مجازات "حارس المنزل" (3/5): الخادم بوصفه شريحة اجتماعية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سياحة في البيوت والأكواخ والمدينة الهجينة
فكرة ان يكون الخادم سلوى وملهاة لسيده، فضلا عن كونه خادما، قد لا تحتاج لتتبع في المدونات الأدبية أو السيرية. إنها قديمة قدم العلاقة بين الأنموذجين. ولذلك فإننا لسنا معنيين بهذا قدر عنايتنا بمسألة تسرب الفكرة، فكرة الخادم المسلّي، عن طريق اللغة ونظام الخطاب بطريقة يعجز أبرع الكتاب عن السيطرة عليها والحد من تجسدها في هذه الطبقة أو تلك.
إن هؤلاء الريفيين يمكن أن يتحولوا إلى مادة لتهكم مر وسخرية سوداء من قبل أبناء المدن عادة وهو الحاصل في بغداد ابتداء من الأربعينيات حيث عومل الشراكوه على أنهم نوع من أنواع التسلية لأهالي بغداد.
الحال أنه، وبغض النظر عن الوحدة الطبقية التي تجمع بين عاطل ذي منحدر بغدادي وآخر قادم من الجنوب، فإن الصراع الثقافي المذكور، صراع المهاجرين مع أبناء المدينة في أربعينيات القرن العشرين، قد يحوّل البغدادي إلى "سيّد" مجازي في وقت قد يتحول المهاجر الجنوبي إلى "خادم" مجازي مقابل.
في رواية فرمان المشار لها تظهر أطياف ذلك الشروكي المسلّي بلهجته ونمط زيه وطريقة تفكيره الساذجة في لحظات بعينها يراد بها الكشف عن بعض تناقضات المدينة بعد حدث الغزو الجنوبي لها، وإليكم هذه العينة ؛ في مفصل ما يتردد حسين، بطل الرواية، على المفوضية البريطانية بحثا عن عمل فيصادف بين الزحام شخصين أحدهما بغدادي أحول والآخر شيخ جنوبي ساذج. وبعد أن يضيق حسين ذرعا بالرجلين يجري حوار كثير الدلالة بين الثلاثة: يقول الأحول للعجوز: ـ شفت..ليش ما تصير فيترجي؟ فيجيب العجوز ـ والله يا عمي لو عارف أصير قندرجي جان صرت. يعود الأحول منبها ـ مو قندرجي، فيترجي.
فيجيب الجنوبي ـ الحاصل محفوظك ما يعرف غير المسحاه والمسحاه منها نافعة بها لايام.
ثم يأتي دور حسين في التهكم المر من ذلك المسكين فيقول بسخرية وترفع ـ أش جابك لبغداد، اشجابك؟ يهز العجوز رأسه ويقول: ـ سالفة طويلة. يسأله: ـ خلص الزهدي؟ فيجيب الجنوبي: ـ ما خلص بس الناطور يزكط. وهنا يعرب حسين عن كراهيته لتلك اللهجة بما تحيل إليه قائلا ـ زحّاره التزحرك. لا يفهم الشروكي العبارة فيسأل ـ شني؟ فيجيب حسين ممعنا في احتقاره ـ أكول أش لون الصحة؟" (25)
ثم يستمر الحوار بين حسين والجنوبي بطريقة يبدو فيها الأخير وكأنه مسخرة حقيقية. يستدير حسين في اتجاه ثقافي فيسأل متهكما ـ يا فيلم يعجبك: ممنوع الحب لو الوردة البيضاء؟ فيجيب الجنوبي ـ مني فاهمك.
إن المشهد هذا يكاد يختصر رؤية البغدادي التقليدية للنازحين من الجنوب في تلك الفترة إذ ثمة تبرم واحتقار لا يخفى، تبرم مرده، لا المنحدر الطبقي بل المنحدر الجهوي بما يثير من اختلافات ثقافية وقيمية بين الحضريين والريفيين.
