فضاء الرأي

العراق الخطر... والمسكين

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

امس كان طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية. اليوم "ارهابي"، فار من بغداد ولاجىء الى كردستان "المحررة". حال رفيقه في القائمة العراقية ليس أقل بؤسا: من نائب رئيس وزراء الى ممنوع من دخول مكتبه في مبنى مجلس الوزراء. ايضا في يوم وليلة.
والشخصيتان من الفئات الأوفر حظا في العراق. الأقل حظا من ابناء البلد، وفيهم ربع السكان ممن يعيشون على اقل من دولارين في اليوم، سيضحكون في عبهم: كلنا في الهوى سواء. لا يوجد كبير في البلد. السلطان الناشىء يواصل سيرة السلطان المؤثل. وهو سلطان عادل في توزيع نقص الاحترام على الجميع.
ان قصة الحضارة، في واحدة من اهم وجوهها، هي نضال الانسان المديد والشاق من اجل تجاوز تاريخ الامتهان والوصول الى تاريخ الكرامة. ولكثير من المفكرين بدا التاريخ وكأنه مسرح الامتهان، وان دخول الانسان عصر حقوق الانسان هو بشارة " نهاية التاريخ".
ولعل منظور "الهمجية" المقابل ل "الانسانية" اكثر تبسطا من منظور "التاريخ" المقابل ل "نهاية التاريخ". الهمجية هي حيث يكون احترام الانسان بالناقص. والانسانية على العكس، هي تزايد معدل الاحترام.
ولكل شعب من شعوب الأرض نصيب يزيد او ينقص في هذه القصة. ولعل قصة العراق واحدة من اكثر قصص "التاريخ" حزنا، منذ مالت عنه الدنيا، ونادى لسان الكون على آخر حضاراته بالغروب، وانهالت عليه دياجير التتار.
في عهده العثماني(وهل انتهى؟) كان العراق بولاياته الثلاث قد أمسى واحدا من أفقر اقاليم الامبراطورية العتيقة. وكانت علاقة الادارة بشعبه علاقة إذلالية تامة. كان الشعب مادة ضريبة وجندية للإدارة. وكادت هذه المادة تحرم البلاد من الغنى والشباب معا. فالشاب فار من شبح السخرة في حروب الدولة. والغني يتستر بالفقر تهربا من الضريبة.
مع نشأته الحديثة، وصبوته للإنعتاق من العدم العثماني، لاحظ رجل كبير، ان طليعة البلد من رجالات الحكم، يستخدمون اسوأ وسيلة لتحقيق هدف سام. قال انهم يريدون ترقية الأمة بإذلال أبنائها. اذلال او احترام بالناقص مرة اخرى. كان صاحب الملاحظة هو الملك فيصل الأول مؤسس العراق الحديث. وكان مذعورا من اندفاع الطبقة السياسية الطائش للترقية بالإذلال. ان النية الطيبة كلها شر اذا لم تنفذ بوسيلة طيبة.
لم يعرف العراق الحديث رجلا اكبر من فيصل الأول. في بدايات الثورة العربية كان لورنس العرب قد واجه الخيبة تلو الأخرى وهو يبحث عن شخصية عربية قيادية. وكان جالسا ذات يوم فاذا بفارس يتقدم مجموعة من الخيالة. وقد سحر به قبل ان يعرف انه الأمير فيصل. كان فيه محيا الرجل العظيم. كان فيصل رجلا يعلي الاحترام الى مقام القيمة الأولى. قال يوما لرجاله:" ينبغي احترام الرأي مهما كان حقيرا".
ورغم اخلاص الباشا نوري السعيد لمليكه الأول، الا انه خالفه في اهم خصائصه، في الاحترام. فالباشا، وهو رجل كبير ايضا، " تعثمن" على نحو ما آخر عمره. او قل عاد لسيرة الترقية بالإذلال. ففي هذه المرحلة جلس على عقيدة جامدة خلاصتها ان الديمقراطية " متشتغل" بالعراق وان مجال العمل الممكن والمفيد هو تحسين الاقتصاد.
