أصداء

العراق: الطائفية السياسية بلباس ديمقراطي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

على ما كانت تعاني الوحدة الوطنية والتماسك الإجتماعي والهوية الجامعة العراقية، من ضعف وهشاشة بارزين في المرحلة الديكتاتورية، كرّس الطابع الطائفي للدولة الجديدة منذ تأسيس مجلس الحكم الإنتقالي، الإنقسامات الإجتماعية والهويات الفرعية، ونقلها الى ميدان الصراع السياسي، وظهرت الطائفية الى العلن، في ثياب التمثيل السياسي للمكوّنات العراقية، وجعلت منه أساسا مبطنا للحكم والنظام، ووسيلة ضمنية رسميا، للإمعان في التقسيم الى طوائف ومذاهب وأثنيات كانت محرومة من حقوقها التاريخية وإستحقاقاتها المشروعة، كما وسمت التفكير والعمل والحياة السياسية عموما، بسماتها من تلك اللحظة بدون أدنى تأمين للإنسجام في قمة السلطة وفي قلب جهاز الدولة السياسي ومؤسساتها الجديدة، لا على مستوى المصالح الإجتماعية التي أدّعت تمثيلها والتعبيرعنها، ولا على مستوى السياسات الوطنية والبرامج المعلنة، لإعادة إعمار البلاد.

وكان من الواضح تماما، أنّ من بين أهداف الإحتلال العاجلة على الصعيد المحلي، هو خلق طبقة سياسية فوق المجتمع ومن العدم، من خلال مرتبات مغرية وإمتيازات خيالية، لا مثيل لها في العالم أجمع، بالترافق مع إزالة الحدود الفاصلة بين السياسة والنخبة السياسية الجديدة من جهة، وبين الإقتصاد والشركات التجارية العابرة للأوطان، وما يختفي وراءها من عمولات مشبوهة وصفقات مربحة من جهة أخرى، في سعّي كان يبدو ظاهريا، لتقريب وتوحيد المصالح المستحدثة من الأعلى، لرموز ورؤساء الأحزاب والكتل السياسية المعارضة للنظام السابق، مضافا اليهم، قوى وفئات وعائلات سياسية ورجال دين وزعماء عشائر وشخصيات مدنية وعسكرية جديدة وقديمة، عادوا الى المشهد السياسي على هيئة نواب ومستشارين وقادة أحزاب مفبركة على عجل، ورجال مال وأعمال، في تركيبة مقطوعة الصلات جوهريا، عن مجتمع خارج لتوه من جحيم الحروب وويلاتها ولم يزل تحت آثارها النفسية والمادية المدمرة.

وكان من الطبيعي أنّ هذه التوليفة السياسية المتناقضة التي لم تتوحد مصالحها بالسهولة والسطحية والسرعة التي أرادها المحتل، هي الخلاصة والتعبير الأصفى عن ملامح المرحلة القادمة وتوجهاتها المبهمة والضائعة والمضيعة بخصوص شكل وطبيعة النظام السياسي الجديد، وبالتالي فقد تركت بصماتها الواضحة في كتابة الدستور بصورته الملغومة، ليعكس في مواده وثناياه الكثيرة، مصالح كلّ طرف على حدة، بناءا على تلك الخارطة الطائفية، وحسب ثقل كلّ منها ميدانيا وعسكريا، وقدراتها المادية والمعنوية والتعبوية، بالإضافة الى عوامل الدعم الخارجي، على تدوين مواد متضاربة مع بعضها البعض، ولا يعكس في الوقت نفسه، مصالح أطراف أخرى بنفس الدرجة من القوة والتوازن ولا مصالح الأطراف ذاتها مجتمعة، ضاربة عرض الحائط، المعنى العميق للدستور بإعتباره القانون الأساسي للدولة والعمود الفقري لها، وبؤرة الإجماع الكلي، كمرجعية قانونية ستكون بمثابة العقد الإجتماعي والسياسي المتكامل والمتجانس في المواد، والذي يفترض أن تنهض عليه الدولة وتؤدي وظائفها ومهامها على الشكل الأمثل، بل أصبح الدستور بالذات، عنصرا إضافيا قويا، من عناصر الخلاف والتأويل والتفسير والتشبث بمواد معينة فيه دون أخرى، ضمن الصراعات والنزاعات المتواصلة لحدّ اليوم.

