فضاء الرأي

اقتصاد العولمة الأخلاقي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

بعد أن انهيار النظام الشيوعي السوفيتي، وتحول العالم لقرية تكنولوجية صغيرة، انبهرت الشعوب بالرأسمالية، ووجدت فيه خلاصها من الفقر والجهل والمرض. وقد أدت عولمة السوق لتحول دول فقيرة لمصانع رخيصة للعالم، ليتخلص الملايين من جوعهم. وبينما كانت شعوب العالم مشغولة في تنميتها الاجتماعية والاقتصادية، كانت القلة منهمكة في التلاعب لتكديس المليارات، بشراء نواب البرلمانات لتغير القوانين وشل الرقابة ضد الاستغلال والاحتكار، وبالمضاربة في أسواق الأسهم، والعقار، والطاقة، والأغذية، والعملات. كما أبدع بعض المصرفيون في صنع منتجات قروض سحرية وبيعها في الأسواق العالمية، لتؤدي لأزمة اقتصادية دولية في عام 2008، وفقد الثقة بالنظام المصرفي العالمي. وقد استمرت معاناة شعوب العالم من عولمة الرأسمالية الفائقة، التي استطاعت مؤسساتها التشريعية إنقاذ البنوك من الإفلاس، بتحولها فجأة إلى اشتراكية دفعت مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب، ولكن لم تعمل بجد لخفض نسب البطالة، والفقر، والمرض، بين فئات الشعب المتضررة.
فقد برزت أعراض مبكرة لخلل النظام المالي العالمي، وعدم قدرة قوانينه ومؤسساته على التعامل مع تحديات العولمة، فرفع رجال الاقتصاد إعلام الخطر، ليحذروا من قرب الهاوية، ولكن انشغل الجميع في جني الأموال، وحتى رجال برلمانات الغرب، تناسوا الدمار المنتظر. وقد عرضت مجلة النيوزويك الأمريكية في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر الجاري، السلوكيات الأخلاقية لمشرعي الأنظمة والقوانين التي تحمي شعوبها من مضاربات السوق الحرة، في مقال بعنوان، كونجرس الثراء. فقد قام الباحث، بيتر شويزر، من جامعة ستانفورد الأمريكية بدراسة التصرفات الاستثمارية لنواب الكونجرس الأمريكي منذ عام 2000، كما حدد أبحاثة حول التعاملات المالية المرتبطة بالتشريعات التي يناقشها الكونجرس في جلساته، فوجد الكثير من البرلمانيين يقومون بتعاملات تعتبر غير قانونية للمواطن الأمريكي العادي، فقلص دراسته في مجموعة محددة من قيادات نواب الكونجرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ففي عام 2003 حينما كان الكونجرس يناقش تشريع للرعاية الصحية لتغطية تكلفة الدواء لكبار السن والأطفال، الذي سيوفر لبعض شركات الدواء فرص ذهبية، كان رئيس اللجنة الفرعية للدواء في الكونجرس، والمنبثقة من اللجنة المالية الرئيسية، منشغل في الاستثمار في أسهم شركات الأدوية، وقد حقق أرباح تتراوح بين نصف مليون ومليونين دولار، حينما وافق الكونجرس على هذا القرار، فارتفعت سعر أسهم بعض شركات الأدوية، كما أدت لرفع كلفة الرعاية الصحية الأمريكية بشكل غير مسبوق.
وكان رئيس الأقلية في الكونجرس يستثمر الآلاف من الدولارات في أسهم شركات التأمين الصحي، خلال مناقشة الكونجرس لإصلاح الرعاية الصحية، وقد حقق أموال طائلة حينما حقق حزبه الفوز بمنع مرور تشريعات الإصلاحات بشركات التأمين الصحي، كما حقق أحد أعضاء البارزين في اللجنة المالية للكونجرس، أموال طائلة من التعامل في سوق الأسهم في الوقت الذي كان الكونجرس يناقش كيفية إنقاذ البنوك المعرضة للإفلاس في عام 2008. وفد علقت المجلة على ذلك بالقول: " لقد أنصدم الباحث، بيتر سشيوزر بحقيقة أن نواب الكونجرس يستطيعون التعامل بحرية في شراء وبيع الأسهم بشركات تحدد مصيرها بشكل مباشر تشريعات الكونجرس، وتساءل: هل يعتبر ذلك تجاوز قوانين التعاملات الداخلية للشركات في التعامل بسوق الأسهم؟ وقد أكدت أبحاثة مخالفة هذه التجاوزات الأنظمة والقوانين الأمريكية للشركات، بل تؤدي للدخول المواطن العادي للسجن."
