قصـة من التـحرير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كان أحد النشطاء من معارفي ينتظرني في بهو الفندق - عيناه القلقتان ترشق أنحاء البهو بالنظرات مثلما يفعل الحيوان المفترس. ملابسه الممزقة غير المغسولة تبرز تناقضا واضحا مع ثراء بهو الفندق. كان القناع الواقي من الغاز المسيل للدموع المتدلي من أذنيه علامة شرف جعلته مميزا وكسبت نظرات جانبية مليئة بالاحترام من العاملين بالفندق - كان من الواضح أن لديهم رغبة شديدة في السؤال، ولكن أدبهم الشديد وتدريبهم الجيد لم يسمح لهم بذلك. لذهني الميال للتخيل دائما، حكى صوته المبحوح المجهد قصة صراخ وتحدٍ، حث على البقاء على الخط، تشجيع. وكان بنظرته الحادة وظهره المفرود وسلوكه الواثق الصورة الحقيقية للمحارب الحضري.
كانت تلك الصورة مختلفة تماما عن الصورة الذهنية التي كانت لدي عنه في عطلة نهاية الأسبوع، عندما أثارت مكالمته التليفونية الصورة الذهنية للعيون الخائفة لغزال تائه. في تلك المكالمة التمس، بصوت خائف، مليئ بالدموع، محاصر، مساعدتي وعوني في مواجهة ذلك الضجيج المروع لاسطوانات الغاز المسيل الدموع المنفجرة وأزيز الرصاص المطاطي الذي شكل موسيقى متنافرة النغمات من الرعب كخلفية لمحادثتنا التليفونية المفككة. طلبت طبيبا صديقا لي يعمل في التحرير، فقام بشجاعة بالبحث عن ذلك الشخص في الميدان ووجده في نهاية الأمر واقعا على الأرض في الخط الأمامي من المصادمات مع الشرطة، غير قادر على الحركة بسبب استنشاق الغاز. حمله الطبيب بعيدا عن مكان الاضطرابات الشديدة إلى الأمان النسبي للخيمة الطبية، والدموع تنهمر من العيون من تأثير الغاز.
لم تكن مضطرا للتواجد في التحرير لتعلم أن هناك معركة دائرة. فطوال الأسبوع كانت هناك سحابة كثيفة من الغاز المسيل للدموع معلقة في سماء وسط القاهرة، تخز العيون وتهيّج الجهاز التنفسي، كان دوي طلقات الغاز المسيل للدموع وفرقعة الرصاص المطاطي مسموعا بوضوح من السفارة وكان السير لمسافة قصيرة حتى نهاية الطريق كافيا لترى أثرها. دوت صفارات سيارات الإسعاف الواحدة تلو الأخرى وهي تمر أمام السفارة في طريقها إلى المستشفيات: أصبح ميدان سيمون بوليفار مغمورا باللون البرتقالي بعد أن تحول لمنطقة لوقوف سيارات الإسعاف. وفي الميدان نفسه، ألقت موجة تلو الأخرى من الشباب الشجاع غير المبالي بأنفسهم إلى داخل الدخان والصخب، مخاطرين بحياتهم بلا اكتراث في صراع لحماية روح الثورة.
تحدثنا عن أحداث التحرير. كان صوته يجيش بالعاطفة والكلمات تتداعى في شلال من المشاعر: وصف الرجل روح الصداقة الحميمة والابتهاج بالنجاح، روح العمل الجماعي والإثارة. لكن كان هناك شيء آخر وراء الكلمات: نظرة حادة، تصميم، لا مبالاة بالخطر. سألت ما أهداف النشطاء الشباب الذين يصارعون ضد قوة الدولة. قال لي "سقوط المجلس الأعلى للقوات المسلحة. رحيل المشير. ملاحقتهم ومحاكمتهم وسجنهم". حاولت التحدث إليه حول التوصل لحل وسط، حول إعطاء الجانب الآخر مخرجا. حاولت أن أجعله يرى أن الواقع الصعب للسياسة يتطلب مرونة؛ أن الانتصار المطلق الذي يذل المعارضة يصبح مصدرا للغيظ الذي يشعل المعركة التالية. سألته ماذا يحل محل المجلس العسكري؛ كيف يمكن التأكد من توفير الأمن للدولة إذا سقط المجلس العسكري - هناك قدر كبير من فقدان الثقة في الشرطة وقد وقعت مسئولية تأمين الانتخابات على أكتاف الجيش. ولكن كأنني تحدثت إلى وجه صخري - كان تركيزه في مساحة ضيقة ولم أكن لأستطيع تشتيت تصميمه الفولاذي. لقد رفض أن يرى.