هكذا أصبح الهدف أكثر وضوحا، وهو الإبقاء على كلّ عناصر الأزمة والتفجرات الكامنة وضمان تجديدها وإعادة إنتاجها دوما، والحيلولة دون تشكّل قوة سياسية ذات طابع وطني جامع وشامل عبر إخضاع الجميع لنفوذ ممثلي الطوائف المحليين والتمهيد تدريجيا لمشروع الدولة الطائفية عن طريق المحاولات المستمرة لتأسيس قواعد إجتماعية لها من خلال دعم الزعماء التقليديين وإسناد العشائر ورجال الدين، مقابل مراكز نفوذ مهمّة، عائلية وفردية، في الدولة والوظائف الأساسية العامّة كي تضمن الولاء ووحدة المصالح الجزئية ومن ثمّ التجديد والإستمرار في الحكم على هذا الأساس، وبالنتيجة، تحوّلت هشاشة الإجماع السياسي في قمة السلطة الى هشاشة أوسع وتفكيك متواصل ومتزايد في أحشاء المجتمع وبين فئاته الواسعة المتضررة بمجملها من هذه الأوضاع الإستثنائية، وأمسى النزاع الدائر حول مواقع السلطة والثروة والنفوذ نزاعا أريد له أن يكون إجتماعيا رغما عنه، محدثة بذلك شرخا عموديا سيصعب التحامه.

وفي الواقع، في كلّ منعطف من منعطفات الأحداث التي شهدناها منذ عام 2003، كان هذا الهدف يظهر ويتوارى ليعود مجددا وفقا لدرجة التمكن السياسي والقدرات والإمكانيات الفعلية للتنفيذ وطبيعة التوازنات والتحالفات المؤقتة بين القوى السياسية المتنفذة التي تسمح في ظهورها صراحة من خلف الكواليس، ليجدد الرهان على الطائفية ويواصل دون مواربة، محاولات التأسيس والإعتماد عليها بإعتبارها العصب الداخلي والضمانة الأساسية للحفاظ على مواقع الأغلبية من رموز وأقطاب العملية السياسية الدائرة، وبالطبع ليس هنالك ما هو أفضل من هذه الوصفة لتجميد الأوضاع والدوران المستمر حولها دون معالجة، وإختلاق الخلافات والتوترات على كلّ صغيرة وكبيرة، وآخرها كان "حرب البيارق والأعلام" في المناطق المتنازعة عليها، وغيرها من النزاعات التافهة التي تعبّر أحسن تعبير عن ضحالة النخبة السياسية الحاكمة وتعكس مدى إبتعادها عن الهموم الحقيقية للمواطنين ومعاناتهم اليومية وعن المشاكل الأساسية الكبرى للبلاد.

إنّ جوهر الطائفية السياسية وهدفها الأساس، هو جعل المكوّنات العراقية في مواجهة معلنة أو كامنة مع بعضها عن طريق تغذية الأحقاد والشكوك والمخاوف وإمدادها بالوقود الطائفي اللازم عند الحاجة، وبالتالي خلق مجتمع معبأ للقتال والإقتتال والحرب الأهلية ويحيا بصورة دورية حالة التأزم والإنفلات المرسوم، في أول شرارة يمكن أن تطلقها ذات القوى السياسية المنتفعة إن تعرضت مصالحها وحصصها وإمتيازاتها الحالية للخطر، كما أنّ الطائفية لا يمكن لها، لا الآن ولا مستقبلا، أن تنتج أوضاعا سياسية مستقرة على الضدّ من المصالح والنوايا والإرادات والافكار والمهام الموكلة اليها من قبل الأجندات الخارجية، ولذلك فنتيجة لهذه الأسباب وغيرها، ليس أمام الأغلبية الإجتماعية المتضررة في العراق ها اليوم، سوى أخذ زمام المبادرة والضغط بكلّ السبل المتاحة لديها لتعديل أفكار النخبة السياسية الحاكمة ومطالبتها بالأصلاح الحقيقي والتغييرالشامل، وإجبارهم على سماع صوتها وإحترام وجودها وحريتها وكرامتها والإلتفات الى أوضاعها المأساوية ومطالبها المشروعة والعادلة لتحسين شروط معيشتها اليومية، التي باتت محور الكفاح في كلّ ما تبقى من بلدان وأوطان مجاورة، ظلّت عقودا طويلة، بمثابة إقطاعيات ومزارع شخصية للأنذال والمستهترين ومجانين العظمة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
اتفق العرب على الا يتفقو
مصريية.باحثة فى التا -

لابد للجميع من مراجعة تاريخ الخلافة.