فضاء الرأي

التاريخ والوعي الثوري

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يعتبر جورج لوكاش (1885-1971)، الفيلسوف وعالم الاجتماع والمنظر السياسي واحدا من كبار الماركسيين، الذي وقف وعلى طول الطريق ضد الماركسية الارثودوكسية وبخاصة ضد الستالينية. وقد استلهم معظم افكاره الفلسفية في نظرية الادب وعلم الجمال وفلسفة الفن من هيغل بالدرجة الاولى، وكذلك من فلاسفة تجريبين امثال جورج زمل وماكس فيبر واميل لامسك وباول ارنست ووليم دلتي وغيرهم من مفكري عصره.
فافكار لوكاش الفلسفية اصطدمت، ومنذ البداية، بافكار لينين ومفاهيمه الفلسفية، خاصة بعد ان استعاد البعد الهيغلي في افكار ماركس، ووقف ضد مفهوم لينين عن مؤلف انغلز الموسوم "المادية الديالكتيكية" حيث اعتقد ان لينين كان قد أول "دور الوعي" بشكل ساذج، حيث سعى الى التوفيق بين النظرية النخبوية لدور الحزب وبين ايمانه الشخصي بافكار روزا لوكسمبورغ عن دور النقابة. وبسبب هذه الافكار الجريئة انتقده اللينييون انتقادا شديدا واعتبروه يساريا متطرفا.
والحقيقة، ان لوكاش اعطى "الوعي الثوري" دورا مهما بالمعنى الذي عناه لينين لكنه، من ناحية اخرى، نسب "الوعي الزائف" الى الطبقة الحاكمة بمفردها. وفي ذات الوقت، نسب الى الطبقة العاملة الثورية امتلاك "الوعي الحقيقي"، وان كان هذا الوعي بدائيا ويتطلب توجيها وارشادا من جانب الطليعة. غير ان مفهوم " الطليعةـ الحزب القائد" في الحقيقة ليس اكثر تقدما من البروليتاريا، وانما هو قوة "لا طبقية" فرضت نفسها على طبقة عمالية هشة. فتحرر هذه الطبقة هو مسؤليتها وحدها، لا مسؤلية النخبة الثورية. ومن جهة اخرى فان الطبقة العاملة تمتلك درجات متفاوته من الوعي، وعلى الاشتراكيين ان يعملوا مع تلك الجماعات التي تكون اكثر تقدما ووعيا.
كما ذكر لوكاش ان النظرية الماركسية تتضمن عددا من الاساطير وان همها الوحيد هو تنبيه البروليتاريا واخضاعها لتاثير العمل الثوري، اما السلطة الاشتراكية فعليها ان تكون قوية ومتماسكة حتى تستطيع الوقوف امام هذه الاساطير ومجابهتها بالحقائق العلمية حتى لا تتصلب وتصبح عقيدة جامدة. ولتحقيق هذا الهدف، بحسب لوكاش، ينبغي اطلاق حرية العلوم الاجتماعية وخاصة علم الاجتماع، ونقد جميع مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية.
ان صياغة لوكاش في رفعه الطليعة ـ الطبقة العاملة بدل الحزب- الى مصاف الحقيقة التاريخية المستقلة التي تمتلك وحدها الوعي الحقيقي للثورة، جعلته، على الصعيد الفلسفي، يساريا هيغليا لا ماركسيا ماديا. كما ان رؤيته العلمية وتحليلاته السوسيولوجية اظهرت صدقيتها بعد نصف قرن تقريبا بانهيار الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الاخرى، التي لم تع دور الاساطير ولم تجابهها بالحقائق العلمية، كما رأى ونبه.
ولد لوكاش في بودابست (هنغاريا) ودرس الفلسفة ونال درجة الدكتوراه فيها عام 1909 وعمل بالتدريس في جامعات ايطاليا وهنغاريا والمانيا. وتعرف على ماكس فيبر واقام معه صداقة وطيدة، كذلك شارك في الحلقات الفكرية التي كان يقيمها، كما تعرف على ارنست بلوخ ووليم دلتي وغيرهم من مفكري عصره الكبار. وفي 1918 انضم للحزب الشيوعي الهنغاري، عير انه اختلف معه مرارا. ثم عمل في معهد ماركس - انغلز للفلسفة في موسكو وكذلك في اكاديمية العلوم السوفياتية. في 1919 عاد الى بودابست واصبح رئيس كرسي الاستاذية لعلم الجمال وفلسفة الحضارة في جامعة بودابست، ثم اصبح وزيرا للثقافة عندما قامت جمهورية بيلاكون الاشتراكية في هنغاريا، على رغم مشاكساته العديدة في مجال فهمه وتفسيره للفكر الماركسي وهرطقته التي قادته الى نشر كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" عام 1923، الذي حظا بشهرة عالمية واسعة واثار سجالا واسعا في الاوساط الفكرية والسياسية.
و كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" عبارة عن دراسات معمقة في الديالكتيك، او هو نظرية ديالكتيكية تهدف الى اجتثاث الخلاف الذي دار آنذاك بين الماديين وغير الماديين. وقد لخص لختهايم وجهة نظر لوكاش بان المادية والروحية هما اطروحة ونقيضها، وان الخلاف يعود اساسا الى عدم القدرة على تخطي الانفصام القائم بين الذات والموضوع، فيما الحل لا يكون في ايثار الواحدة على الاخرى، بل يتجاوز الى معالجة تطبيق الافكار في الواقع على اساس الوحدة الجدلية بين النظرية والممارسة.
هذه الرؤية الديالكتيكية لجورج لوكاش كان لها تأثير كبير على اليسار الاوربي وبخاصة على رواد مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع النقدي وبخاصة ماكس هوركهايمر، وكذلك على لوسيان غولدمان وكارل منهايم وغيرهم.
غير ان التناقض الاساسي بين ما نادى به لوكاش وبين ما عبر عنه كارل ماركس في احدى اشهر اطروحاته حول فويرباخ، جعل منه موضع لعنة الماركسيين المتشددين، ما اضطره عام 1945 الى التراجع عن ارائه وقيامه بنقد ذاتي شديد للافكار التي جاءت في كتابه، خوفا من اتهامه بالتحريفية.
والحال ان صمت لوكاش لم يستمرطويلا وكذلك تراجعه ونقده الذاتي. فعندما قامت انتفاضة 1956 في هنغاريا وتشكلت حكومة ايمري ناجي الثورية ضد الستالينية، شعر لوكاش بان الوقت قد حان، فانظم الى الثوار، ثم عين وزيرا للثقافة. لكن عندما هزمت الانتفاضة اضطر لوكاش الى الهرب الى رومانيا وبقي فيها عاما ثم عاد الى بلاده اثر نقد ذاتي جديد، ليترك المعترك السياسي وينصرف الى اعماله الفكرية ويعيد كتابة البعض من كتبه، فاصدر علم الجمال وعلم اجتماع الرواية وتاريخ فن الرواية.

وقد رفض لوكاش النظرة الاحادية للجدل كما عند هيغل وماركس ومزج بينهما في ثنائية تتفاعل مع حركة المجتمع. فهو حاول التعامل مع اشكالية الفكر والممارسة التي امتدت الى النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، التي قامت على الطاقة الكامنة في نقد الاقتصاد السياسي التي لا تتوقف عند حدود الاقتصاد السياسي فحسب، بل تتعداه الى نقد العلاقات الاجتماعية والثقافية.
لقد تجرأ لوكاش على وضع الذات مقابل الموضوع والوعي مقابل الوجود كقطبين متضادين يفسران بحركة الأخذ والرد بينهما جدلية الممارسة وقدرة الذات على وعي الوضع التاريخي الموجودة فيه وتحديد كيفية التحرك وفقا لهذه المعطيات. فبدل أن تكون الذات ملحقة بالتاريخ الذي تنتج عنه تصبح داخله.
لقد كان لوكاش فيلسوفا مشاكسا سبح عكس التيار بالنسبة للماركسية التقليدية، ففي كتاب "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي" يقيم ماركس علاقة وثيقة بين الوعي والوجود: " ليس وعي البشر هوالذي يحدد وجودهم بل على العكس أن وجودهم هوالذي يحدد وعيهم". ويعطي أولوية للموضوع على الذات. فلوكاش بإصراره على دور الذات بدا وكأنه عاد إلى المثالية الهيغيلية، لهذا كان اتهامة بالانحراف. لكن هناك اختلاف بين الاثنين. فالعقل الهيغيلي هوالذي يسيطر على التاريخ ويقوده ولا يشكل جزءا منه، في حين أن الذات عند لوكاش هي في علاقة جدلية مع الموضوع وتأخذ قرارها انطلاقا منه. وعلى ذلك فإن الجدلية في "التاريخ والوعي الطبقي" تضع الحرية "داخل الضرورة نفسها. ولم يقتصر لوكاش في أعماله على دراسة البعد الجدلي في النظرية الماركسية بل ساهم عبر كتابه "نظرية الرواية" في وضع أسس علم اجتماع الأدب الجدلي. كما أنه يعتبر أحد واضعي حجر الزاوية في علم الجمال الماركسي.
في نقده للعقلانية الغربية ـ كما تمثلت في العلم والحضارة الحديثة والمجتمع الرأسمالي الحديث، اطلق لوكاش مفهوم" التشيوء" وهو الاساس الموضوعي للشعور الذاتي بالاغتراب، فهو العملية التي تتحول بها المنتوجات البشرية الى اشياء مستقلة عن الافراد او ظواهر تتحكم في الافراد عن طريق قوانين لا يستطيعون ردها، فيتحولون من الناحية الذاتية والموضوعية الى اشخاص سلبين بدلا من ان يكونوا ادوات فاعلة ومبدعة. وهكذا يتجرد الانسان من انسانيته في التنظيم الداخلي للمصنع الذي يمثل صورة مصغرة للمجتمع الرأسمالي الكبير الذي نفذ، عن طريق التخصص وتقسيم العمل والعقلانية الصناعية ـ الاستهلاكية، الى حياة الانسان الداخلية. كما تؤدي العقلانية الاقتصادية للنظام الرأسمالي الى "تشيوء" الانسان وجعله جزءا خاضعا لقوانينه الآلية، اي جزء من عملية الانتاج لا طرفا فيها. وان هذه العقلانية لم تحرر الانسان بل "شيأت"علاقاته بكل الاشياء من حوله، وكان ذلك نتيجة ضرورية للتذري او انفصال الاجزاء عن الكل المعاش.
في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" والذي يحمل عنوانا صغيرا آخر: "دراسات في الجدلية الماركسية" يحاول جورج لوكاش تجديد الفكر الماركسي وإلقاء الضوء على جوانبه الثورية خصوصا البعد الجدلي منه ويعمل على إعادة الاعتبار للذات. فالتاريخ برأيه ينتج عن التفاعل بين الذات والموضوع أي عن وعي الناس بالقوانين التي تحكمهم، وبعيدا عن إقامة التوازن بين الطرفين، كان لوكاش يميل نحوإعطاء الأهمية للوعي. هذا الوعي الذي يجد فعاليته في وعي الطبقة العاملة التي أحالتها الرأسمالية إلى بضاعة. ولا يمكن لهذه أن تتحرر إلا برفضها الكامل غير المشروط لوضعها كبضاعة. فالبروليتاريا في هذه الحالة، تمثل المبدأ السالب والعنصر المحرك في الجدلية. لأنها عندما تناضل من أجل تحررها فإنها تناضل في الوقت نفسه ضد الخضوع بشكل عام، وعندما تناضل لإنقاذ نفسها فإنها تناضل أيضا من أجل إنقاذ البشرية كلها من التشيؤ.
ان ما قدمه لوكاش للفكر الماركسي من إضافات وعناصر جديدة يعد بالنسبة لخصومه أومؤيديه أهم مفكر ماركسي منذ ماركس، لا بل يعتبره البعض أهم فيلسوف في النصف الأول من القرن العشرين. لقد كان له تأثير كبير على رواد مدرسة فرانكفورت النقدية وعلى كارل كورتس ومارتن هيدجر على وجه الخصوص واعتبر من مؤسسي تيار البنيوية التوليدية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
شكرا ابراهيم الحيدري
عراقي -

