شباب الثورة: دينامية التغيير وجدل التأطير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بعد كل ما شهده الوطن العربي من حراك شعبي قوامه الشباب نحو الديمقراطية وإشاعة الحرية،ظهر في الأدبيات السياسية مصطلح "الفاعلون غير الرسميين"، ليتم نعت الشباب الذين أشعلوا ثورات الربيع العربي به. وإذا كان في النعت إجحاف فهو لا يبرر بأي شكل من الأشكال أنّ المقصود بالفاعلين غير الرسميين هو أنهم قاموا بما قاموا به من مواقعهم وهم بمنأى عن الانتساب إلى الأحزاب والنعرات القبلية والألوان الطائفية والحركات السياسية.
شباب الربيع العربي هم شريحة من المجتمع مجددة وفاعلة بدوافع ظرفية، لأنهم وُجدوا في زمن ترزح أحداثه تحت متغيرات معقّدة.وبالرغم من أن عقدي السبعينات والثمانينات قد شهدا صرخة أجيال اليوم الذين عانى السواد الأعظم منهم مرارات الاغتراب والتهميش، إلا أن المنتمين منهم لتيارات سياسية وأيديولوجيات فكرية وغير المنتمين قد توحدوا على فكرة سواء بينهم. هذه الفكرة هي ألا يظلوا ضحايا القوالب الجاهزة التي تتم المحاولة لصبّهم فيها، وإنما آمنوا بألا بد من الحراك لتتمظهر أفكارهم في المشهد المجتمعي فتولد إجابات على الأسئلة الكبرى التي طالما عزف الأوصياء على المجتمع باسم السلطة عن الإجابة عليها.
ولطالما اشتكى الشباب العربي من سلطة أبوية يفرضها المجتمع والأنظمة الحاكمة في تعسفها. وهي غير السلطة التقليدية التي عرفها العلماء "رادكلف براون" و"باخون"، بأنها القوة أو مجموعة القرارات والإجراءات التي يتخذها الأب أو من حلّ محله من الذكور، بغرض تنظيم شؤون الأسرة والقرابة وتحديد حاضر ومستقبل أفراد الأسرة في المجتمع. أو تلك التي تتسم بعلاقة تراتبية بين أفراد المجتمع يخضع فيها الضعيف للقوي والصغير للكبير والمحكوم للحاكم. وبينما تتسم السلطة الأولى بالشرعية وتحظى بضمان الطاعة والتنفيذ لما تلقاه من مساندة ودعم المجتمع حسب عاداته وتقاليده وعرفه تحت حماية الدين والقانون، فإن السلطة المبنية على الروابط التراتبية تقوى كلما زادت درجة تخلف المجتمع ووفقاً لقوة هذه العلاقة فإنه تنعدم المساواة في الحقوق بين أفراده ويعم الظلم ويسود القمع والتغول على الحريات ويستشري الفساد والمحسوبية واستغلال السلطة والنفوذ.
ولئن أذعن الشباب لهذه السلطة التقليدية فلم يسعهم الخضوع لسلطة مغايرة، قامت بفعل ظروف معينة بتأطير نفسها وحمايتها بإطار السلطة الأبوية.هذه السلطة هي ما يمكن أن يُطلق عليها "الأبوية المستحدثة" كما أسماها المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي، متمثلة في الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في البلدان العربية التي شبّت ثورتها وفي أخرى ما زالت تنتظر. وقد أرجع المفكر شرابي التخلف الذي نجابهه إلى عمق هذه "الأبوية المستحدثة ".فهو كما ذكر "يسري في كل أطراف المجتمع والفرد وينتقل من جيل إلى آخر في حضور لا يغيب لحظة واحدة عن حياتنا الاجتماعية، نتقبله من غير وعي ونتعايش معه كما نتقبل الموت نهاية لا مهرب منها، نرفضها ونتناساها في آن".
تكشفت معاناة الشباب العربي في ظل تلك السلطات والتي نمّت عن عقم التواصل بين أجيالهم والأجيال التي سبقت بفعل انغلاق العقل على أيديولوجيات عجزت عن إحداث التغيير المنتظر، عوضاً عن أن تلك الأجيال السابقة لا تكفّ عن جرّهم باستمرار إلى ماضيها دون أن تتحدث عن حاضر هؤلاء الشباب ومستقبلهم.
وفي ظل الظروف التي كانت تمر بها دول المنطقة العربية التي كانت ترزح تحت نير الديكتاتوريات نشأ شباب انفتح أفقه على الحل بالثورة. فما بين الاغتراب والتهميش والاستقطاب ارتهن قدر هؤلاء على صناعة مستقبل وقوده الغضب والظلم والقهر.فبينما تم إبعاد الشباب عن الصراع الواقعي الدائر بفعل التحزب والاستقطاب،وبينما تركتهم القوى التقليدية الموجودة نهب التغريب، تنامى وعي هؤلاء الشباب بالقضايا السياسية الوطنية دون لون محدد.وكان مدخلهم إلى ذلك هو المدخل الإقتصادي الاجتماعي الذي يجب أن يتم اعتباره بجدارة رمزاً سياسياً للتغيير الذي أحدثوه.
لم يكن أكثر إدهاشاً من موقف هؤلاء الشباب المنطلقين من فضاء اللا منتمى لأي من عصور أسلافهم الأيديولوجية.ففي ثوراتهم الخارجة من صلب التظاهرات والاحتجاجات والإعتصامات بسبب الفساد والظلم الاجتماعي، لم يكن الانفجار إلا بمستوى الامتداد الطبيعي للواقع المأزوم اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.ولا يعيب ثورات الشباب أنها نتاج احتجاجات اجتماعية ضعيفة البنية التنظيمية، لأن قوة التنظيم وتأطير الفعل الثوري ضد طبيعة التغيير. اتسمت ثورات الربيع العربي في حراكها الشبابي بالمرونة والدينامية والحيوية وحرية الحركة دونما قيود.ولا تختلف دينامية الثورة في بلاد قامت بها وأينعت ثمارها مثلما في تونس ومصر وليبيا أو تلك التي في طور الرهق الوجودي مثلما هي في سوريا واليمن، أو أخرى في رحم الغيب مثلما حال الحراك المكتوم في بلدان عربية أخرى.
إنّ الهالة القدسية للإعجاز الشبابي الثوري ليس في نفي ضعف البنية الهيكلية وحده وإنما في أبعاد الغضب الشعبي كظاهرة اجتماعية صحية مناهضة لأفعال خاطئة في ديمومتها.فلم تفشل الثورات الثلاث المكتملة في تونس ومصر وليبيا لأن التحول النوعي الذي حدث كان أكبر من المتوقع. فحينما ثار محمد البوعزيري في تونس كان رافضاً بغضب مكبوت في صدور الشباب العاطلين عن العمل، لكل أنواع الظلم الاجتماعي المتمثلة في الفقر والجهل والفوارق الطبقية بين بني الوطن الواحد.فصرخ في وجه الظلم ثائراً لكرامته الإنسانية وكرامة مجتمعه فتحول المطلب الاقتصادي الاجتماعي مؤسساً لمشروع تحول نوعي في الحياة السياسية مهيئاً الطريق للانتقال الديمقراطي.
بعد عقود من الاستبداد السياسي والفساد المستشري كان لا بد أن يستجيب قدَر هذه الشعوب إلى سنّة استنها شباب ثورات الربيع العربي وهي أن المطلب الديمقراطي أساسه المطالب الاجتماعية التي نادوا بها دون وصاية إلا من ضميرهم ودون تأطير إلا داخل حدود الوطنية والعدالة الاجتماعية.