وقد انتقد علماء الاجتماع تحول الإنسان "لروبوت" مادي فقد إنسانيته وقيمه الأخلاقية. وحينما هز هذا الخلل في عام 2008 الاقتصاد العالمي، وضيع ما يزيد عن الثلاثين تريليون دولار، راجع العلماء مؤلفاتهم، وحاولوا أن يوجهوا رجال السياسة لرشدهم، ولم يفيد ذلك. ولم تمضي ثلاث سنوات حتى نسمع عن انتفاضة العولمة، واضطرابات الشوارع في نيويورك، ولندن، وباريس، واليونان، وايطاليا واسبانيا، ولتزداد ديون أوروبا، ولنقترب من انهيار اليورو، وليبدأ تجار الوول ستريت القلق على تكدس أموالهم. ويبقى السؤال: كيف استطاع رجال المال والأعمال تغير قوانين الرأسمالية لكي نقترب من انهيار الهاوية؟ فما الذي حصل لبرلمانات التشريعات ورجالها؟ هل تحولوا من خدام الشعب الذي أنتخبهم، إلى خدام الشركات التي تغطي كلفة دعايتهم الانتخابية؟ وهل ترافق كل ذلك بربحية الطرفين وخسارة شعوب الديمقراطية؟ وهل هناك فرصة لمنع هذا الانهيار، بإرجاع مفاهيم اقتصاد العولمة الرأسمالي الأخلاقي؟
ليسمح لي القارئ العزيز أن أقدم شخصية غربية نادرة، وهو هانز كونج، الذي ولد في عام 1928، من عائلة سويسرية كاثوليكية، تدعو للإصلاح الديني. وقد درس في الجامعات الألمانية والايطالية، وأكمل دراسته في علوم اللاهوت بجامعة السربون. وعين في عام 1960 أستاذا بجامعة توبيجن الألمانية، كما عينه البابا عضوا بمجلس الفاتيكان. وفي عام 1979 أدت آراءه الإصلاحية لغضب الفاتيكان، ومنعه من تدريس الكاثوليكية، ليتفرغ لعمله كبروفيسور بجامعة توبيجن الألمانية لعلم اللاهوت. وقد كتب مؤلفات عديدة عن الأخلاقيات والدين، ويدعو في كتابه، مسئولية العولمة، قيادات أديان العالم للعمل على خلق سلام عالمي، يعكس الأخلاقيات التي تجمعها الديانات برباط القيم، والمعايير، والسلوك. ويعتقد كونج بأن السلام العالمي يلزمه سلام بين الأديان، ولتحقيق ذلك هناك حاجة للحوار، لمعرفة الأسس الأخلاقية لهذه الأديان. وقد شرح أفكاره في مسودة إعلان أخلاقيات العولمة، لبرلمان أديان العالم، الذي عقد بمدينة شيكاغو في عام 1993.
وقد اتفق ممثلو جميع الأديان في هذا المؤتمر، على المبادئ العامة لأخلاقيات العولمة، التي تشمل الالتزام بثقافة رفض العنف، واحترام الحياة البشرية، والمطالبة بنظام اقتصادي عادل، ونشر ثقافة الصدق والتضامن والمساواة، وتحمل الاختلاف، والشراكة بين المرأة والرجل. ويعتقد الكاتب بأن رضا القيم خير لراحة للنفس من متعة الماديات، وتملئ الالتزام بالأخلاقيات لروح بالبهجة والسعادة، ويوصي بالتخلص من الأنانية الشخصية والجشع، ويؤكد على الحاجة لمعايير أخلاقية، للعيش في سلام، وعدالة، وحرية. ويعتقد الكاتب بأن أسباب العنف والإحباط الذي يعيشه البعض في العالم الإسلامي، هو نتيجة السياسات الغربية اللاأخلاقية خلال القرون الماضية، ويوصي الغرب بالاعتراف بمسؤولياته، والعمل على إصلاحها. ويختلف الكاتب مع صمويل هاتنجتون في نظريته عن صراع الحضارات، بل يعتقد بأن الثقافات والحضارات لا تحارب بعضها البعض، بل العكس تتداخل ببعضها في كثير من العموميات، ليستطيع البشر العيش معا في سلام. ويحذر كونج من السياسات الخاطئة الناتجة عن التصورات الغير حقيقة عن الإسلام، والتي قد تؤدي لتفكير سياسي منغلق، قد يؤدي لصراع بين الأديان والثقافات.
وربط هانز كونج العنف في الشارع الإسلامي بالإحباط الذي يعانيه منه المسلمين، بسبب الغضب من معاناة حرب أفغانستان والعراق والشيشان، وفشل تأسيس الدولة الفلسطينية، وتأيد الغرب للسياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، كما يوصي بدبلوماسية غربية متزنة. ويرفض كونج فرض الديمقراطية والحداثة على المجتمعات الإسلامية، ويعتقد بأن التطور الأوروبي كان نتيجة عملية لمخاض طويل وشاق، ويجب أن يبدأ التغير من داخل المجتمع لا أن يفرض من الخارج. وأوصى بحرية صحافة مسئولة وبعيدة عن الإثارة، والذي أكده مجلس الرؤساء والحكومات في الإعلان العالمي لمسئولية الإنسان مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد انتقد رجال الإعلام المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان والمتعلقة "بحرية التعبير للإعلام لإيصال الحقائق للمواطنين وانتقاد تصرفات وقرار المؤسسات المجتمعية والحكومات، والتي هي مهمة للمجتمعات الديمقراطية، ولكن يجب ان تستخدم آلياتها بمسئولية واحترام."
وقد تنبئ الكاتب في عام 1997 بأزمة الوول ستريت، بسبب الممارسات الغير الأخلاقية في سوق المال. وقد وصى في مقاله بصحيفة يابان تايمز، بضرورة ترافق جهود التعامل مع الأزمة الاقتصادية، بخطة تجمع تدخل الدولة المسئول، مع خفض العبء المالي على المواطن، بالإضافة للادخار في الميزانية العامة، لمنع زيادة الديون الغير متوقعة على الدولة. ويعتقد الكاتب بأن الحالة الذهنية التي أدت لتفاقم الأزمة المالية قد بدأت تتغير، فقال:"يبدو بأنه في الدول الغنية الصناعية، وبعد فترة من قصر النظر لسلوك الربحية المتصاعدة، بأننا إمام فجر جديد من البساطة والاستدامة. وتعاني الشركات من ضغوط متصاعدة لتكون أخلاقية، وأخيرا عوقب السلوك التجاري اللااخلاقي." وقد لاحظ الكاتب في رحلة للولايات المتحدة ظاهرتين ملفتتين للنظر، وهما: "الرغبة الجامحة للربحية التجارية اللامسئوله، وجنون العظمة السياسي." وقد ارتفعت الأصوات المنادية لأنظمة أخلاقية للسيطرة على جشع السوق الحرة مع زيادة الأزمة، كما طالبت بدعم البنية المالية الجديدة بهيكل أخلاقي، وترويض الغريزة الإنسانية القاتلة من الجشع والكبرياء بمعاير أخلاقية.
ويناقش الكاتب هذا الهيكل الأخلاقي الذي طرح في فقرة إعلان أخلاقيات العولمة لبرلمان أديان العالم في شيكاغو لعام 1993، بقوله:"لقد وجدنا الإجابة في التعاليم التقليدية الدينية: يجب إلا نسرق! وبمعنى ايجابي: يجب أن تكون معاملاتنا صادقة وعادلة، ولا يحق لأحد منا أن يستغل أمواله وأملاكه بدون النظر لحاجة المجتمع والبيئة. وعلينا أن نزرع الرحمة في أرواحنا لمعاناة الآخرين. بل علينا زرع الاحترام المتبادل، لكي نخلق توازن في المصالح، بدل الركض وراء قوة لا محدودة، ترافقها صراعات منافسة يستحيل تجنبها. فنفقد إنسانيتنا بالجشع، وذلك بفقد روحنا، وحريتنا، وهدوئنا، وسلامنا الداخلي." ويعلق الكاتب آماله على باراك اوباما الذي وصل للرئاسة مطالب بأخلاقيات غير عادية للسياسيين، ويعتقد بأنه لن يستطيع خلق المعجزات، ولكنه في الموقع الذي يمكنه أن يحدد الهيكل الأخلاقي لبناء الاقتصاد العالمي، بعد فهمه لأزمته الأخلاقية التي تحدد بالسؤال: "هل نحدد القيمة في الثروة فقط، أم أيضا في العمل الذي خلقه. وكل ذلك يؤكد بأننا في حاجة لأخلاقيات عالمية اليوم أكثر من أي وقت مضى."
فتلاحظ عزيزي القارئ بأن الكاتب قد ناقش أهمية الموارد البشرية في خلق ثراء الأمم، وأهمية خلق بيئة اقتصادية عالمية تحترم الإنسان، وتحميه من براثن الفقر والمرض، بتوفير شبكة الحماية الاجتماعية له، ليحافظ على كرامته وصحته وإنتاجيته، وذلك بتوفير تأمين اجتماعي لرعاية صحية شاملة، وتعليم وتدريب مستمر، وحماية للبطالة وفترة التقاعد. وهذه الشبكة الاجتماعية ستحمي كرامة الإنسان وتمنعه من العنف والجريمة والثورة، والتي تكلف معالجتها معاناة مجتمعية كبيرة وأموال طائلة. والسؤال: هل ستراجع مجتمعاتنا العربية سلوكياتها الاقتصادية لتخلق مجتمع يحترم إنتاجية الإنسان وإبداعه، ويحميه من جشع الغناء، وبؤس الفقر، وعنفه؟
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف