قيادات الألفية الثالثة، ودبلوماسية المستقبل (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
أصاب، عادة، بصدمة غير عادية، حينما أسمع القيادات الغربية للألفية الثالثة، التي درست في أرقى جامعات العالم، وحصلت على خير تعليم وتدريب، وفي دول تعتبر من أكثر الدول رقيا وحضارة وثقافة في التاريخ البشري، وبها نظم سياسية تعتبر من أرقي ديمقراطيات العالم، وهي تتحدث بلغة القرون الوسطى، وبتحليل أرسطوطالي، وبفكر الحرب الباردة. كما استغربت، مؤخرا، مجلة الإيكونوميست الاقتصادية البريطانية، في افتتاحيتها، في السابع عشر من ديسمبر الماضي، لتصريح رئيس الوزراء البريطاني، حينما سافر لحضور مناقشات منطقة اليورو، حول تنظيم عمل المؤسسات المالية، وانقاد منطقة اليورو من تكرر أزمة مالية أخرى، حيث صرح بأنه لن يوقع على أية اتفاقية لا تتماشى مع مصالح بريطانيا، بدل أن يتحدث عن تحقيق مصالح أروبية بريطانية مشتركة، لفوز جميع الأطراف، وفعلا حضر اجتماعات اليورو، ورجع خائبا، وبخفة حنين، فعرض الاقتصاد ألأوروبي مع الاقتصاد البريطاني، لخطورة أزمة انهيار خطيرة.
وقد علقت مجلة الايكونوميست بالقول: "وبينما تقرأ هذا المقال، يعمل المحامون الأوربيون على وضع نظام مالي أوربي، يرجع الانضباط لاقتصاديات منطقة اليورو. ومع السنة الجديدة، ستعمل الدول السبعة والعشرون، في منطقة اليورو، ما عدا دولة واحدة، على تنقيح تفاصيل المعاهدة الجديدة، بينما تخلفت الحكومة البريطانية عن شركائها الستة والعشرين، مع أنها وعدت ببقائها كجزء مركزي للاتحاد الأوربي، وبأن تستمر لندن العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي. لقد فشلت القيادات الأوربية، مرة أخري، في حل مشكلة اليورو، وقد تنهي المعاهدة الجديدة السوق الحرة، أو قد ترفض من أحد دول منطقة اليورو، لتنهي الاتحاد بأكمله، بينما يتنافس اليورو مع الزمن، لأن السوق الحرة قد تدفع دولها للإفلاس، بعدم دفع ديونها. ومع فقد ثقة المستثمرين والناخبين لليورو، ستصبح مهمة انقاد اليورو مهمة أصعب، والحقيقة قريبا أو بعيدا، ستصبح مهمة انقاد اليورو بعيدة المنال. وقد تنذر هذه القمة بتغير طبيعة الاتحاد الأوربي سلبيا، لتغير مستقبل التوجه الصحيح لليورو، كما أن هناك قضية عدم وضوح الرؤية البريطانية لعضويتها في الاتحاد الأوربي، فقد أصبحت قريبة من الخروج منه، وسيكون الاتحاد الأوربي بدون المملكة المتحدة، أكثر محدودية وأقل لبرالية، بل قد يصبح اتحاد أوربي بدون اليورو اتحادا معدوما."
