحديدا ما يمكن أن تفعله الطبقة الوسطى. ومثل هذه الأدلوجة تعتبر آيدلوجيا إيجابية (فليس كل مفهوم للآيدلوجيا مفهوما فاسدا بالضرورة) ففي المجال الذي يتعلق بصناعة الهوية الوطنية عبر تأسيس متخيل جماعي مشترك ينطلق من مكونات وحقائق تاريخية للأمة يمكن لمثل هذه الآيدلوجيا أن تلعب دورا كبيرا في توجيه الإحساس الوطني نحو التغيير والثورة ؛ لأن الحماس والشعور الوطني الذي تضخه الآيدلوجيا الوطنية والتاريخية لأمة ما سيكون في هذه الحالة ذا طابع كلي يخترق جميع أفراد الأمة من أجل خلق لحمة متماسكة للهوية الوطنية الجامعة. ولهذا فإن الحدث الذي وقع في تونس سيعيد لنا تعريفا سياسيا مقلوبا لمفهوم الطبقة الوسطى فنحن هنا نتعرف عليها بآثارها، لا عبر التصورات المنقولة عن الغرب تلك التي شاعت في أطروحات اليسار العربي في ستينات وخمسينات القرن الماضي حيث اكتشف الجميع بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وزوال نظام القطبين وثورة الأنفوميديا أن ما كان يطلق عليه آنذاك (بالبرجوازية) في المجتمع العربي لم يكن سوى طبقة من (الكمبرادور) وصغار التجار والوكلاء. وهذا سيحيلنا بالضرورة إلى محاولة الحفر في المعادلات الموضوعية الخاصة بكل بلد عربي على حدة، ضمن الاندراج في الحاجة إلى ثورة مثل تلك الثورة، ومن ثم فإن الرهان على الطبقة الوسطى وتأمل حيثيتها في التحولات النسقية التي تجري في المشرق العربي ربما كان هو الأجدر بالتأمل. يمكننا أن نصنع انتفاضة، فقد حدث ذلك مرتين في السودان (في الحالة الثورية بأكتوبر1964 وانتفاضة إبريل 1985) لكن ما منع من نجاح التجربتين هو غياب طبقة وسطى فاعلة، ونخب سياسية لها القدرة على اجتراح برنامج وطني مشترك لكل القوى السياسية، يستجيب للتحديات الحرجة التي تطرحها مرحلة الانتقال الديمقراطي ؛ وهذا ما استجابت له الثورة التونسية وبدت مدركة له تماما ؛ من خلال التظاهرات المستمرة والمطالبة بحل حزب التجمع الدستوري وتغيير الطبقة السياسية الفاسدة برمتها. إذن فرسالة تونس لشعوب المنطقة تتلخص في مجملها في كسر حاجز الخوف من ردود فعل الدكتاتوريات العنيفة إزاء أي تحرك حر للشعب وكما قال المفكر الألماني الكبير فالتر بنيامين (لا شعر بعد أوشفيتز) كذلك (لا خوف من الدكتاتور بعد تونس) وما حدث مرة يمكن أن يحدث مرات كثيرة.
Jamei67@live.coml
التعليقات
الفرق بين
نائل -الفرق بين التجربة التونسية والعراقية هي مسالة الحداثة . فتونس بحكمة بورقيبة صنعت واسست لمفاهيم عصرية حديثة كنشر التعليم ومحو الامية وصيانه حقوق المراة . وفي بلد مثل العراق ويرغم الانقلابات الثورية اليسارية والقومية والبعثية الا ان مسائل التعليم وحقوق المراة وتحديث المجتمع لم يتم تطويرها على الاطلاق .واليوم وبعد خروج العراق من اعتى نظام دكتاتوري بوليسى وهونظام صدام حسين نراة يسقط في حضن نظام رجعى طائفي متخلف معاد لكل مفاهيم الحداثة التى يراها اكبر خطر يواجهه فلذا نرى هذا النظام الطائفي يمارس نفس سياسة صدام في الانغلاق ومحاربة التفتح الاجتماعى ويحارب توسيع فضاءات الديمقراطية والنشاط الاجتماعى ويحارب توسيع قاعدة حقوق المراة ويضيق على ممارسة النشاطات االفنية والاجتماعية .
شكرا على التصحيح
محمد جميل أحمد -شكرا أستاذ عبد القادر الجنابي على تصحيح اسم صاحب المقولة. محمد جميل