الدبلوماسية تحويل العدو إلى صديق (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
خلق الإنسان، ليعمر الكون، وترافق خلقه، بعقل يجمع الذكاء الذهني، مع الذكاء العاطفي والاجتماعي والروحي، لذلك، بقدر ما يفكر ويبدع العقل البشري، بقدر ما يتواصل ويتعاون مع أقرانه، بروحية إنسانية، وبعاطفة تجمع التوازن بين الحب والغيرة والغضب. وحينما تفقد هذه العاطفة اتزانها، تتحول لانفعال غضب مدمر، لتبدأ حلقات صراعات دامية، وكم عانى تاريخ البشرية من حلقات متكررة من الصراعات والدمار!! ومع أن الغرب الأوربي كان مسرحا مزمنا لحروب دامية، ولكنه بدأ في عام 1815 بمحاولة جادة لوقف الحروب النابليونية في مؤتمر فينا، لتتطور، بعد دمار حربين عالميتين وحرب باردة، لمنطقة تفاهم وتعاون، ولوحدة اقتصادية، بل ولاتحاد أوربي. كما تطورت التجربة الأمريكية في منتصف القرن الخامس عشر، بتجمع ممثلين لقبائل الايروكويس المتناحرة، لتشكيل وحدة كنفدرالية، حققت السلام لأكثر من ثلاثة قرون، لتليها صراعات الهجرة الأوربية، التي انتهت بإعلان الاستقلال من الاستعمار البريطاني في عام 1776، ووحدة الولايات في كونفدرالية دولة عظمى. ويبرز هذا التاريخ أهمية الدبلوماسية في ترويض العداء الجغرافي السياسي، والذي استوعبه الرئيس أوباما، لمعالجة علاقات بلاده المتخلخلة مع حلفائها، وللتعامل مع أكثر الصراعات تشابكا في العالم، وليعبر عنها بقوله: "فقد جرب الأمريكيون الحرب الأهلية، والوحدة التي تلتها، ولا يمكنهم إلا أن يعتقدوا بأن الكراهية القديمة ستنتهي يوما ما، والحدود بين القبائل ستنمحي، ومع صغر العالم، ستبرز الإنسانية وجهها الحقيقي، وعلى الأمريكيين أن يلعبوا دورهم في عصر السلام الجديد." ويبقى السؤال لعزيزي القارئ : هل تحتاج دول الشرق الأوسط الكبير لتجمع إقليمي، ينهي بيئة الصراعات، ويهيئها شعوبها للتعامل مع تحديات العولمة، بتطوير سوق اقتصادية إقليمية، تغذيها منتجات قاعدة صناعية مشتركة، لتخفض معدلات البطالة، وتحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة؟ وهل فعلا يمكن تحويل أعداء الأمس لرفقاء المستقبل؟ وما دور الدبلوماسية في ذلك؟
ناقش أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية، البروفيسور تشارلز كوبشان، في محاضرة بمؤسسة ساساكاوا للسلام، بمدينة طوكيو في شهر ديسمبر الماضي، كيف يصبح الأعداء أصدقاء. ويعتقد بأن الدبلوماسية هي عملة السلام، والتي تعتمد على التنازل، والاعتراف بالآخر، واحترامه، وتفهم ظروفه، ليعزز بذلك التكيف، والتوافق الاستراتيجي، اللازمين لتبادل الثقة لخلق مجتمع دولي مسالم. ويحتاج تحول حالة اللاحرب إلى استقرار، يقبل كل طرف بقاء الآخر، ويتبعه تقارب وعلاقات ودية، ومجتمع أمن، يهيئ لتعاون اقتصادي، وود اجتماعي، لتنتهي بالوحدة. ويعتمد كل ذلك على دبلوماسية تعتبر التعامل مع الأعداء وسيلة مهمة لإنهاء العداء المزمن المترافق بالعزلة والتطويق، وتغيرها للحوار والتكيف والمواءمة، وبقدر ما تكون المهارات الدبلوماسية متمكنة، بقدر ما تستطيع أن تحول أعداء الماضي لأصدقاء المستقبل، في الظروف المناسبة. كما تبين تجارب التاريخ بأن الديمقراطية ليست شرطا لتحقيق السلام بين الدول، بعكس الفكرة الشائعة في الغرب، فالحكومات الفردية يمكنها أن تحقق شراكة مستمرة مع بعضها، ومع الدول الديمقراطية، لذلك، على الولايات المتحدة أن تحدد علاقاتها مع الدول حسب طبيعة سلوك سياساتها الخارجية، وليس على أساس نظامها الداخلي. وتبدأ المصالحة والتسوية السياسية، قبل التداخل الاجتماعي والتعاون الاقتصادي، فبعد ترويض المنافسة الجغرافية السياسية، يدعم التداخل الاقتصادي السلام، فالدبلوماسية، وليست التجارة، هي عملة السلام. ويقسم البروفيسور آلية السلام لأربع مراحل، تبدأ بالمواءمة من طرف واحد، تتبعها التوافق من الجهة المقابلة، وتجمعها أمل الشراكة، لتبدأ مرحلة تبادل ضبط النفس، وتقييم كل طرف حوافز الطرف الآخر، لغرس الثقة وبدأ التعاون المبرمج، لتتحقق مرحلة التالف الاجتماعي، باختلاط الشعبين وإعجاب كل منهما بمميزات الآخر، وتكتمل المرحلة النهائية بتعمق هذا التالف والتكامل الاجتماعي، لتتولد هوية عامة، تشرع مؤسسات مشتركة للحكم، وتهيئ الطريق للوحدة.