تصور عزيزي القارئ قيادة شابة في دولة عصرية، قد ينهي اتحاد غربي، خلق السلم والاستقرار، وطور اقتصاديات منطقته، وقواها، ليحميها من حروب مدمرة مستقبلية، ويبقي السؤال: هل هذه السياسات للقيادات العالمية مقبولة في الألفية الثالثة، بعد أن تحول العالم، بفضل تكنولوجية الاتصالات والمواصلات لقرية عالمية صغيرة، كما أصبحت تحدياته، تحديات عولمة مشتركة ومعقدة؟ أليس من الغرابة أن تنادي دول الخليج، لتحويل مجلس التعاون الخليجي لاتحاد عربي خليجي، بل تدعو دول عربية أخرى للانضمام أليه، في الوقت الذي يحاول زعيم أوربي محافظ القضاء على الوحدة الأوربية؟ هل بدء العرب في التقدم، كما تقدمت اليابان وكوريا وسنغافورة وتيوان في القرن العشرين، وكما ستتقدم البرازيل والصين والهند واندونيسيا في القرن الحادي والعشرين، بينما ظهرت علامات التشتت والإفلاس والتأخر في أوروبا الغربية، حسب رأي المفكرين الغربيين؟ وهل انتهى العمر الافتراضي لقيادات الحرب الباردة وايديولوجياتها المفرقة؟ وهل صدق الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، هنري كيسنجر، حينما قال، بأن هناك حركة تاريخ طبيعية، أنتجت في كل قرن حضارة فريدة، فكان القرن التاسع عشر للحضارة البريطانية، بينما كان القرن العشرين للحضارة الأمريكية، ليبقى السؤال: لمن تكون حضارة القرن الحادي والعشرين؟ هل ستكون حضارة ألألفية الثالثة، حضارة عولمة مشتركة بين الشرق والغرب، بل حضارة مشتركة بين القارات الخمس؟ وهل سيحتاج العالم في الألفية الثالثة لسياسات إستراتيجية عولمة مسالمة، تحترم الإنسان، لا ربحية السوق، وتعمل على سعادته وازدهاره؟ وهل ستتغير المؤشرات الاقتصادية من مجموع الناتج المحلي الإجمالي، إلى مؤشر النصيب العادل لكل فرد من الناتج المحلي الإجمالي؟ وما دور الدبلوماسيين في خلق السلم والاستقرار في عالم العولمة الجديد؟ وكيف سنخلق الأجيال الجديدة من هؤلاء الدبلوماسيين؟
لقد بدء يستيقظ التنين الصيني بعد قرنين من النوم العميق، فقد كان في عام 1800 من أحد أكبر اقتصاديات العالم، ليرجع في القرن الحادي والعشرين ينافس الولايات المتحدة في صدارتها للاقتصاد العالمي. ولو راجعنا التاريخ العربي لنجده قد عاني في القرن العشرين من الفقر والتخلف والتشتت والتطرف، وهل سيرجعنا التنين الصيني، للحلم بحضارة عربية معاصرة بعد أن حقق العرب في الأندلس حضارة إنسانية متناغمة، بعيدة عن الطائفية والقبلية والتطرف والعنف، والتي عبرت عنها المؤرخة البريطانية، كارين ارمسترونج، بقولها: "في دولة العرب الإسلامية، الأندلس، عاشت الأديان السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، في تناغم نسبي جميل لأكثر من ستة مائة عام، وحينما استولى الملك فيرناند، في عام 1492 على اسبانيا، خير اليهود بين أن يتحولوا للمسيحية أو أن يتركوا، وتقريبا، جميعهم استقبلوا بالأحضان في الدول العربية الإسلامية."
فقد عانى اليهود الكثير في الدول الغربية، بينما استمتعوا بحياة كريمة في المجتمعات العربية قبل أن يستغل الاستعمار اليهود في دولة تحمي مصالحهم. فقد حاول المحامي والصحفي المجري، ثيودور هرتزل، في القرن التاسع عشر، أن يحمي اليهود بإنشاء دولة جديدة لهم لكي يتوقف اضطهادهم التاريخي، وقد وجد وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، من هذه الفكرة فرصته الذهبية في بدايات القرن العشرين، لكي يحمي الضفة الشرقية لقناة السويس، من خطر الطائرات الحربية العثمانية، وذلك بغزو فلسطين، بعذر خلق وطن لليهود، ليستطيع أن يقنع الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، ويدرو ويلسون، بدفع يهود بريطانيا لإقناع اللوبي اليهودي الأمريكي للقيام بحملة أمريكية للموافقة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وما أن بزغ فجر منتصف القرن العشرين حتى يجد الرئيس الأمريكي ترومان، حاجته لأصوات اليهود الأمريكيين، ليضمن أعادة انتخابه للرئاسة الأمريكية، حينما كانت احتمالات نجاحه ضئيلة جدا، بذلك دفع لإنشاء الدولة العبيرية، بعد أن عاني العالم من حربيين عالميتين مدمرتين، ولم تمر سنوات قليلة حتى تضطر المملكة المتحدة الانسحاب من فلسطين وتركها في حماية الأمم المتحدة، لتبدأ بعدها حروب الحرب الباردة في الشرق الأوسط وشرق أسيا، والتي أدت لتراكم ديون الغرب، وزاد الطين بلة التلاعب المؤسسات الغربية بديون الإسكان، مما قرب إفلاس هذه الدول. وقد عبرت المؤرخة البريطانية، كارين أرمسترونج، عن نتائج هذه التغيرات بالقول: "إذا نجحت الصهيونية بأهدافها البرغماتية، والعصرية، المحدودة، إنشاء دولة يهودية علمانية، لكنها أيضا ورطت الشعب الإسرائيلي، والغرب، في مواجهة، لا تبدو بأنها ستنتهي." كما عبرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين اولبرايت عن ماسي حروب القرن العشرين بقولها: "لقد كان القرن العشرين من أكثر القرون دموية، في تاريخ البشرية."
وقد انتشر في القرن العشرين نوع آخر من الحروب، وهي الحروب الغير النظامية، يقيدها أحيانا جماعات، عبر عنهم الكاتب والفيلسوف الايرلندي الفيلسوف، جورج برنارد شو، بقوله: "الرجل العاقل يتلاءم مع أوضاع العالم، بينما يصر الرجل الغير عاقل على أن يتلاءم العالم مع رغباته." كما عبر ملهم الهند العظيم، مهاتما غاندي، عن جنون الانتقام في عالم القرن العشرين، بقوله: "العين بالعين يؤدي بالعالم للعمى." وقد أدت فعلا الظروف الصعبة التي عاشها البعض في القرن العشرين لزيادة العنف والتطرف بطريقة عمياء، والذي يفسره أسبابه العالم النفسي الأمريكي، أبراهام ماسلو، في هرم الحاجيات، الذي يوضح العلاقة بين توفر حاجيات الإنسان الفزيولوجية، كالشرب والأكل والجنس، والحاجيات الأمنية كالملبس والمسكن والاستقرار الزوجي العائلي، والاستقرار المجتمعي الأمني، وحاجيات أثبات الذات بالعمل المنتج المبدع، الذي يحقق للإنسان الإحساس بالمشاركة المجتمعية، فيطور تقديره لذاته، والرغبة الغريزية للمحافظة على حياته. بينما تؤدي انعدام هذه الحاجيات، لفقد الإنسان الأمل وانخراطه في اليأس والخنوع، وضعف تقديره لذاته، وفقد رغبته في الحياة، لتتهيأ الظروف المناسبة للأحزاب المتطرفة، لتشجع هؤلاء على التطرف والعنف، وتوظفهم لمغامرات انتحارية، يأملون منها الدخول للجنة، للتنعم بأنهار الخمر، مع الحور العين. لذلك، على أي مسئول عاقل ألا يترك، من يضن بأنه عدوه، بدون شيء يعيش من اجله. ويبقى السؤال: كيف يمكن خلق نظام عالمي جديد، بعلاقات دولية، تعتمد على نظام عولمة، يضمن المساواة، والديمقراطية، وحرية التجارة، وبقوانين عالمية منصفة للجميع، يحقق سعادة الإنسان وازدهاره، ويحول العالم لمكان أكثر سلما وحيوية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان