جون كيري: مانع صواعق أم مهندس للتوافق

هذه هي الزيارة الثانية للسيناتور "جون كيري" رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكي لمصر، ومهندس عملية التحول السياسي - الديمقراطي في مرحلة ما بعد مبارك، والعلاقات بين المؤسسة العسكرية والقوي السياسية المختلفة خاصة جماعة الإخوان المسلمين.
الزيارة الأولي جاءت بعد أقل من شهر ونصف الشهر من ثورة 25 يناير 2011، وبالتحديد في شهر مارس الماضي الذي شهد أول أنتخابات حول التعديلات الدستورية بعد الثورة، والإعلان الدستوري الذي هو أشبه بخارطة طريق لمستقبل مصر السياسي، حيث طرح " كيري " (مباردة اقتصادية) كنوع من التشجيع علي هذا التحول الديمقراطي، تمثلت في " مشروع قانون " يقضى بإنشاء صندوق لتقديم مساعدة اقتصادية عاجلة لمصر، وفكرته الأساسية: أن أمام الولايات المتحدة فرصة تاريخية لمساعدة مصر، من خلال " دعم الاستقرار الاقتصادي "، تبلغ قيمة الصندوق بين 50 و60 مليون دولار، على غرار برنامج المعونة الأمريكي الناجح للاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الشرقية بعد سقوط حائط برلين في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
الزيارة الثانية ل" جون كيري " جاءت أيضا عقب ظهور نتائج المرحلة الأولي لإنتخابات مجلس الشعب المصري، التي أسفرت عن حصول التيار الإسلامي علي أكثر من 65% من مقاعد البرلمان، وظهور بوادر للصدام بين المجلس العسكري الحاكم وحزب الحرية العدالة الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، خاصة بعد أن قرر المجلس العسكري تشكيل " مجلس استشاري " لمعاونته تكون اولي مهامه " مناقشة الاجراءات الخاصة بتشكيل الجمعية التأسيسية لإعداد دستور جديد للبلاد". أعقب ذلك مجموعة من التصريحات المستفزة للواء مختار الملا عضو المجلس العسكري، وأبرزها : أن البرلمان القادم لن تكون له الكلمة العليا في اختيار اعضاء اللجنة التي ستكلف بإعداد الدستور الجديد، وأن المجلس الاستشاري قد يختار 40% من أعضاء لجنة الدستور من خارج البرلمان، وهو ما دفع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين إلي الانسحاب من المشاركة في المجلس الاستشاري.
زيارة " كيري " السريعة والخاطفة، أعادت الأمور إلي نصابها وبددت غيوما كثيرة لاحت في الأفق كانت تنذر بعواقب خطيرة، أقلها هو الصدام بين المجلس العسكري الحاكم والإسلاميين في المرحلة القريبة القادمة، وأخطرها هو فقدان الولايات المتحدة لإتجاهات البوصلة التي توجه بها أكبر دولة في الشرق الأوسط علي المدي القريب والبعيد، من أهم نتائج هذه الزيارة :
أولا : تراجع المجلس العسكري الحاكم عن تصريحاته وقراراته السابقة، وأعلانه بأن " البرلمان وحده سيختار الجمعية التأسيسية التي سوف تتولي صياغة الدستور الجديد، مع تأكيده علي أن المجلس الاستشاري والحكومة والمجلس العسكري لن يكون لهم رأي في أعضاء اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور، ما يعني أنه ليس لأية جهة كانت أي دور تشريعي ولن ينازع أحد أيا كان " البرلمان " في اختصاصاته. هذا الحسم بين الطرفين (المجلس العسكري والأخوان المسلمين) ينسب ل" كيري " وحده، لأنه شهد وشاهد (الإعلان الدستوري) الصادر في مارس الماضي، والذي نص علي " أن يختار البرلمان، بمجلسيه الشعب والشوري، أعضاء لجنة مكونة من مائة عضو لصياغة دستور جديد ".
ثانيا : طمأنة الجيش علي استمرار التعاون العسكري بين مصر والولايات المتحدة (والمخصصات المالية السنوية)، وأن ذلك لن يتأثر بنتيجة الانتخابات أو وصول الإسلاميين إلي الحكم. " كيري " برر الأخطاء التي وقع فيها المجلس العسكري بأنه " لا يوجد أحد كامل "، وهذه هي طبيعة معظم المراحل الانتقالية، كما قارن بينه وبين ما يفعله الجيش في سوريا، مؤكدا انه لولا دعم الجيش ما نجحت الثورة ولا الانتخابات في مصر.
ثالثا : تشديد " كيري " علي ضرورة أن تعمل مصر مع " صندوق النقد الدولي "، والوصول لاتفاق معه، لضخ مزيد من الأموال وفقا لإجراء إصلاحات متفق عليها. ولعل هذا ما يفسر لماذا أختير الدكتور " كمال الجنزوري " تحديدا رئيسا للوزراء مرة أخري، فهو " مهندس الخصخصة " في عصر مبارك ومعظم الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، فهذا الاختيار يتضمن رسالة واضحة للعالم الخارجي عنوانها الرئيسي : احترام إصلاحات صندوق النقد الدولى.
رابعا : أن المزايدة - بعد اليوم - من جانب الإسلاميين أو المجلس العسكري الحاكم - علي حركات المعارضة الوطنية والتيارات السياسية المدنية مثل حركة 6 إبريل و كفاية وغيرهما، فضلا عن الأقليات الدينية والثقافية، وأتهامها بالعمالة والخيانة أو التمويل الأجنبي أو الاستقواء بالخارج، هو قمة السقوط والغباء والكذب لأن واقع الحال هو أن 99.9% من أوراق اللعب في مصر والشرق الأوسط لاتزال في أيدي الأمريكان .. وأسألوا " جون كيري " والمجلس العسكري والأخوان المسلمين؟
dressamabdalla@yahoo.com