السلطةُ والوهمُ والسّليكون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
السلطة والتسلط
يُشار إلى مآسي شكسبير على أن ثيمة "شهوة السلطة" تشكل محورها الأساس. فحب الاستحواذ والتسلط، على سبيل المثال، دفع (مكبث) إلى تدبير قتل الملك(دنكن) ليحل محله. لقد خرق مكبث الأعراف السائدة بقتل ابن عمه وضيفه وملكه مرتكبا"ثلاث جرائم في آن واحد" حسب رأي البعض(أنظر، مقدمة صلاح نيازي، مكبث: 12). على أن تعطشه للسلطة لم يجعله قاتلا وحسب، إنما صاغ منه شخصية مجرمة مستبدة وضائعة. نفس الشيء تقريبا نجده متمثلا في شخصية (كلاوديوس) قاتل أخيه: الملك هاملت في مسرحية (هاملت).
من نافلة القول إن للسلطة سحرا قد يغري الكثيرين بالموقع والجاه والمال وهذه من الأشياء التي تجعل المولعين بها يتفانون في الحفاظ عليها ويلتصقون بها قدر المستطاع. لكن ما يعنينا هو أن السلطة بقدر ما لها من قدرة تملكية واستحواذية، تقوم بمرور الوقت بتغيير طبيعة المرء، من إنسان عادي إلى حاكم ثم إلى طامع بالبقاء فترة أطول. بعدها يصبح البابُ مفتوحا على مصراعيه لكي يصبح هذا الحاكم مسلكيا متسلطا ثمة مستبدا، وللاستبداد درجات.
ما الذي يا ترى يمكنه أن يحول دون بلوغ المرء إلى درجة الطغيان وانتهاك كرامة الناس، وإهدار دمائهم وأموالهم وتغييب مستقبل أبنائهم وبلادهم؟ إذا تركنا طبيعة الفرد ذاتها ودرجة تحضر أو تخلف المجتمع الذي يعيش فيه باعتبارهما عاملين مهمين على صعيد كبح أو تنامي التسلط والطغيان، نقول: كلما خضعت الدولة لدستور مدني متحضر وقوانين وحدود ورقابة شعبية تمت إلى حد كبير محاصرة وكبح تحول شخصية الحاكم إلى نقطة لا رجعة منها وعنها: أي دخوله في جغرافية الاستبداد والطغيان. وعليه فنشوء هكذا حاكم وحكم مستبدين يخلق لنفسه ميكانيزم يتألف من أزلام ومؤسسات ودوائر منتفعة فيصبح من الصعب إزاحته بدون تضحيات. لذلك، إذا أردت لبلاد أن تبتلى بالفساد وفقدان الآدمية والتخلف والتنصل عن الأخلاق والشعور بالكرامة أعطها طاغية. إذن، لا بد من إيجاد "ميكانيزم وقاية دستورية" يتمثل بسن القوانين والأنظمة الكابحة لتصبح سُدّا حائلا أمام الانسلاخ نحو الطغيان ذاته.
في رواية "أمير الذباب-1954" للكاتب وليام غولندنغ(نوبل في الأدب-1983) يصور لنا كيف تقوم مجموعة من الأولاد وجدوا أنفسهم في مكان ناء منعزل بخلق نظام اجتماعي يضمن لهم البقاء، لكنهم وبعد فشلهم في إدراك مبتغاهم، نرى كيف أن فريقا منهم، لشعورهم، في ظل غياب كابح اجتماعي وقانوني، يأخذ بالتحول إلى همج. إن من بين أهم مصادر السلطة هي القوة والإكراه والتقاليد. قد يخلق التسلط لنفسه تقاليد لا يمكن الفكاك منها بدون مواجهة حقيقية وراسخة.
هناك شهادات وحوادث تاريخية لا حصر لها تندرج في خانة المنتفضين ضد الطغيان. السلطة المستبدة تنظر إلى معارضيها على أنهم مجموعة من المتآمرين والخونة أو المغرر بهم أو المنفلتين أو المخربين والهدامين أو حفنة من المتذمرين، وقائمة توصيفهم مفتوحة تماما. لكن، ما يستوقفني هنا حقا، هو أنني/رغم بحثي الطويل نسبيا/ لم أجد تفسيرا منطقيا لشريحة من تصرفات الطغاة والديكتاتوريين والمستبدين عموما ممن اتبعوا أو يتبعون شتى السبل بشاعة والتواء، للبقاء في دست الحكم لأطول فترة ممكنة. أقول: لم أجدْ تحليلا مُقنعا(خارج نطاق علم النفس والأمراض العصبية)، لتصرف الطاغية في حالات حاسمة يمكن أن تقرر مصيره أو مصير بلاده. فمثلا، قد يتظاهر بعضهم بالبطولة في وقت لا ضرورة لمثل هذا الفعل، أو يجبن في لحظة تستحق أن يبلغ أعلى درجات الشجاعة. فلقد تبجح (صدام حسين) كثيرا في دحر "الأعداء والمعتدين والمتربصين"- على حد وصفه- في لحظة كان ينبغي عليه تدبر أمره بعقلانية بالابتعاد عن أساليب العنجهية وادعاء البطولة والعفرتة الزائفة. لكنه، في لحظة مصيرية تصرف بطريقة مهينة وجبانة للغاية هدر فيها كرامة بلده، في حين كان عليه أن ينهي حياته بما يليق "بجبروت طاغية" الذي خلقه لنفسه بشتى الوسائل. حصل نفس الشيء مع (حسني مبارك) الذي رفض التنحي أو الاستقالة عن منصبه، بعد ثلاثين سنة من الاستحواذ على السلطة، رغم رفض شعبه العلني له، متعللا بالشرعية وعزة النفس التي سلبهما منه الشارع المنتفض، واضعا "كرامته المفترضة" أعلى وأنزه من كرامة شعبه. يقال، إن فرانكو أثناء احتضاره، تناهى إلى سمعه لغط الرافضين له المحيطين بقصره، سأل زبانيته: ما هذا الضجيج؟ فقالوا له: جاء الشعب يدعو إليك بالصحة وطول العمر!
الوهم
ينظر علمُ النفس للوهم، على أنه تأويل مشوّه لبواعث خارجية، يمكن أن تطال الإنسان السوي كذلك. بيد أن الناس الأسوياء يمكنهم أن يصححوا نظرتهم للأشياء بمقارنتها بالواقع والحقائق، لكن المشكلة تصبح أكثر تعقيدا ومدعاة للدرس والمعالجة حينما يتلبس الإنسانَ الوهمُ(الأوهام)، كأن يرى الملابس فوق الكرسي على أنها إنسان جالس، أو كما في حكاية "الملك العاري" الذي يتراءى له أنه يرتدي الثياب المطلوبة. تبقى الانفعالات والعواطف وقصور الملاحظة والتقدير من بين أهم مصادر الوهم. الوهمُ يختلف عن الهلوسة التي تنشأ بفعل عوامل غير خارجية. لكن الوهم، ليس فقط على صعيد البصر واللمس والشم والسمع، إنما يكون في البصيرة والسلوك وتقييم الأشياء والمحيط. ميكانيزم السلطة يخلق أوهاما متعددة لدى الحاكم، لعل من بين أخطرها هو وهمُ "أنه الوحيد القادر على قيادة الناس" أو "ستعمّ الفوضى بغيابه" أو أنه "الأب الشرعي الحاني". بقدر ما يصنع الحاكم وهمه- أوهامه وطرق إيهامه، تفعل السلطة نفس الشيء. حينئذ تنعدم الفوارق بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتصبح جهازا رسميا في خدمة ميكانيزم الاستبداد والتسلط. بحيث تتحول وتشرعن القوانينُ لصالح ديمومة نموذج واحد وحيد لا غير وكل ما يتعارض مع ذلك ينبغي محقه. هناك علاقة جدلية بين الحاكم المستبد وسلطته، بينه وبين جلاده. فبالقدر الذي يتحول فيه الجلادُ إلى آلة تدمير منظمة ومنتظمة في فعلها، يصبح البحث عن الضحية ليس بوصفها خصما وحسب وإنما كهدف يستحق استباحته لديمومة شروط المهنة وفعل البقاء. لذا فكلما طال حكم الفرد أو الحزب الواحد اتسعت آلته التدميرية بحق الدولة والناس، وأصبحت أجهزة الدولة أجهزة سلطوية عمياء بيده والمنتفعين من حوله. لا يوجد حاكم مستبد ينام ليلته دون أوهام وكوابيس، حتى أن أغلب المتسلطين يتناولون المهدئات بشتى أصنافها.
