فضاء الرأي

مجازات "حارس المنزل" (4/5): وصف متأخر يأتي به "بريد بغداد"

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سياحة في البيوت والأكواخ والمدينة الهجينة

إن يأتي "بريد بغداد" متأخرا خير من أن لا يأتي أبدا. هذا ما تقوله الوثيقة دائما لاسيما حين تحضر بطريقة غير متوقعة. ليس مهما معرفة هوية مرسل الرسالة ولماذا كتبها ومتى بل المهم هي تلك اللحظة التي نجد أنفسنا أمامها. الإشارة، هنا، قد تكون مباغتة تماما فحين كان الأدباء والمؤلفون العراقيون يغمضون باصرتهم عن المشهد واصفين المدينة وكأنها كيان منسجم، كان ثمة روائي من تشيلي يتنقل في بغداد ويجاهد في توصيفها بحياد سائح أجنبي.
أنه خوسيه ميجيل باراس الذي كتب بعد أكثر من نصف قرن رواية بعنوان "بريد بغداد" وفيها يصف بدقة رسام واقعي العاصمة العراقية بعد حدث 14 تموز. وفي تضاعيف الصورة ترد مشاهد مروعة للنازحين من الجنوب، مشاهد نبدو معها وكأننا نرى المشهد للمرة الأولى.
يقول: "حين انعطفنا عند الناصية، رأينا مشهداً خارقاً: نحو مائة جسد ممدد على تراب الشارع، ملتفة بملابس عربية. توقفنا في أماكننا. وأوضح لنا سليم: "إنهم فلاحون. يأتون من الجنوب. يصلون في كل يوم ولا تسمح لهم الشرطة بالذهاب الى احياء أخرى من بغداد. ولهذا ينامون هنا" طلبنا مزيداً من التوضيح، فقال سليم: "لقد بدأ تطبيق الإصلاح الزراعي في الجنوب. وهم يهربون". (33)
لم يكن الكولومبي راغباً في السماع، فهو لا يرغب في شيء سوى الابتعاد بأسرع ما يمكن، لكن المندوبين اللاتينيين الآخرين، وهم أربعة، وأنا خامسهم، كانوا يريدون معرفة المزيد: "كيف؟ ـ سأل البيري ـ هذا امر غير مفهوم... هم يهربون من الإصلاح الزراعي؟".
ثم يشرح الدليل سبب هربهم من الاصلاح الزراعي قائلا أن الأمور تداخلت في الجنوب بسبب ثورية القرار وتأثيره المباشر في حياة الإقطاع ذلك أن "بعض الشيوخ القدماء عادوا مع عصاباتهم المسلحة وأطلقوا سلسلة من اعمال الأنتقام المروعة ضد الفلاحين الذين احتلوا الأرض". ولهذا فإنهم يهربون خوفا أوبحثا عن ملاذ آمن اقتصاديا.
واقع الأمر أننا، في تلك الرواية، سنجد أنفسنا أمام وصف دقيق لا نعثر عليه في أيّ مدونة عراقية عن أوضاع أولئك الفلاحين الهاربين من الإقطاع. يقول: "القمر يغطي الأجساد الراقدة بسميد فضي. إنهم يبدون موتى. رفع أحدهم رأسه المغطّى بنوع من القلنسوة العميقة وأداره بالأتجاه الذي نحن فيه. لم يكن وجهه مرئياً. كان مجرد ثقب أسود ينظر إلينا. بعد ذلك نزل الرأس وأستند من جديد الى التراب". (34)
ثم يضيف أنه على امتداد الرحلة التي استغرقت نحو ساعتين " أكتشفنا أن اناساً كثيرين ينامون في هذه المدينة في الشوارع. ففي أيّ ركن، في مركز المدينة، إلى جانب أبواب المتاجر، أو أحد المساجد، أو على ضفاف الساحات المقفرة التي في طور البناء، ترقد أشكال أفقية، متكورة، لنائمين مزفتين. وعند بوابة مصرف مهيب، مكسو بمرمر أشقر، رأيت رجلاً منتزعاً من معبد أشوري. رأسه ضعف الحجم الطبيعي تقريباً، له بروفيل طير جارح وعينان هائلتان جاحظتان تبدوان أشبه ببيضتين مسلوقتين تحت الرموش. ولحية مجعّدة تصعد الى وجنتيه وتنزل حتى بداية بطن جدير ببوذا، أستغفر الله. وكان مستلقياً على ظهره، يشخر مثل حيوان ضار. إنه يبعث الخوف في النفس حتى وهو نائم." (35)