حقيقة الأمر أن المشهد المذكور المصاغ بخطاب بغدادي لم يكن نشازا في لوحة "النخلة والجيران"، فبعد أيام من ذلك اللقاء يعود حسين ليجد أمامه الشخصين نفسيهما، الأحول والجنوبي، وكان الفلاح الجنوبي يترصد لهما ويقف إلى جانبهما وكأنه يغيضهما واعتبراه علامة شؤم وأرادا التخلف عنه، اقترح عليه الأحول أن يذهب الى أمانة العاصمة ويشتغل كنّاسا وأقنعه بمشقّة فغاب يومين ثم عاد في اليوم الثالث وقال: مكتوب غطعه على الباب ما يريدون كنانيس..حيف الدرهم..جا ماله حوبه؟" (26)
المسألة باختصار أنّ الجنوبي القادم لبغداد آنذاك كان مثّل موضوع تسرية للبغداديين لكن التسرية هنا تختلط بنبرة كراهية عميقة لا يسلم منها حتى مثقفون من أمثال غائب طعمة فرمان. وليس مصادفة أبدا أنه في الرواية ذاتها يظهر طيف الجنوبي في المونولوجات الداخلية لتماضر، حبيبة حسين،، حيث يتضح أن تلك الفتاة المسحوقة هاربة من مصير "جهنمي" كان سيلقي بها في أحضان شيخ آخر ذي منحدر جنوبي، وهو شيخ يملك حوشين في العمارة ويتحدث بلهجة كريهة حسب وصفها: "وصعب عليها أن تتصور أنها ستقضي العمر كله مع ذلك العجوز الملتحي القادم من بلدة جنوبية، وفي اليوم التالي جاء الخطيب وسعل وبصق وقال جا هي العمارة وين؟ بتلفات الدنيه؟ والسيارات رايحه جايه؟ ولم تطق لهجته ولا صوته، ونفرت من عباءته وعقاله ووجهه المحروق عليه لحية تخيلتها قذرة". (27)
على أن كل هذه العينات المشيرة لظاهرة احتقار الشروكي لن تفسر الأمر ما لم يستعاد السياق الذي قدّم تلك الشريحة بوصفها خادما للمدينة وليس أي شيء آخر. وإذ نقول أنها خادم فأننا نود الإشارة إلى نوع الأعمال التي مارسها أبن تلك الشريحة حيث يبدو تارة "كنينيس" في أمانة العاصمة وتارة حارسا في كراج، وفي تارة ثالثة يمكنك مصادفته وقد تحول إلى كلب حراسة للسلطة القائمة.
الفكرة الأخيرة، فكرة تحول الشروكي إلى كلب حراسة للسلطة القائمة، تبدو مثيرة للتأمل وفيها يلمح غائب طعمة فرمان إلى ما أسماه حنا بطاطو لاحقا بـ"عمرنة" الشرطة البغدادية، أي امتلاء سلك شرطة بالمتطوعين الجنوبيين الذين تحولوا، دون أن يعوا ذلك، إلى أدوات بيد السلطة لقهر المجتمع. (28)
المشهد الذي يرسمه فرمان هو الآتي: يخرج جنديان بريطانيان ثملان من نادي الجنود الانجليز في عنق الجسر ثم يفك أحدهما فتحة بنطلونه ويتبول على جسر الملك فيصل ثم يصل خيط بولته الى بائع جالس على الأرض مع أربعة زبائن يتحلقون حول صينيته وهم كل من حسين وعاطل من محلة الدهانة وسكران خارج للتو من حانة اضافة لشرطي من قلعة سكر، يبدأ حوار رمزي سريع وخاطف ينتهي بتدخل الشرطي الجنوبي..لنقرأ كيف فهم الخادم في تلك الرواية: "ورفع السكران رأسه ونظر الى الجسر وقال: ـ طلعوا اثنين غيرهم سكارى راح يبولون..بغداد مراحيض مال انكليز..شتكول عمي؟
سأل السكران الشرطي فقال هذا: ـ أسكت أخيَّرْ
ـ مني مهددك..هانا جاعد حدر البول مثلك..خل أكل لكمتي
ـ أكل وغمس..منو مانعك؟ بس أنت تهددني
ـ أنا خربونه ما هددتها..راحت الجلعة سكر من غير ما تكلي وزرعتني بهالولاية الضايعة. قال حسين: ـ الحكها!
مسح الشرطي فمه براحة يده وقال: ـ أنتو البغاده! ثم قال للبائع ـ جثر خيرك". (29).
حقيقة الأمر أن المشهد الاجتماعي المضطرب في بغداد الأربعينيات حيث تدور رواية "النخلة والجيران" لم يكن ليبعد عن ذلك التداخل، التداخل بين البغدادي العاطل عن العمل، من جهة، والجنوبي الباحث عن لقمة الخبز المنقعة ببول الجنود البريطانيين، من جهة أخرى. ولئن بدا أن النوعين متماهيان في اللوحة البانورامية المتركزة حول ثيمة "التقشف" وندرة الأعمال، إلا أن الأمر، كما يقول بطاطو، "يجلب إلى دائرة الضوء مظهرا آخر من مظاهر تحرك العمارة" نحو بغداد حيث يشير إلى أن قوة شرطة العاصمة كانت قد "تعمرنت" الى درجة غير بسيطة وتحول الشروكية إلى أداة قمع كلاسيكية بيد السلطة فالآلاف منهم كانوا قد تطوعوا في الجيش والشرطة لدرجة أن وزير الشؤون الاجتماعية في أواخر العهد الملكي كان أعلن أن الحكومة توصلت الى "الحل الأفضل" لمشاكل المهاجرين من العمارة وكان هذا الحل يتلخص في تقسيمهم الى ثلاث فئات: عائلات الجنود وعائلات رجال الشرطة وآخرين، والفئتان الأولى والثانية تخدمان الحكومة وسيكون لافرادهما بيوتهم الخاصة. أما الآخرون فسينقلون بعيدا عن المدينة حسب ما تتطلب قواعد الصحة العامة". (30)
ما نريد الوصول إليه إذن لا يبعد عن الفكرة التالية؛ الخادم الجديد القادم إلى بغداد مزعج بسذاجته، مقرف بريفيته، لم يدخل سينما في حياته، لحيته قذرة، وفضولي دائما، وفوق كل هذا لا يتورع عن التحول إلى كلب حراسة للسلطة للعثور على لقمة خبز منقعة ببول الأنجليز.
لعل حنا بطاطو كان يلمح لهذا وهو يقول ناقلا حيرة البغداديين ربما: "كان دائما من الأمور المثيرة للحيرة والارتباك كيف أنه في بلد تفصل فيه هوة عميقة بين الحكومة الانتفاضات الجماهيرية كما حدث في كانون الثاني عام 1948 وتشرين الثاني عام 1952، أليس رجال الشرطة العاديون أنفسهم بعضا من هؤلاء الناس ويتقتسمون معه والشعب يمكن للطبقة الحاكمة أن تستمر في فرض الطاعة على شرطتها وعلى القوات المسلحة الأخرى وخصوصا عندما تصدر أوامرها باطلاق النار على الناس في حالاتم معاناتهم واستياءهم؟" (31)
الشروكي بوصفه حارسا غير مرئي للمدينة
بالعودة إلى قصة "منزل الحارس" التي افتتحنا بها هذه السياحة، سنرى أن بطل القصة الذي يستعير وظيفة الحارس لم يكن، في الواقع، فردا قدر ما كان كناية عن شريحة كاملة من الخدم غزت بغداد ابتداء من الأربعينيات انطلاقا من أرياف الجنوب.
الصورة المرسومة في القصة عن ذلك الرجل تكاد تنطبق على آلاف الرجال الريفيين الذين ينقل حنا بطاطو أنهم كانوا يكدسون أنفسهم في الكراجات والمعامل والمزارع، وكان بعضهم ينامون على الأرصفة في انتظار الحصول على أعمال حقيرة مؤقتة في حين كان يتكدس أهلوهم في آلاف الصرائف خارج المدينة وعلى حافاتها وداخلها.
إن حارس المنزل في القصة المذكورة مستعاد من تلك المشاهد الاجتماعية؛ كان يتجول نهارا ليلتقط ما يرميه الأغنياء في المزابل القريبة، أما في الليل فيأوي لكوخه المتهالك فتتجمع حوله الكلاب انتظارا لأعطياته.
إن الأمر هنا رمزي بكل تفاصيله؛ الحارس هو استعارة عن شريحة كاملة تغزو المدينة، البيت كناية عن المدينة نفسها، والكوخ الذي يقيم به الرجل إنما هو تجسيد أدبي لآلاف الصرائف التي أقامها أولئك النازحون حول بغداد وداخلها.
ما يجب الانتباه له الآن هو الآتي: رغم ضخامة الظاهرة واتساعها وتوزع النازحين بين ظهراني سكنة العاصمة الأصليين بشكل كبير إلا أن صرائف أولئك الجنوبيين تبدو عموما غير مرئية في المدونات والوثائق التي كتبها البغداديون في تلك الفترة، ولعلها تذكّر، طالما تعلق الأمر بعمى الكتابة، بالملاحظة التي أثبتها رفعت الجادرجي حول غرفة الخادم آنفة الذكر لجهة كونها "معتمة ولا تدخلها الشمس مطلقا".
إن الأمر يبدو غريبا جدا فرغم امتلاء ذاكرتنا بمئات المدونات التي تتحدث عن بغداد، في تلك الفترة، إلا أننا لا نملك أية وثائق وصفية جديرة بالاعتبار عن ذلك الغزو سوى بضعة توصيفات ترد عرضا هنا أو هناك. وهذه التوصيفات تبدو، في مجملها، سريعة وغير معنية بالتفاصيل، والملاحظ أن الأمر لا يقتصر على موثقي المدينة البغداديين بل يتعدى ذلك إلى أبناء الصرائف أنفسهم الذين تهيأت لهم المناسبات للحديث عن بغداد"هم".
لقد بدا الأمر بالنسبة لهؤلاء وكأنهم يصفون بغداد القائمة والشرعية، أي المدينة التي لم تعترف بهم، مغمضين أعينهم عن تلك المستوطنات الهامشية التي كونوها بالفعل. لا بل إن المسألة تبدو للناظر الآن وكأنها ترجمة "هامشية" لخطاب "مركزي" أرادوا الاندراج به رغم رفضه لهم.
يكتب جمال حيدر في كتابه "بغداد..ملامح مدينة في ذاكرة الستينات" واصفا تلك الصرائف: المركز الثقافي العربي 2002 الدار البيضاء المغرب: "بالمقابل أمتدت الأكواخ الطينية في مواجهة الفراغ بعدما استقر الفلاحون الهاربون من جور الإقطاع وظلم الطبيعة على حواف السور الوهمي، امتدت الأكواخ الطينية في النهضة والشاكرية والكرخ في مواجهة الزمن العاثر وكبرياء المدينة، مدن جنوبية أحاطت بغداد ومولتها بالعمالة الرخيصة ومع قرار حكومة عبد الكريم قاسم بالغاء أحزمة البؤس وتوزيع الأراضي السكانية مجانا نمت مدن كاملة احتفظت بموروث الجنوب وعاداته وعلاقاته: مدينة الثورة، الشعلة، بعدما أستوطن الجيل الثاني من المهاجرين المدينة ورثوا مهنا رسمية وأستولى على سر الخوف والعزلة".(32)
أن العبارات التي يثبتها الكاتب الجنوبي الذائب حبا ببغداد قد لا تختلف كثيرا عن العبارات التي يثبتها "البغاده" حسب وصف الشرطي الجنوبي في رواية غائب طعمة فرمان. أنه العمى نفسه يقوم على تخوم البصيرة ذاتها؛ أن تكون بغداديا فعليك أن تعمى عن رؤية الصرائف المحيطة بها حتى لو كنت ابنا لتلك الصرائف.
الهوامش:
25 ـ ينظر " النخلة والجيران" طبعة دار الشؤون الثقافية عام 2006 ضمن سلسلة " علم وأثر" ص 116
26 ـ المصدر نفسه ص 116
27 ـ المصدر نفسه ص 148
28 ـ المصدر نفسه ص 147
29 ـ المصدر نفسه ص 192
30 ـ ينظر " العراق ـ الطبقات والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية..." حنا بطاطو ـ ترجمة عفيف الرزاز ـ مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ص 163
31 ـ المصدر نفسه ص 164