السليكون
السليكون مادة ذات مرونة عالية في التغلغل داخل الفجوات والمسامات ولحمها أو لصقها بعضها ببعض. وهي بهذا الإطار ذات فعالية وديمومة، خصوصا، حينما يجرى استعمالها أو توظيفها بحرفية. غالبا ما توصف هذه المادة، وهي كذلك، بقابليتها على مقاومة المؤثرات الكيميائية، وتبدل الحرارة والطقس، ومؤثرات الطبيعة، وأشعة الشمس وما شابه ذلك. على أن السليكون مادة طارئة مختلقة مصنوعة الهدف منها الإدامة والصيانة، فهي أداة ترقيعية غير طبيعية، يمكن مقارنتها بالعمليات التجميلية في جسم الإنسان.
طيب، لكن ما علاقة ذلك بالسلطة والحكم؟
لقد دخل السليكون الحياة السياسية العربية والدول المشابهة لها منذ سنوات بعيدة. إذ، لم يجرِِ تداول السلطة في البلدان العربية بدون الانقلابات وسفك الدماء أو تزييف سافر ومبرمج لنتائج الانتخابات التي اتبعت في السنوات الأخيرة ذرّا للرماد في العيون. لقد استلف المستبدون من أسيادهم فكرة توظيف المجرمين والخارجين على القانون، لدى الشدائد فيقومون بإطلاق عنانهم لخلق حالة من الفوضى، بعدها، بفترة وجيزة يقوم النظام باستعمال ما امتلك من قوة لإعادة النظام والأمن المفقودين. وهذه أساليب فاضحة ومكشوفة. هكذا يجري توظيف البعض على نطاق واسع لخلق حالة من "الفوضى" و"الإرهاب" و"الذعر" داخل المجتمع. في الواقع العربي والإسلامي يصبح تخويف الغرب "بالإرهاب" وإمكانية "تولي الأصوليين الإسلاميين السلطة" خير وسيلة لتقويض التحرك الدولي المحتمل لفضح طغيان وجبروت قسم كبير من الأنظمة العربية والإسلامية التابعة. يلجأ الآخر الأجنبي لتبرئة نفسه من صمته على ما يجري من انتهاك حقوق الإنسان بحملة نقد متفاوتة، موجهة ومحسوبة سلفا، لامتصاص نقمة الشعوب ضد مضطهديها، من جهة، ولخلق حالة إيهام لدى الحاكم والمحكوم على السواء. الحاكم ينتفض مؤقتا وشكليا، مصورا أسياده بالخصوم، وهم ليسوا كذلك، ويلصق تهمة التآمر وتدخل الأجنبي بمواطنيه المنتفضين ضده. وهذه ظاهرة جديرة بالدرس أنشأتها السلطات العربية المستبدة المتهمة بارتباطها بالآخر. ولدرء ذلك "العدوان الخارجي" و"المؤامرة" و"حالة انعدام الأمن والنظام العام"، يصبح من حق "سلطات السليكون" أن تفعل كل ما بوسعها "لإعادة الأمور إلى نصابها". يدخل السليكون على الخط، من خلال إبقاء الرأي الواحد والحاكم الفرد وعائلته والحزب الفرد وأدواته، ملتصقين، قدر المستطاع وبشتى الوسائل ومن بينها وسائل الإعلام، بالكرسي والسلطة والامتيازات والنهب والسلب وتكديس الثروات غير المشروعة. كل ذلك يحصل بفعل سحر وقوة طبقات متجددة من السليكون المحلي والخارجي المنشأ.
لماذا يبدو مثل هؤلاء الحكام ملتصقين بكراسيهم بصورة قرقوشية وكأن كل إست قد لصق بكرسيه بفرمان سليكوني وبتفويض "شرعي" أو"إلهي" أو "قبلي" أو ما شابه ذلك؟ إن أخطر ما يمكن أن يصنعه ميكانيزم التسلط هو إيهام النفس والآخرين بأحقية تكريس السلطة والاحتفاظ بها خدمة للصالح العام، عن طريق التذرع بالدين والشرعية تارة، وبدرء حالة الفوضى والمخاطر المحدقة وسحق نظرية المؤامرة تارة أخرى. هكذا يظل المستبد غائصا حتى النخاع في تسلطه، ويظل المظلومون تحت ساطوره يئنون حتى الرمق الأخير، ولا منقذ لهم سوى قيامهم بفعل تغييري فعلي وتطهيري عارم وسن دساتير وقوانين جديدة واضحة تقيهم شر إغواء السلطة والنفوس المريضة والضعيفة، خارج إطار التسلط والوهم والإيهام وانفصام الشخصية والسليكون.