وليست هناك " اهانة" لشعب أكبر من الايمان بأنه ليس أهلا للديمقراطية. ويروى ان الباشا استلقى على قفاه يوما من الضحك حين عرضت عليه فكرة اقامة حديقة للحيوانات. قال: "احنا ناقصين!".
هل هناك ما هو اكثر ايلاما من نظرة حاكم كهذه الى شعبه؟
كان هذا هو الباشا الذي جمد في ال 15 سنة الأخيرة من عمره. الباشا الذي كبر وفقد القدرة على المبادرة.
أما مع العهد الجمهوري فقد تراجعت الفكرة وتقدمت العضلة. بدأ عصر الفوضى وأصبح الاحترام " هريسة". ان الفرد او البلد الذي لم يحظ بالإحترام المناسب خطر ومسكين. انه احتمال انفجار ومشروع مأساة. ولربما أمكن رد كبرى المحن البشرية الى نقص في تقدير فرد او جماعة. كم من ملايين البشر كان يمكن ان يأتوا العالم ويغادروه طبيعيين هانئين لو وجد اشخاص مثل ستالين او هتلر او بول بوت ما يسد حاجاتهم الى الاحترام؟ ماذا كان العراق سيصبح اليوم لو أحاط طفولة صدام حسين بمقدار من الاحترام؟ كم كان العالم سيوفر على نفسه من المآسي والمحن لو أجهد نفسه أكثر فأكثر في محاولات اشباع " غريزة الإحترام"؟
هل من الصعب علينا استيعاب ان "الإحترام" هو في المقام الأول اقتصاد في المحن؟ هل يتعسر علينا الإحساس بالهستيريا المهيمنة حيث تكون " غريزة الاحترام" في أشد حالاتها جوعا؟ الا نرى الناس كائنات مسعورة كلما قلت نسبة اوكسجين التقدير في فضائها؟
ان السياسة هي أخلاق مطبقة على المجتمع. والسياسة تبدأ عملها، وتصبح أخلاقية، عندما تشتغل في التاريخ، ولا يشتغل التاريخ بها، عندما تقود التاريخ، ولا يقودها التاريخ. ان " قلة الاحترام" في العراق هي من نتائج شغل التاريخ في السياسة، لا شغل السياسة في التاريخ. هي شغل الموتى في الموتى.
السياسة هي نقل التاريخ الى المتحف واعادة الحياة الى الواقع. وها هي بلاد " الربيع العربي" قد بدأت الشغل في التاريخ. العراق ينتظر. ينتظر نهاية قصة الظلام. ينتظر الكهرباء. لعلها ستكون قاطرته للوثوب الى الربيع العربي. وحتى ذلك الحين فان البلد، الهاشمي، المالكي، الحجر، الشجر، أنت، أنا، خطر ومسكين، وان كان بيننا " من يتبختر ساعة على المسرح". لكأننا جميعا أدوات عمياء بيد تاريخ العجز الصلب، والفشل المتكرر والناجح دائما في شق دروب جديدة للقسوة.
بلاد الرافدين، يا حبيبة، هل هناك أرض أظمأ منك الى الرحمة؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تعليق
ن ف -

لم تكن قرصة الخبز وحدها سبباً في ((ربيع العرب))، إنما ثقافة الإذلال وقلّة الإحترام التي عانى منها الإنسان العربي منذ الأبد وإلى يومنا هذا. أيها الكاتب، أنت على حق فيما ذهبت إليه. مقالتك تستحق القراءة والتأمل.. تقبّل رائع احترامي.

تعليق
ن ف -

لم تكن قرصة الخبز وحدها سبباً في ((ربيع العرب))، إنما ثقافة الإذلال وقلّة الإحترام التي عانى منها الإنسان العربي منذ الأبد وإلى يومنا هذا. أيها الكاتب، أنت على حق فيما ذهبت إليه. مقالتك تستحق القراءة والتأمل.. تقبّل رائع احترامي.