وناقش البروفيسور التجربة الرائدة التي هيئت الشراكة الإستراتيجية البريطانية الأمريكية، والتي تبادلت فيها الهيمنة العالمية بسلام، وأدت لتشكيل مجتمع ديمقراطي لبرالي غربي، ساعد دولها على التعامل مع خلافاتها بطرق قانونية سلمية. فقد بدأ الخلاف البريطاني الأمريكي بعد الهجرة الأوربية للقارة الأمريكية، حيث حارب الأمريكيون في عام 1775 بريطانيا ليحققوا استقلالهم، وتوحدوا في فدرالية في عام 1789. وقد تكرر هذا العداء في حرب عام 1812، بتدخل بريطانيا في التجارة البحرية من خلال حصارها على نابليون، لتنتهي بحرق البيت الأبيض، وباستمرار الدعم البريطاني لانفصال الجنوب في الحرب الأهلية، لأضعاف القوة الإستراتيجية الأمريكية. واستمر هذا التوتر البريطاني الأمريكي حتى عام 1895، بعد أن وعت بريطانيا لزيادة التزاماتها، وعدم قدرتها منافسة الولايات المتحدة في القارتين الأمريكيتين، وخاصة بعد أن ضم الأسطول الحربي الأمريكي 25 سفينة حربية جديدة في عام 1905، وقوت روسيا في الشرق الآسيوي، وانتصرت اليابان في الحرب الصينية اليابانية في عام 1895، وطورت ألمانيا أسطولها الحربي.
فقد وفرت هذه الظروف الجديدة بيئة لتحول أعداء الماضي لرفقاء المستقبل، لتبدأ القصة بمجابهة بريطانية أمريكية في عام 1895، حول التدخل الأمريكي لخلاف رسم الحدود الفنزويلية، ورفض بريطانيا بهذا التدخل في البدء، لتضطر بقبوله أمام التحديات الإستراتيجية الجديدة، ليصرح آرثر بلفور، رئيس مجلس العموم البريطاني، في فبراير من عام 1896، بقوله: "في الخلاف بين الحكومة البريطانية وفنزويلا، لم يكن أبدا، ولن يكون، في نية بلادنا تجاوز المسئولية الأمريكية في هذه المنطقة... وهي أساسيات السياسة التي نقدرها معا." بذلك اعترفت الحكومة البريطانية ضمنيا بمسئولية الهيمنة الأمريكية. وفي شهر يناير من عام 1896، كتب النائب البرلماني، والسفير البريطاني القادم للولايات المتحدة، جيمس برايس، رسالة إلى الرئيس ثيودور روزفلت، يقول فيها: "ليس هناك بيننا غير شعور الصداقة، التي لن تتعارض مع الحقوق الأمريكية، أو مع توازن القوى في العالم الجديد. فيدنا ملئيه بالمسئوليات في المناطق الأخرى." ونقلت هذه الرسالة للشعب الأمريكي، بمقال في صحيفة أمريكية بعنوان، الشعور البريطاني في السؤال الفنزويلي، لتكون إشارة صداقة، تلقفتها الولايات المتحدة كإشارة سلام، لا كعلامة للضعف، وقبلت العرض بثقة متناهية. ووافقت الولايات المتحدة أيضا على طلب بريطاني، بعدم ضم بعض المقاطعات في مناقشات المحكمة الدولية، وحينما حكمت المحكمة في صالح بريطانيا، قبل الأمريكيون القرار بصدر رحب، ووافقوا أيضا على عرض خلاف آخر على المحكمة حول صيد عجل البحر. وصرح الرئيس الأمريكي، وليم ماكنلي، في مارس من عام 1897، بأن: "المحكمة هي الطريقة المثلى للتعامل مع الخلافات المحلية والدولية، بل هي ظاهرة رئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية، خلال تاريخها الوطني، بتسوية الصعوبات بالطرق القضائية، بدل قوة السلاح." وقد أدت هذه الحكمة الأمريكية لتهيئة الطريق لتبادل المواءمة، ومراحل متتابعة من ضبط النفس، والذي كانت سببا لقاعدة تعاون مستقبلي، استمرت حتى اليوم. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان