فضاء الرأي

توديع فاتسلاف هافيل، رمز الحرية والأمل..

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ودع العالم المتحضر فاتسلاف هافيل، ذلك المثقف الأوربي البارز، والرئيس التشيكي السابق، الذي رحل للتو، توديعا يليق بما كان يرمز إليه من تفان من أجل الحرية ومن طاقة الأمل في التغيير برغم القمع الدموي والحصار البوليسي المعروفين عن الأنظمة الشمولية.
كان هافيل يجسد في سيرته الإبداع الفني والثقافي والفكر الوقاد، والسياسي الحصيف والجريء، والمكافح المثابر سلميا من أجل غد أفضل للشعب. وكان يؤمن بما يسميها ب" قوة الضعفاء" في وجه الطغيان، وحتمية انتصارها في نهاية المطاف.
عرف هافيل السجون في العهد الستاليني التشيكوسلوفاكي مرات، ولكنه لم يهدأ في العمل من أجل حرية الشعب. وكان في مقدمة من صاغوا [ميثاق ال77 ] عام 1977، الذي كان يطالب السوفيت والنظام التشيكوسلوفاكي باحترام المواثيق الدولية عن الحريات، ومنها اتفاقيات هلسنكي التي توهم الغرب في حينها أن الأنظمة الستالينية سوف تنفذ ما قد وقعت عليه.
لقد تنفس الشعب التشيكوسلوفاكي في صيف 1968 أنسام الحرية فيما عرف ب" ربيع براغ"، في عهد الزعيم الإصلاحي دوبتشك، وسرعان ما جاء جواب موسكو على ذلك الربيع بالدبابات التي سحقت الربيع وأهل الربيع، مثلما سحقت ربيع بودابست عام 1956. وقد تبين أن الأنظمة الشمولية لا يوثق بتعهداتها والتزاماتها المعلنة، وأنها تراوغ وتناور، ولكن طبيعتها ونهجها العام لا يتغيران، كما يحدث حاليا في سورية.
عرفت براغ سنوات عديدة في الستينات، وكنت أسمع كثيرين من الشابات والشبان ينتقدون النظام الستاليني ويتطلعون للحريات القائمة في الغرب. وأذكر حالات وقعت لطلبة شيوعيين عراقيين وعرب كانوا يدخلون في مشاحنات حادة مع كل تشيكي يردد أمامهم الشكوى من النظام وينتقد الوجود العسكري السوفيتي في البلاد. وكنت شخصيا طرفا [ كان ذلك في أواخر 1969 وفي مقهى ببرلين الشرقية] في جدال مع عدد من الشابات والشبان الذين كانوا يهاجمون النظام الستاليني في ألمانيا الشرقية على مقربة منا، فرددت عليهم بحماس عبر مترجم من أصدقائي العراقيين، ورحت أهاجم الغرب!ا والقصد أن شرائح واسعة من الشعب، ولاسيما من الشباب، كانت، وبرغم القيود، تجرؤ على النقد وإن كانت المظاهرات محظورة. فتلك الأنظمة الستالينية، في براغ وبرلين الشرقية وغيرهما، كانت قد فقدت الكثير من مصداقيتها، وتبين للناس الكثير من أباطيل دعاياتها المفبركة عن الأوضاع" المثالية" في الشرق الستاليني وعن "المآسي والانهيار الأخلاقي والسياسي والفقر" في الغرب.
ناضل فاتسلاف وكوكبة من جيله من أجل الحرية. وقبل بلعزيزي، أحرق الطالب التشيكي بالاش نفسه احتجاجا على التدخل السوفيتي وعلى مظالم حكام بلاده. ومرت سنوات، فإذا بمظاهرات براغ في أواخر 1989 تسقط النظام الاستبدادي الشمولي سلميا، وإذا بهافيل رئيسا للجمهورية من دون إرادته بعد أن هتفت باسمه الجماهير، وجاءت به الانتخابات. وإذا بها ديمقراطية حقيقية، لا مجرد شكل وإعلان وادعاء كما في عراق اليوم مثلا!
بعلزيزي أحرق نفسه، وشباب تونس ناضلوا ببسالة، فإذا الحصاد هو صعود الإسلاميين، الذين كانوا حتى الأمس القريب ينددون بالديمقراطية بوصفها سلعة غربية مستوردة بحسب دعاياتهم. وهذا ما حدث أيضا لمصر، وما يحدث في ليبيا، وقد يحدث في اليمن. هنا عندنا شربت الساحات والميادين من دماء الانتفاضات ليتسلقها أعداء الديمقراطية، وهناك، في براغ وغير براغ من الشرق الأوروبي، تكلل النضال الشعبي والتظاهرات السلمية بالحرية والديمقراطية العلمانية والانخراط في مسيرة البشرية من أجل عالم أفضل. ويجب ذكر ان هافيل لم يكن مرتاحا لانفصال سلوفاكيا في بداية التسعينات، ولكنه احترم إرادة الشعب السلوفاكي في تقرير المصير. كما عرف هافيل كيف ينسحب من السلطة وهو مريض دون تشبث بها. وهذا ما نراه أيضا في التداول السلمي للسلطة في تلك الدول الشرقية، التي كان الاستبداد الستاليني ونظام الحزب والقائد الأوحد يحكمانها. وعندنا؟؟!! الحاكم يظل يتشبث بالسلطة مهما فقد رصيده، ولو بإغراق الشوارع والساحات بالدم، كما حدث مع القذافي، وكما يحدث مع الأسد اليوم.
هنا، في مجتمعاتنا، هيمنة دهاقنة الفتاوى المتخلفة، والأمية والجهل، والمزايدات السياسية، وثقافة وممارسات العنف وإلغاء الآخر، وضياع البوصلة السياسية؛ وهناك مجتمعات كانت في الأساس متقدمة صناعيا وثقافيا واجتماعيا. والنتيجة: ربيع حقيقي هناك، وربيع بالاسم هنا، ينذر بشتاء شديد الظلمة.
وتحية لذكري فاتسلاف هافيل، الذي لم تنجب مثله أو من هو قريب منه أية انتفاضة من الانتفاضات العربية الجارية! وشتان بين هذه المجتمعات والبشر وبين ما نجده، ومن نجدهم هناك!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف