ربيع الشباب.. رماد المثقف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
خلال جلسة سمر لفتت انتباهي فكرة طرحت للمناقشة، وهي " دور المثقف في الربيع العربي". والحق ان الفكرة استفزتني، فالرجل الذي اطلق هذا الربيع كله هو بقال تونس العظيم محمد البوعزيزي. ورأيت ان الفكرة الأجدى بالنقاش، هي وضع " الربيع العربي" نهاية لنمط المثقف العربي السائد منذ فجر الخمسينيات من القرن العشرين.
ان تاريخ الأفكار يميز بين مرحلتين في العالم العربي الاسلامي. الأولى هي " مرحلة النهضة" من القرن التاسع عشر حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. والثانية هي " مرحلة الثورة" التي ظهرت اول تجلياتها في السلطة او الحكم مع حركة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 .
مثقف " مرحلة الثورة" هو الذي استلهم او انتج او روج، وبالتالي صنع، ما سيعرف ب "العصر الآيديولوجي العربي". وهو العصر الذي تصدرته ثلاثة أفكار سياسية، هي القومية والشيوعية والاسلام السياسي.
المثقف العربي، اي منتج الفكر والأدب والفن، في هذه المرحلة، تخلى بوجه عام عن مهمته الأصلية في محاولة فهم العالم، وفي نقده بهدف تنمية المعرفة والحرية، وتحول الى داعية ايديولوجي. وصنع بذلك بيئة فكرية او روحية ادت الى انتاج نماذج الجمهوريات العربية.
وكان رجال من امثال عبد الناصر وبن بله وعبد الكريم قاسم وعبدالله السلال، وغيرهم، على عظمة الفوارق خصوصا بين الرائد والأتباع ، مجرد جنود منفذين لفكرة " الثورة" التي خرجت من مصنع الثقافة العربية، المتأثرة، بهذا القدر او ذاك، بالموضات الفكرية الصادرة من الغرب.
وكانت حصيلة هذا العصر الايديولوجي العربي هي هذه الجمهوريات التي انتهت الى انظمة تسلطية، او شمولية (توتاليتارية) صراحة مثل حالتي صدام والقذافي. وان الاطاحة بهذه الجمهوريات، صنيعة المثقف العربي، هي بالذات هدف هذا الربيع العربي الذي أطلقه بقال تونس العظيم.
ان الشرارة التي اشعلها البوعزيزي تمثل انتقالا في مركز الفاعلية، من " الانتلجنسيا" الى الناس، من المكتبة الى الحياة، من الفكرة الى الواقع، ومن الوهم الى الحقيقة.
خلافا لذلك كان " المثقف" هو مركز الفاعلية، بل هو " هيئة أركان" الثورة العربية في خمسينيات القرن العشرين. فبعد الحرب العالمية الاولى نشأت في الحواضر العربية ديمقراطيات ضعيفة. وكان ضعفها نتاجا بنيويا لهشاشة اوضعف او حتى انعدام الطبقة الوسطى التي تشكل القاعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للنظم الديمقراطية.
وكان يمكن للمثقف، الذي شكل فئة دينامية مؤثرة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ان يشكل بديلا للطبقة الوسطى في دعم واسناد تلك الديمقراطيات الهشة. ولكنه عمل على العكس من ذلك، متبنيا فكرة" الثورة"، التي هدت كد الأسلاف، وعبدت الطريق الى جهنم.
اما " الساسة" الذين تلقفوا " ثمرة" الثورة، فقد انتهى بهم الأمر الى محاولات شبيهة بمحاولات تأسيس البيوتات الاقليمية الحاكمة في الدولة العثمانية، مثل بيت محمد علي في مصر، او بيت الجزار في الشام: الأسد بدأ السيرة بتوريث بشار، صدام كان يهيء عدي او قصي، مبارك اعد جمال، وهكذا مع القذافي وعلي عبد الله صالح. وكانت نتيجة هذه المحاولات انفصام الحكام عن شعوبهم انفصاما تاما، والاستهتار والفساد والبطش، في سيرة اصبح لها مصطلح في السياسة الدولية هو " الاستثناء العربي".
والشباب العربي الماضي في دك هذا الاستثناء، ونجح حتى الان في هد تلاث من قلاعه، انطلق من قاعدة بريئة تماما من آثار العصر الايديولوجي. لم يحركه فكر، ولا دفعته عقيدة. لقد ثار على الظلم وعلى الفساد وانسداد الأفق. انه حرم الحياة وتمرد من اجل استعادة الحياة. ولقد فاجأ بذلك " المثقف" تماما مثلما فاجأ الحاكم.
اما من تلقف او سيتلقف ثمار هذه الثورة فالمؤكد، وكما تدل الوقائع الحالية، فانه ليس الشباب أنفسهم. فهؤلاء ليسوا ساسة ولا منظمين، وقد دخلوا الميدان للتو، وهم اغلب الظن مازالوا مفاجأين بعظمة نتائج ثورتهم. ولكنهم سيظلون قوة نامية تتعاظم في المستقبل.
لقد اصبح واضحا ان " الاسلام السياسي" ماض في قطاف ثمار الربيع العربي. وهذا بحد ذاته يمثل الأثر الباقي من ثلاثية " العصر الايديولوجي العربي": اليسار والقومية والاسلام السياسي. بقي الاخير وفقدت الشيوعية والقومية جاذبيتهما. ولكن على الرغم من النجاح الظاهر والمتوقع للاسلام السياسي في انتخابات تونس ومصر وغدا ليبيا، فمازال من المشكوك فيه ان تكون فكرة الاسلام السياسي ذات جاذبية قوية في العالم العربي.
ان مصادر قوة الاسلام السياسي طبيعية واخرى اصطناعية. طبيعية لأن النظم الدكتاتورية او التسلطية لم تكن لتستطيع القضاء على حركات الاسلام السياسي لارتباطها بالجوامع والمساجد، وهذه مسارح عمل لا يمكن القضاء عليها شأن مقرات الأحزاب والتنظيمات الدنيوية، انها بيوت الله. واما الاصطناعية فهي مكونة من عوامل عديدة، منها الاستثمار " الجيد" للإفقار المادي والتصفير المعرفي لعصر الثورة، والتنظيم والخبرة، ووفرة الأموال: تنظيمات الاخوان والسلفيين تتلقى دعما من دول عربية غنية. واذا كانت السياسة مالا، فان القاعدة في كل انتخابات على وجه الأرض هي ان الفوز للأغنى.
عدا ذلك فان الاسلام السياسي نفسه يتغير، كما يتغير العالم من حوله. فقد انتهت الحاضنة الدولية للاستبداد، التي كانت سائدة ايام الحرب الباردة، وهذه النهاية هي بالذات ما مهد طريق السلطة امام حركات الاسلام السياسي. وكل ذلك لا ينفي ان خزان الاستبداد مازال غنيا بذخائره. غير ان قابلية الشعوب العربية على تحمل الاستعباد تتبدد اكثر ثم أكثر. وما هو هذا الربيع العربي ان لم يكن تجفيف قابلية الاستعباد والشوق الى الكرامة؟
ولعل من الجدير بالاشارة هو ان " اخوان" تونس اتخذوا من" النهضة" اسما لحركتهم، فيما يوحي بتجاوز مرحلة الثورة، والارتباط بعصر النهضة، عصر الليبرالية. وكل ما فعله وقاله حزب النهضة حتى الان، يشير الى ان تضحية البوعزيزي لم تذهب سدى، وان تونس "النهضة" قادرة على اعطاء المثل في الاعتدال وفي التجديد، وفي الديمقراطية..وهي الموعد الوحيد مع التاريخ الذي أخلف معه الزعيم المتنور الحبيب بورقيبة.
وكان بورقيبة قد وقف متفردا ضد تيار عصر الثورة. ولأن التيار كان عاصفا فلم يستطع التأثير فيه. ولكن يبدو انه قد صنع شيئا فذا جعل من بلده رائد " الثورة على الثورة" في العالم العربي.
التعليقات
الثورة ضد الفقر لاتحتاج للمثقف
حازم صلاح -دوافع الربيع العربي كانت الثورة ضد الفساد والفقر . وهذه الدوافع ليست بحاجة الى تنظيرات المثقف وتفلسفه .
الثورة ضد الفقر لاتحتاج للمثقف
حازم صلاح -دوافع الربيع العربي كانت الثورة ضد الفساد والفقر . وهذه الدوافع ليست بحاجة الى تنظيرات المثقف وتفلسفه .
السطر الاخير فيه الخلاصه
zayouna -كلام منطقي جدا.. و تحليل عملي لواقع على الرغم من سواد حاضره لكنه لم يفقد يصيص الامل. أحببت السطر الاخير للمقال. فعلا شمس العرب تشرق من الغرب من تونس. عل تجربتها تكون فعلا هي الرائده.
السطر الاخير فيه الخلاصه
zayouna -كلام منطقي جدا.. و تحليل عملي لواقع على الرغم من سواد حاضره لكنه لم يفقد يصيص الامل. أحببت السطر الاخير للمقال. فعلا شمس العرب تشرق من الغرب من تونس. عل تجربتها تكون فعلا هي الرائده.
تحفة
فاضل النشمي -مرة اخرى يتحفنا احمد المهنا بتحليلاته والتماعاته ...شكرا ابو زيد استمتعت واستفدت كثيرا من تحفتك الرائعة
تحفة
فاضل النشمي -مرة اخرى يتحفنا احمد المهنا بتحليلاته والتماعاته ...شكرا ابو زيد استمتعت واستفدت كثيرا من تحفتك الرائعة
إلى من يهمه الامر
ن ف -الاسلام السياسي أحد مراحل تكوين الوعي السياسي عند الانسان العربي، لذا فلا مناص من القفز عليها. إن المرحلة القادمة تشبه إلى كبير مرحلة تسلّط الكنيسة في العصور الوسطى في اروربا. بعد قرن أو قرنين من الزمن سيتحوّل رجل الدين العربي إلى حمل وديع يتودّد إلى عمدة هذه البلدية أو تلك لبناء ملحق لكنيسة أو جامع هنا أو هناك أو أن يتقدّم بطلب إلى البلدية للحصول على اعفاء من الضريبة. المحصلة النهائية هي أن رجل الدين سيحظى باحترامه في ظل نظام علماني، ولكن الأهم من ذلك هو أن الخرافة ستنحصر في مجال ضيّق بتقلّص دور الأديان. حينذاك فقط سينعم العالم العربي بنظام ليبرالي.
إلى من يهمه الامر
ن ف -الاسلام السياسي أحد مراحل تكوين الوعي السياسي عند الانسان العربي، لذا فلا مناص من القفز عليها. إن المرحلة القادمة تشبه إلى كبير مرحلة تسلّط الكنيسة في العصور الوسطى في اروربا. بعد قرن أو قرنين من الزمن سيتحوّل رجل الدين العربي إلى حمل وديع يتودّد إلى عمدة هذه البلدية أو تلك لبناء ملحق لكنيسة أو جامع هنا أو هناك أو أن يتقدّم بطلب إلى البلدية للحصول على اعفاء من الضريبة. المحصلة النهائية هي أن رجل الدين سيحظى باحترامه في ظل نظام علماني، ولكن الأهم من ذلك هو أن الخرافة ستنحصر في مجال ضيّق بتقلّص دور الأديان. حينذاك فقط سينعم العالم العربي بنظام ليبرالي.
انت لست رمادا
عمار السواد -هناك مثقفون هم في صميم هذا الربيع، انت احدهم يا احمد المهنا.
انت لست رمادا
عمار السواد -هناك مثقفون هم في صميم هذا الربيع، انت احدهم يا احمد المهنا.
تعليق
ن ف -يبدو أن الاستاذ عمّار السواد قرأ المقالة على عُجالة. اقتبس من المقالة هذا المقطع: ان الشرارة التي اشعلها البوعزيزي تمثل انتقالا في مركز الفاعلية، من " الانتلجنسيا" الى الناس، من المكتبة الى الحياة، من الفكرة الى الواقع، ومن الوهم الى الحقيقة. إنتهى الاقتباس. المثقّف هو من صنع الديكتاتور وساهم بإطالة عمره. لم يكن أحمد المهنا (مع فائق احترامي وتقديري لشخصه الكريم) يوماً ما في صميم ما يُسمّى بـ الربيع العربي. ولم يكن لأي من المثقفين دور لا من قريب ولا من بعيد في ما يحدث في شرقنا العصي على كل شيء! محمدين وحسنين وبشير (الناس البسطاء.. الغلابه) هم مَن كانوا في صميم هذا الربيع المبارك. الناس البسطاء هم الذين منحوا المثقّف جرعة منشطّة ودعوه إلى ميدان التحرير ودوّار اللؤلؤة وغيرها من ساحات الحريّة وكسروا حاجز خوفه الفولاذي وقالوا له: يمكنك أن تصرخ بأعلى صوتك ها هنا. هذا هو يومك! كما لم يكن لرجل الدين (الاسلام السياسي) دور يُذكر في هذا الربيع أيضاً، غير أنه هو الذي سيحصد ثمار الثورة شئنا أم أبينا. الاسلام السياسي هو المرحلة ما قبل الأخيرة من مراحل التطوّر السياسي في شرقنا البائس. إن الإصرار على الوهم يصنع المزيد من الوهم.
تعليق
ن ف -يبدو أن الاستاذ عمّار السواد قرأ المقالة على عُجالة. اقتبس من المقالة هذا المقطع: ان الشرارة التي اشعلها البوعزيزي تمثل انتقالا في مركز الفاعلية، من " الانتلجنسيا" الى الناس، من المكتبة الى الحياة، من الفكرة الى الواقع، ومن الوهم الى الحقيقة. إنتهى الاقتباس. المثقّف هو من صنع الديكتاتور وساهم بإطالة عمره. لم يكن أحمد المهنا (مع فائق احترامي وتقديري لشخصه الكريم) يوماً ما في صميم ما يُسمّى بـ الربيع العربي. ولم يكن لأي من المثقفين دور لا من قريب ولا من بعيد في ما يحدث في شرقنا العصي على كل شيء! محمدين وحسنين وبشير (الناس البسطاء.. الغلابه) هم مَن كانوا في صميم هذا الربيع المبارك. الناس البسطاء هم الذين منحوا المثقّف جرعة منشطّة ودعوه إلى ميدان التحرير ودوّار اللؤلؤة وغيرها من ساحات الحريّة وكسروا حاجز خوفه الفولاذي وقالوا له: يمكنك أن تصرخ بأعلى صوتك ها هنا. هذا هو يومك! كما لم يكن لرجل الدين (الاسلام السياسي) دور يُذكر في هذا الربيع أيضاً، غير أنه هو الذي سيحصد ثمار الثورة شئنا أم أبينا. الاسلام السياسي هو المرحلة ما قبل الأخيرة من مراحل التطوّر السياسي في شرقنا البائس. إن الإصرار على الوهم يصنع المزيد من الوهم.