ولكن العنف توقف فجأة مساء يوم الخميس الماضي عندما تدخل الجيش وقام بالفصل بين الجانبين المتصارعين. الجيش يحرس الشوارع. أرض المعركة الرئيسية بشارع محمد محمود تقطعها الآن كتل خرسانية وأسلاك شائكة. الطرق عبارة عن بحر من الطوب المكسر وميدان التحرير الرمز الشهير مغطى بالرايات والأعلام والملصقات ومخلفات ثوران الأسبوع الماضي. يحمل ملصق ضخم صورة مؤثرة لأحد المحتجين - عيناه مختفيتان تحت القناع الواقي من الغاز - يجري بأقصى سرعة حاملا في يده اسطوانة غاز مسيل للدموع تصدر دخانا، وتحت الصورة شعار يقول: محمد محمود: لن ننسى.
وها نحن هنا الآن، المعارك التي دارت الأسبوع الماضي وخلفت أعدادا لا تحصى من المصابين وعشرات من المتوفين تبدو وكأنها حدثت منذ زمن. الميدان لا يزال ممتلئا بالخيام الممزقة والقمامة، وأمطار ليلة الأحد الماضي التي حولت الشوارع إلى أوحال أضعفت المليونية المقترحة التي كان من الممكن أن تمزق حل الوسط السياسي الهش الذي يبدو أنه استخدم لتغطية الوضع عند خطوط المعركة.
إلا أن عنف الأسبوع الماضي قد أحدث تغييرا في الوضع السياسي. لدينا الآن رئيس وزراء جديد وتاريخ مبكر عن ذي قبل لإجراء الانتخابات الرئاسية؛ أكد المجلس الأعلى للقوات المسلحة التزامه بتسليم السلطة؛ وبدأت الانتخابات البرلمانية يوم الاثنين. ولكن لا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا كان أسبوع المعارك ربما قد سبب ضررا أعمق وأكثر استمرارية لنسيج المجتمع المصري؛ وما إذا كان قد حجب بطريقة ما الرؤية الـمحيطية للأطراف المختلفة وجعلهم أقل قدرة على رؤية الأشياء من منظور الآخرين.
لقد ساقت رياح التغيير بعيدا ذلك الغاز المسيل للدموع الذي غطى التحرير لمدة أسبوع، تلك الرياح التي أطلقها الناخبون عبر أنحاء البلاد هذا الأسبوع. حولت الانتخابات اتجاه البلد بعيدا عن المواجهة العنيفة في التحرير إلى المواجهة الديمقراطية في صندوق الانتخاب. سوف يتبين فيما بعد ما إذا كانت نتيجة تغيير الاتجاه المذكور ستجعل المصير النهائي للبلد أكثر وضوحا ولكن التناقض (الذي هو في منتهى الوضوح) بين عنف الأسبوع الماضي والتصويت السلمي هذا الأسبوع يشير إلى أن الأمل قد نبت من جذوة معارك التحرير.
نائب السفير البريطاني في مصر
التعليقات
الغزال والرجل
ابو الهول -ماذا يمكن لموظف سفارة أن يفعل بذهن ميال للتخيل دائما؟ يمكنه أن يتساءل إذا ما كان ارتداء قناع واق من الخيال أن يعيده للواقع
وصف رائع
عراقي -وصف قصصي رائع و لغة عربية متقنة , بعض الاحيان الاسلوب الصحفي لا يكون كافيا كي يوصل تفاصيل الحدث , هنا , على الاسلوبين ( القصصي والصحفي) ان يتعاونا , وقد نجح الكاتب في ذلك . ان مايدهشني في الحقيقه هو استمرار التظاهرات العنيفة في ميدان التحرير ! يا ترى ماذا يريد اولئك الشباب في ميدان التحرير اكثر؟
اشك
محتار -اشك ان يكون هذا اللقاء حدث فعلا قلا يمكن اني كون الميدان مشتعل بالغضب ويتركه احد الناشطين ويذهب ليقابل نائب السفير البريطاني والا اتهم بالخيانه والعمالة واثبت ان النشطاء يتلقون تعليمات من جهات خارجية ويملون لاحداث الخراب في مصر واري ان هذا المقال من وحي خيال مريض ليتهم شرفاء مصر ويوقع بين الشعب الواحد
وصف رائع
عراقي -وصف قصصي رائع و لغة عربية متقنة , بعض الاحيان الاسلوب الصحفي لا يكون كافيا كي يوصل تفاصيل الحدث , هنا , على الاسلوبين ( القصصي والصحفي) ان يتعاونا , وقد نجح الكاتب في ذلك . ان مايدهشني في الحقيقه هو استمرار التظاهرات العنيفة في ميدان التحرير ! يا ترى ماذا يريد اولئك الشباب في ميدان التحرير اكثر؟