أصداء

نعم للانتفاضات.. حذار من الثورة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أجمل وأعمق ما قرأته في نقد فكرة الثورة كان مقالة للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، عنوانها "أسطورة القرن العشرين". حسب الشاعر والمفكر والدبلوماسي المكسيكي فإن "الثورة" قد تحولت في القرن العشرين إلى بديل عن الأسطورة وعن الأديان، في وعي الكثيرين ولا سيما المثقفين. يلتقط أوكتافيو باث بذكاء نقاط التشابه بين رؤية الثوريين إلى مفهوم الثورة، وبين رؤية المؤمنين إلى عقائدهم الدينية. ويصف كيف تحولت فكرة الثورة من وسيلة للتغيير إلى عقيدة سامية وهدف في حد ذاتها، يتغنى بها الشعراء والفنانون وتـُقدم على مذبحها القرابين البشرية.

عندي رغبة أن أعيد قراءة تلك المقالة العميقة في هذه الأيام. لكن الكتاب ليس بمتناولي الآن، وما أحوجني وأحوجنا إليه في هذا "العهد الثوري" الجديد الذي أطلّ علينا. انتفاضة تونس، التي أعادت البلاد إلى أهلها، وفتحت أبواب الأمل للشعوب العربية الأخرى، أعادت للثورة وهجها الذي ظننا أنه قد انطفأ. وبين ليلة وضحاها عادت أناشيد الثورة لتملأ آذاننا، هذه المرة من شاشة الكمبيوتر، على مواقع الفيس بوك واليوتيوب. حتى أكثر الناس محافظة وواقعية أصبحوا لا يستطيعون التخلف عن التيار الثوري الهادر، وهكذا رأينا صحفاً ومحطات تلفزة ومواقع انترنت عربية، كانت ترى حتى في دعوات الإصلاح فتنة من الأسلم تجنبها، وقد باتت الآن تردد شعارات الثوار وتبشر بالعهد الثوري القادم.

***

بعد عام من وصولي إلى هولندا منتصف التسعينيات، تابعت دروساً مبسطة في التاريخ الهولندي. وفي الدرس الأول واجهتني "صدمة" لم أستوعبها. كانت تلك الصدمة هي اسم أحد أهم الأحزاب السياسية في التاريخ الهولندي الحديث: "الحزب اللاثوري"، أو "المناهض للثورة" ( Anti-Revolutionair). كيف يمكن لحزب أن يصف نفسه علناً بأنه مناهض للثورة؟ وكيف يصوت الناس لحزب كهذا؟ لم أستوعب الأمر، أنا القادم من ثقافة كانت مفردة الثورة فيها مقدسة، واللاثورية شتيمة وتهمة خطيرة. زاد استغرابي حين فهمت أن المقصود بالثورة التي يناهضها هذا الحزب هي الثورة الفرنسية. هل هناك من يجرؤ على إعلان أنه ضد "الحرية والأخاء والمساواة"؟

هذا الحزب الهولندي كان من أكبر أحزاب البلاد، قاد الحكومات أو شارك فيها منذ تأسيسه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى حله في عام 1980. وهو في الحقيقة لا يزال يحكم هولندا حتى الآن، بعد اندماجه في الحزب الديمقراطي المسيحي. ولعل من المفارقات أن هذا الحزب هو الذي نجح مبكراً، في عام 1917، في إقرار قانون الاقتراع العام، الذي منح جميع المواطنين الذكور حق التصويت، بينما كان الحزب الليبرالي يعارض ذلك، ويقصر حق التصويت على الأغنياء من دافعي الضرائب. الحرية والأخاء والمساواة إذن ليست بالضرورة مبادئ "ثورية". ربما على العكس من ذلك، إنها مبادئ "لاثورية".


***

تجارب القرن العشرين العديدة في القارات الخمس أظهرت بالفعل أن الحرية والأخاء والمساواة هي أولى ضحايا الثورة. وأن الحرية والأخاء والمساواة، هي بخير كلما كانت بعيدة عن متناول الثورة والثوار.

لنترك القارات الخمس وتجاربها الثورية الدامية، ونتائجها المرعبة، وننظر فقط إلى عالمنا العربي. انظر إلى أي بلد عربي حلت عليه لعنة الثورة وكيف خلفته قاعاً صفصفاً وخراباً بلقعاً. قد يقول البعض: وهل حال البلدان العربية التي ظلت بمنأى عن رياح الثورات أفضل؟ أقول: أجل هي أفضل، ولنقارن بين أي بلدين جارين في مشارق العرب ومغاربهم، أحدهما شرب من كأس الثورة، والآخر ظل صاحياً.. ولا حاجة لتسمية السكارى والصاحين بأسمائهم.

***

من بين الجمهوريات العربية هناك جمهوريتان فقط لم تشربا كأس الثورة حتى الثمالة: لبنان وتونس. لبنان ابتليت بداء مختلف، فهي جسد بعدة رؤوس، وقد تسربت خمرة الثورة إلى مفاصل الجسد وأشعلته حروباً أهلية، وثورات جزئية تعشعش هنا وهناك: في مخيمات اللاجئين، ومعسكرات المقاومة، ومعاقل هذا الحزب أو ذاك.
تونس أخذت من الثورة جرعات قليلة لا تكفي للسكر. ظلت في حالة نشوة، بين الصحو والسكر لستة عقود ونصف. ربما كان هذا سر تفوقها، وربما هو أيضاً سر "ثورتها" المفاجئة، وسر حيرتها الحالية: هل ستأخذها هذه الهبة نحو سكر "ثوري" شامل أم نحو صحو "ديمقراطي" كامل؟

***

تجربة تونس "البورقيبية" فريدة من نوعها. ليس عربياً فقط، بل على مستوى دول ما بعد الاستعمار. حزب ليبرالي غير ثوري ولا شمولي في طبيعته وأفكاره، يحكم بأسلوب الأحزاب الثورية. لم يستعر مؤسس تونس الحديثة، الحبيب بورقيبة، وحزبه الدستوري من الأحزاب الثورية شعاراتها، ولا ولعها بالحروب اللفظية والفعلية، لكنه استعار منها آلية الحكم: كبت الحريات وقمع المعارضين، وعبادة الشخصية. آلية حكمه المستعارة من الثوريين خلفت حاكماً مسخاً زاد في الكبت والقمع وتأليه شخصه، واضاف إليها الفساد والسرقات والاحتكار. لكن في المقابل فإن العهد البورقيبي وإخلاص زعيمه لمشروعه النهضوي وفكره الليبرالي خلف دولة ناجحة بكل المقاييس. ناجحة حتى في قدرتها على التخلص من المسخ الذي أورثه إياها الزعيم الأول.

***

التفوق الذي يحق لتونس أن تتباهى به (في التعليم والصحة والعمران وحقوق المرأة والتنمية والسياحة) إنما يعود لجرعات العقلانية واللاثورية البورقيبية. الفشل في مجال الديمقراطية والشفافية إنما يعود لجرعات الثورة التي انتشى بها بورقيبة وأورثها لوريثه.

تونس الآن على مفترق طريقين. المزيد من خمرة الثورة أو المزيد من صحوة الانتفاضة. لحظات الزهو والانتشاء الثورية لذيذة وممتعة. وقد تدفع أصحابها إلى المزيد والمزيد منها. وقد يجد المنتشون أنفسهم سكارى بخمر الثورة حتى أنهم لا يستدلون على مقصدهم، وحينها يستطيع أي مغامر أن يدعي أنه يعرف الطريق فيتبعونه.. كما فعلت شعوب سكرى قبلهم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف