فرنسا والاشتراكية (2/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في مقالنا السابق، "فرنسا: هل أعمتها الاشتراكية؟!(1)"، توقفنا لدى بعض ما ورد في كتاب "فيليب نيمو"، الاختصاصي الفرنسي في الفلسفة السياسية، وهو الكتاب المعنون "فرنسا المعمية بالاشتراكية". وكان من ضمن ما تناولناه الفصل الخاص عن قوانين فرنسية حول مناسبات تاريخية اعتمدت في فترات حكم اليسار الفرنسي، والتي تقيد حرية الرأي والبحث؛ ومن ذلك القانون الذي يعاقب كل من يبدي ملاحظة أو تصحيحا أو تعديلا حول المحرقة النازية، أو ما يخص تجارة الرق. وذكرنا أن البرلمان الفرنسي بصدد اعتماد قانون مماثل حول عملية إبادة الأرمن في تركيا عام 1915. وكانت النائبة "فالاري بواير" هي التي قدمت المشروع للبرلمان. وقد نشر الباحث الفرنسي فرانسوا تيريه، عشية جلسة البرلمان، مقالا في الفيجارو اللبرالية يحذو فيه حذو مؤلف الكتاب، رافضا صدور قانون برلماني عن إبادة الأرمن لا لكونها لم تقع ولم تكن جريمة كبرى، وإنما التاريخ لا تكتبه البرلمانات ولا القضاة بل المؤرخون والباحثون المختصون.وقد صدر القرار أخيرا ليثير زوبعة تركية رسمية عنيفة من قطع لاتفاقيات التعاون مع فرنسا وحملة دبلوماسية وسياسية وإعلامية صاخبة. أما النائبة المذكورة، فقد غزا من سموا أنفسهم "ناشطين مع تركيا" موقعها الألكتروني ووضوا العلم التركي فيه مع عبارات تهديد "بالقتل والاغتصاب والتدمير"!!! ومن قبل، كان تركيان قد ألقيا قنابل مولوتوف على مبنى مجلة فرنسية في باريس نشرت رسما للرسول الكريم ومقالا بقلمه يحذر من حزب النهضة التونسي.
لقد أبدينا اتفاقنا مع المؤلف حول أن توثيق المناسبات التاريخية هو مهمة المؤرخين والباحثين الجامعيين وليست مهمة البرلمانات والقضاء، ومن هنا يمكن القول إن القرار الفرنسي لم يأت في محله. ويظهر أن بعض المسئولين الحكوميين- كوزير الخارجية - غير مرتاحين للقرار، ولكن لا من منطلق حرية البحث والرأي، بل لاعتبارات سياسية بحتة، أي أهمية العلاقات مع تركيا.
إن جريمة إبادة الأرمن نفذت قبل حوالي مائة عام، وكان مما يشرف الحكومات التركية المتعاقبة الاعتراف بوقوعها وإدانتها كما فعلت ألمانيا مع الجرائم النازية. فليس جيل أردوغان مسئولا عن الجريمة. أما ردود فعله العاصفة، وموجة الغضب والهياج التي أثارتها داخل تركيا وبين أتراك فرنسا، فلا تدل على عقلية متحضرة، بل على إمعان في العصبية القومية التركية، وتبرير غير مباشر للجريمة. وإذا كان أردوغان يتباهى بأن نموذجه السياسي صالح للانتفاضات العربية، فعليه أولا أن يفتح صفحة جديدة مع مأساة الأرمن، ومع الأرمن بعامة، وكذلك مع الشعب الكردي في تركيا، ومع حرية الصحافة في بلاده.
المؤلف "نيمو" يتطرق لقانون آخر هو قانون "بليفين" المعتمد في 1972 زمن حكومة شابان دلماس، الذي كان يدعو إلى " المجتمع الجديد". وجاء القانون كصدى لقرار دولي حول إلغاء كل أشكال العنصرية. وفي رأي المؤلف، أن القانون الفرنسي يعيد النظر في قانون 1881 الذي كان يضمن حرية الرأي والضمير كاملة. القانون الجديد يعاقب قانونيا كل من "يثير" الكراهية أو التمييز أو العنف بسبب العرق أو الدين أو الجنس. ويرى المؤلف أن الكراهية بحد ذاتها مجرد عاطفة لا فعل، بينما العنف هو فعل يجب أن يعاقب. ويرى أن عاطفة الإنسان، حتى لو كانت رديئة وخطيئة لا تستوجب العقاب ما لم تنتقل لحيز العمل، فضلا عن أن القضاة سيفسرون القانون حسب قناعاتهم الأيديولوجية والاعتبارات الذاتية. ووفقا للقانون، فإن مجرد حديث شخص مع صديق له في مقهى أو مكان عام آخر يشم منها كراهية لدين ما أو عرق ما، يمكن أن تجره للقضاء لو كان هناك مشتكي أو مشتكون، مع أن المتكلم لم يدع للعدوان على أحد. وأكثر من ذلك، ففي العادة يتقدم بالشكوى فرد ما أو عائلته في حالة الشعور بان شخصا ما أهان عرقه أو دينه، بينما القانون يبيح لمختلف الجمعيات التي تدعي أنها معنية بتقديم الشكاوى؛ ومنها جمعية مكافحة التمييز العنصري. والنتيجة، كما يرى المؤلف، هيمنة مناخ من الحذر والخوف من التعبير عن رأي ما حتى في نطاق خاص ومحصور، وكما لو كانت هناك شرطة رقابة تترصد. ومن السائد في فرنسا ودول أوروبية غربية أخرى تجنب ذكر أصل هذا المجرم أو الإرهابي أو ذاك لو كان من أصل غير فرنسي، بحجة أن في ذكر الأصل إثارة للتمييز العنصري والكراهية. عادة يكتبون " المتهم الفرنسي فلان" أو " الأميركي " فلان، بينما هو باكستاني متجنس أو عربي متجنس، مثلا. وأما الجمعيات المشار لها، فإنها عموما واجهات لأحزاب من اليسار.