الآن، وبغض النظر عن زاوية النظر التي تشي باحتقار واستعلاء واضحين فإن عين الروائي القادم من تشيلي تنجح في خلخلة صورة مفبركة كنا عهدناها في مدونات تلك المرحلة حيث ملامح المدينة شبه المتحضرة تطغى على ملمح القرية. وهو ما دأبت الانتلجنسيا البغدادية على إشاعته في كتاباتها بما في ذلك أبناء الصرائف الذين ربما كان آباؤهم نائمين في تلك الشوارع.
إن التركيز يتم في تلك المدونات المفبركة لصورة بغداد على ملامح معينة بطريقة تشبه أن يفيّض مصور فوتغرافي الإضاءة على وجه بشري مليء بالدمامل بحيث يتعذر على العدسة رؤية أيّ شيء سوى فيض النور.
رغم هذا فإن مفبركي تلك الصور عن المدن لن يستطيعوا إدامة فيض الضوء إلى الأبد فقد يحدث في بعض الأحيان أن تفلت اللحظة فنعثر وثيقة لا يحسب لها أيّ حساب. وهذا وما نصادفه في كتاب "العراق" لحنا بطاطو، إذ كالعادة يذهب الرجل نابشا في أماكن غير مفكر بها من قبل واصفي المدن. وسوف تصادفنا، هنا، وثيقة لا تقل أهمية عن النتف الموجودة في "بريد بغداد" ؛ إنها تقرير رسمي مرفوع إلى الحكومة من طبيب عراقي درس أحوال الصرائف وسكنتها عن كثب ثم خرج بنتائج مرعبة.
يقول الدكتور كريتشلي، واضع ذلك التقرير، أن الصرائف المذكورة أقيمت " في موقع كانت بلدية بغداد تستخدمه كمدفن للفضلات البشرية والحيوانات وللنفايات وكذلك كان يفعل الناس العاديون وكانت بعض مياه مصارف سطح أرض المدينة تضخ أيضا إلى المنطقة بحيث كان السائل الملوث يتدفق عبر تجمع الصرائف".(36)
لقد وجد الدكتور كريتشلي الأكواخ سيئة التهوية مزدحمة ليس فيها ما هو خاص، وكثيرا ما كانت تأوي الحيوانات المنزلية إلى جانب العوائل، ويضيف كريتشلي: لم تكن هناك في الصرائف أو في المنطقة أية ترتيبات صحية بمعنى المجاري والمراحيض وكان السكان يتغوطون ـ ببساطة ـ أينما كان ولم يكن هناك كذلك أي تزويد بمياه نقية للشرب وكان يتوجب نقل هذه المياه من خارج المنطقة وتخزينها في "حب" وكان الأثاث المعتاد عبارة عن صندوق فج وبعض أدوات الطبخ وفراش واحد تكوّم فوق بطانيات نوم بقية أفراد العائلة الذين كانوا ينامون على الارض، ويعتقد أن كل لقمة طعام كان يتناولها هؤلاء الناس كانت ملوثة ووجد أن معدلات وفيات الأطفال لكل 1000 حالة حمل كان 341 ومن الواضح أن أوضاعا معيشية كهذه لم تكن مؤذية بالنسبة لصحة سكان الصرائف فحسب بل كانت تهدد سكان بغداد ايضا ". (37)
خلاصة الأمر أن أولئك الناس، رغم ضخامة أعدادهم وقوة تأثيرهم، كانوا غير مرئيين بالمرة وكانت صرائفهم التي مسحها كريتشلي لا تختلف قيد أنملة عن بيت الخادم الذي لا تدخله الشمس.
لقد كانوا في عزلة شبه تامة عن أبناء المدينة الأصليين، ولا يمثلون للأخيرين سوى موضوع تسرية أسود المزاج. يقول بطاطو: "وعندما انتقل هذا الانسان ـ ابن الجنوب ـ الى بغداد لم يختلط كثيرا بأهلها الا في مواقع عمله الجديد وفي ما عدا ذلك ونتيجة للظروف فانه عزل نفسه في صريفته في مناطق معينة خارج المدينة حيث كان له مقهاه وأمكنة نشاطاته الاجتماعية وكذلك فأن العامل الحضري لم يرحب من جهته بابن العشيرة لانه لم ير فيه الا منافسا على ذاك القليل من الخبز الذي كان يكسبه على حساب القليل من الصحة الذي تبقى في جسده الهزيل".