شكرا جزيل للاستاذ إبراهيم الحيدري , لم اقرا منذ زمن بعيد , مقالة بهذا العمق والتحليل والمستوى , بالنسبه لي فأنا اتفق مع الراي القائل بانه اهم مفكر ماركسي منذ ماركس , فقد ساهم بوعي منه او بدون وعي في انضاج الفكر الماركسي الوسطي ان صح التعبير بعيدا عن التطرف الستالييني , فهو اكثر انسانيه منه والدليل على ذلك مشاركته الثوار في ثورة ضد الثورة الماركسية وان كانت متوازيه معها. تحياتي لك يا استاذ ابراهيم واطال الله في عمرك وبارك.

شكرا ابراهيم الحيدري
عراقي -

شكرا جزيل للاستاذ إبراهيم الحيدري , لم اقرا منذ زمن بعيد , مقالة بهذا العمق والتحليل والمستوى , بالنسبه لي فأنا اتفق مع الراي القائل بانه اهم مفكر ماركسي منذ ماركس , فقد ساهم بوعي منه او بدون وعي في انضاج الفكر الماركسي الوسطي ان صح التعبير بعيدا عن التطرف الستالييني , فهو اكثر انسانيه منه والدليل على ذلك مشاركته الثوار في ثورة ضد الثورة الماركسية وان كانت متوازيه معها. تحياتي لك يا استاذ ابراهيم واطال الله في عمرك وبارك.

رائع يا استاذ إبراهيم الحيدري
رياح الحرية -

مثل كل مرة رائع يا استاذ إبراهيم الحيدري

رائع يا استاذ إبراهيم الحيدري
رياح الحرية -

مثل كل مرة رائع يا استاذ إبراهيم الحيدري

البؤرة بين الوعي والموضوع
رمضان عيسى -

حقا ;ليس وعي البشر هوالذي يحدد وجودهم بل على العكس أن وجودهم هوالذي يحدد وعيهم ;. ولكن المثقفين الثوريين الجدليين والذين قد يكون لهم أصول طبقية متعددة قد يكون لهم من الوعي ما يجعلهم قادرين على استقراء المستقبل , وهذا التنبؤ هو الحافز للثورة وشرح الأهداف وجمع الطبقات المظلومة حولها لنقل المجتمع ثوريا من حالة الى أخرى , في حين يكون الوضع الاجتماعي والاقتصادي متأخرا كما كان الحال في روسيا قبل الثورة البلشفية . هنا يبدو الوعي وكانه سابق للوجود الاجتماعي . وهذا يرجع الى شدة التفاعل بين وعي البؤرة والموضوع , أي الوضع الاجتماعي والاقتصادي .

البؤرة بين الوعي والموضوع
رمضان عيسى -

حقا ;ليس وعي البشر هوالذي يحدد وجودهم بل على العكس أن وجودهم هوالذي يحدد وعيهم ;. ولكن المثقفين الثوريين الجدليين والذين قد يكون لهم أصول طبقية متعددة قد يكون لهم من الوعي ما يجعلهم قادرين على استقراء المستقبل , وهذا التنبؤ هو الحافز للثورة وشرح الأهداف وجمع الطبقات المظلومة حولها لنقل المجتمع ثوريا من حالة الى أخرى , في حين يكون الوضع الاجتماعي والاقتصادي متأخرا كما كان الحال في روسيا قبل الثورة البلشفية . هنا يبدو الوعي وكانه سابق للوجود الاجتماعي . وهذا يرجع الى شدة التفاعل بين وعي البؤرة والموضوع , أي الوضع الاجتماعي والاقتصادي .