يقول الكتاب إن قانون "غايسو" [ نائب شيوعي] حول المحرقة لو كان قد اتخذ عام 1945
فقد كان يرمى في السجن بتهمة " إنكار جريمة ضد الإنسانية" ، كل من ينسب مذبحة الآلاف من الضباط البولونيين في بلدة "كاتين" إلى السوفيت وليس للنازية. وللعلم فإن الروس أنفسهم صاروا اليوم يعترفون بأن ستالين هو الذي أمر بتلك المذبحة.
في الوقت الذي يظهر فيه كتاب "نيمو"، نجد باحثين آخرين يفتحون سجل التاريخ الفرنسي وما جرى إهماله تحت تأثير الأيديولوجيا اليسارية أو مراعاة للعرب أو السود. ومن ذلك مثلا تجاهل الاحتفال بمعركة أوسترليتز الذي انتصر فيها نابليون على جيوش أوروبية أخرى. والسبب أن كاتبا من الولاية الفرنسية السوداء، غواديلوب، هاجم نابليون، متهما إياه بالعنصرية والفاشية ومعاداة السامية.
لقد وجد دوما تلاعب بالتاريخ في كل البلدان، ومنها فرنسا، كما يقول باحث آخر، هو "جان سيفيليا" في كتاب " تاريخيّا هو خطأ". لكنه يستدرك ليقول إن النظرة المعاصرة لأحداث معينة مرت تتميز باستنكار انتقائي يضع في قفص الاتهام ماضي الغرب، وخصوصا فرنسا. ويذكر أن ادوار رجال مهمين من أمثال سان لويس ولويس الرابع عشر ونابليون تكاد تطرح وتختفي تدريجيا من البرامج المدرسية. ويرى آخرون أن هناك تشويشا متعمدا كلما بحث موضوع الكولونيالية، أو العلاقة بين الإسلام والغرب. وقد تعرض أحد الباحثين الفرنسيين قبل سنوات لحملات صاخبة وحادة بسبب كتاب له عن الرق، يبين أن الأوروبيين لم ينفردوا بتجارة الرقيق، وأن ضحايا هذه التجارة في بلدان الشرق بلغت 17 مليونا ما بين 650 و1920. وقد تجرأ هذا الباحث ليقول إن جريمة الرق لم تكن عملية إبادة [كما يقول الأفارقة واليسار] وذلك لأن أصحاب الرقيق كانوا بحاجة لهم للانتفاع والربح، ولم تكن من المصلحة قتلهم مع أن ظروف حياتهم كانت بالغة السوء والظلم. وقد انبرت عدة منظمات باسم مكافحة التمييز العنصري للشكوى ضد الباحث المذكور [grenouillean ] مما أثار رد فعل معاكسا بين المؤرخين والجامعيين، فأصدر 1000 منهم بيانا يقول إن التاريخ ليس دينا ولا أخلاقا، ولا تجب كتابته لاعتبارات أخلاقية أو تحت إملاء الذاكرة، أو تحت تهديد القضاء. ومن هؤلاء ولدت جمعية باسم " الحرية لعلم التاريخ"، برآسة "رينه ريموند".
موضوع آخر راح يطرح اليوم، وهو عن دور الكنيسة الغربية، وهل كان كله ضد العلم [ حالة غاليلو]. ويورد البعض أنه برغم محاكم التفتيش، فقد ظهر بين رجالات الكنيسة علماء أفذاذ ساهموا في تقدم العلوم الطبيعية والفلكية، ومنهم روجيه بيكون وكوبرنيك ونيقولا أورسيم. كما يثار اليوم للسجال دور الهيلينة اليونانية في الحضارة الغربية، وكيف أن الغرب لم ينقطع في القرون الوسطى عن متابعة الحضارة اليونانية القديمة، وذلك لوجود جزر يونانية في أوروبا، ولعدم انقطاع العلاقات بين العالم اللاتيني والإمبراطورية الرومانية الشرقية. كما أن المسيحيين العرب هم الذين ترجموا التراث الفكري اليوناني، الذي انتقل من العرب للغرب في مناطق الاحتلال الإسلامي. وإن ما قدمه المسلمون للغرب كان واحدا من بين الروافد- لا الرافد الوحيد- التي أسهمت في الحضارة الغربية الحديثة.
ترى ماذا نقول نحن عن كتابة التاريخ العربي والإسلامي، وكما يدرس في مدارسنا والجامعات؟؟ كيف يدرس الطلاب تاريخ الغزوات الإسلامية والعهدين الأموي والعباسي مثلا؟؟ وكم طاغية دموي يجري تمجيده والتغني باسمه حتى في ميادين الانتفاضات " الربيعية"، من أمثال خالد بن الوليد ا؟!! في فرنسا تشويه لبعض صفحات التاريخ، وتقييد لحرية التوثيق التاريخي تحت تأثير الأيديولوجية اليسارية. أما عندنا، فإن الكتابة تجري بتأثير المكابرة القومية المتضخمة أو تمجيد " الجهاد لإعلاء راية الإسلام". ومن هنا مثلا أننا لا نزال نبكي على الأندلس وكأنها كانت ملك العرب والمسلمين منذ وجدت على الأرض!