"منزل الحارس" بوصفه رمزا
استخدام مفهوم "البيت" بوصفه رمزا كان واضحا في قصة عبد الله صخي كما هو الأمر في عشرات الأعمال الأدبية الأخرى وحتى السينمائية والتلفزيونية والمسرحية.
رواية " النخلة والجيران" ربما كانت العمل الأدبي الأشهر الذي شيّد بشكل رمزي فائق التنظيم انطلاقا من الاستعارة نفسها. فبيت سليمة الخبازة لم يكن هو الآخر بيتا قدر ما هو كناية عن طبقة اجتماعية تمر في مرحلة انحلال وتآكل تصل ذروتها بعد منتصف الأربعينيات.
في الرواية المذكورة يباع البيت تحت وطأة حلم يضغط على البطلين الرئيسيين، سليمة الخبازة وربيبها المدلل حسين. ففي وقت يشهد البلد صعود طبقات جديدة وعلاقات عمل من نوع مختلف يتم خداع سليمة من قبل مصطفى أفندي لتخسر جميع مدخراتها ويترافق ذلك بشكل متواز مع إقدام ربيبها حسين على بيع البيت للفوز بحبيبته تماضر. مثل هذه المقاربات تروق للأدباء دائما؛ بيت يباع في سياق اجتماعي واقتصادي يشهد صعود طبقة وانحلال اخرى فيكون، من ثم، رمزا لهذه الطبقة أو تلك. في حالة سليمة الخبازة يضغط حلم الحداثة على المرأة مجسدا بهاجس امتلاك فرن صمون ينهي مرحلة العمل اليدوي المضني.
نقرأ في الرواية المذكورة كيف تتقلب الخبازة وهي تحلم بفرن الصمون:" وفكرت للمرة العاشرة ـ صدك راح أتخلص من التنور! أنام مثل الناس للصبح! وقلقت لأن ذلك بدا لها شيئا غير معقول. تقلبت من جنب إلى جنب وأحست بالمخدة صلبة تحت رأسها كالجلد " (38). ثم شيئا فشيئا يتحول أيمانها بذلك الفرن إلى يقين لدرجة أنها تقول لإحداهن أن " الخبز مو أحسن من الصمون، آني خبازة وأعرف ".(39)
نعم لقد آمنت به "منذ أن خرج خاجيك من الفرن مثل فأر خارج من كيس طحين". كان هذا الإيمان يحيل ربما لإيمان شريحة بكاملها آنذاك وملخصه أن زمن تنور سليمة الخبازة ولّى لغير رجعة شأنه شأن طولة حاج أحمد آغا التي تباع في الرواية نفسها فيشعر حمادي العربنجي ومرهون السايس بالرعب من ضياعهما وسط السيارات التي بدأت تغزو بغداد.
أما البيت المشترك بين سليمة وحسين فيرمز ربما لشريحة يشترك فيها الجيل القديم، المتهالك أمام عجلة الحداثة، والجيل الجديد الحالم بتغيير الأوضاع وتحقيق ذاته. بل لعل "تماضر" استعيرت لتكون رمزا لبلد ضائع في حين رمز حسين لجيل مصاب بالخيبة بسبب ذلك الضياع.
إن مجيد خدوري يلخص ربما، في"العراق الجمهوري"، ذلك السياق بتكثيف رائع وهو يسرد بعض أسباب ثورة 14 تموز بقوله ؛ " إن عجز الجيل القديم عن تهيئة الجيل الجديد ليتحمل معهم أعباء المسؤوليات في شؤون الحكم دفع بزعماء الجيل الجديد إلى إثارة الرأي العام وتأليبه على العهد القائم وهو ما حرض الشعب على الثورة ضد الحكام بسبب فشلهم في تحقيق حكم صالح بحسب رأي زعماء الجيل الجديد". (40)
الخلاصة أن بيت سليمة يطرح، في"النخلة والجيران" بوصفه استعارة ذات مدلولات عديدة فهو، بالنسبة لحسين، سجن قديم لا يمكن التقدم إلى الأمام ما لم يتم تحطيمه، وهو بالنسبة لسليمة وطن ما أن يباع حتى يضيع سكانه ويفقدون كل أمانهم.
مع هذا فإنه لا يحيل، في الأخير، سوى لطبقة اجتماعية في مرحلة زوال وتفسخ مقابل ولادة طبقة معقدة جديدة تماثل في تعقيدها المدينة التي لم تعد كما كانت. ولهذا تزخر الرواية باللعب على هذه العلاقات؛ البيت البغدادي المطمئن يقابل الصرايف الحقيرة، التنور البيتي القديم يقابل أفران الصمون الجديدة، حسين ابن الخبازة، المتمدن، يقابل خصما ريفيا فضا في صراع على "تماضر" وإلى آخر مثل هذه الثنائيات المفضلة للروائيين الذين على شاكلة فرمان.
هذه الملاحظات مغرية بالتتبع، وهي رغم أنها تقع على تخوم مفهوم "البيت"، بيت الحارس وبيت سليمة الخبازة وأيضا بيت عارف آغا، إلا أنها يمكن أن تضيء كثيرا من الخلفيات التي لا غنى عن رؤيتها في موضوعات كهذه.

هوامش:
33 ـ ينظر رواية " بريد بغداد" للروائي خوسيه ميجيل باراس ترجمة صالح علماني، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008 ص 125
34 ـ المصدر نفسه ص 125
35 ـ المصدر نفسه 125
36 ـ ينظر " العراق ـ الطبقات والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية..." حنا بطاطو ـ ترجمة عفيف الرزاز ـ مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ص 163
37 ـ المصدر نفسه ص 136
38 ـ ينظر رواية " النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان طبعة دار الشؤون الثقافية العامة ـ سلسلة " علم واثر" ـ بغداد 2007 ص 24
39 ـ المصدر نفسه ص 77
40 ـ ينظر "العراق الجمهوري" لمجيد خدوري الدار المتحدة للنشر ـ بيروت الطبعة الأولى ترجمة ص 14

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف