الدبلوماسية تحويل العدو إلى صديق (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
سيزداد سكان الشرق الأوسط الكبير (الدول العربية وتركيا وإيران) من نصف مليار اليوم إلى سبعمائة مليون مع منتصف القرن العشرين، وسيحتاج 60% من السكان للتعليم، و35% لفرص عمل، ويبقى السؤال: هل تحتاج دول المنطقة لتجمع، ينهي بيئة الصراعات والحروب، ويهيئ شعوبها للتعامل مع تحديات العولمة، وذلك بتطوير سوق اقتصادية إقليمية، تغذي منتجاتها قاعدة صناعية مشتركة، تخفض معدلات البطالة، وتحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة؟ وهل من السهل تحول حالة عدم الثقة، وعداء الماضي، إلى صداقة مستقبلية؟ وما دور الدبلوماسية في ذلك؟
تساءل أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية، البروفيسور تشارلز كوبشان، في محاضرة بمدينة طوكيو في شهر ديسمبر الماضي، كيف يصبح أعداء الماضي أصدقاء المستقبل، وأدحض الفكرة الشائعة في الدبلوماسية الغربية، بعدم استرضاء الأعداء، ليؤكد بأن هذا الاسترضاء هي الخطوة الأولى المهمة للتقارب، للتهيئة لعلاقات تعاون سياسية واقتصادية، وأعتبر الدبلوماسية عملة السلام، التي تعتمد على التنازل، والاعتراف بالآخر، واحترامه، وتفهم ظروفه، لتعزيز التكيف والتوافق الاستراتيجي، اللازمين لتبادل الثقة، لخلق مجتمع دولي مسالم. وبينت الأبحاث التاريخية بأن طبيعة الأنظمة أقل أهمية مما كنا نتصوره، وعلى الغرب التعامل مع الدول على أساس سلوكها في السياسية الخارجية، وليس على مدى طبيعة نظمها.
وعرض المحاضر تجربة الخلاف السويدي النرويجي في الفترة ما بين عام 1905 وحتى عام 1935. فقد كانت النرويج في شراكة وحدة مع السويد، من فترة اتحاد "الكالمار" في عام 1397، وحتى اتفاقية "كيل" في عام 1814. وبعد نهاية الحروب النابليونية، تخلت الدنمارك عن النرويج إلى السويد، كجزء من اتفاقية بين حلفاء فرنسا بعد الحرب، فثارت النرويج ضد هذا القرار، مما أدى لحرب انتهت بغزو السويد للنرويج، وفرض اتفاقية وحدة في عام 1815 بالقوة. وقد حافظت النرويج في هذه الوحدة على حكم ذاتي محلي، بينما سيطرت السويد على سياسات الدفاع والشؤون الخارجية، وتوج ملك السويد ملكا على البلدين، بينما قامت النرويج، خلال تسعة عقود قادمة، على تقوية سلطاتها المحلية الذاتية. وقد تأخر التالف المجتمعي بين الشعبين، وخاصة بعد أن بقت المناطق الحدودية بين البلدين قليلة السكان، وقل تدفق البضائع والمسافرين بين البلدين، حيث كانت مرتبطة معظم تجارة السويد مع ألمانيا، ومعظم تجارة النرويج مع بريطانيا.
وقد قامت النرويج بفرض الانفصال عن السويد في عام 1905، بعد خلاف حول التمثيل الدبلوماسي، فاستعدت السويد للحرب، ولكنها تراجعت لكلفة فرض الوحدة بالقوة، ولرفضها المبدئي لفكرة الاحتلال الأوروبي، لحماية نفسها من الغزو الفرنسي. فقبلت السويد بحل سلمي للانفصال عن النرويج، لتحافظ بعدها على الاستقرار والسلام بينهما، وحلت الخلافات على بعض الجزر من خلال المحاكم الأوربية، ووقعت على اتفاقية رسم الحدود في عام 1907، كما ساعد بدأ الحرب العالمية الأولى في عام 1914، على تقوية التعاون بين البلدين، باتفاقية التزام الحياد، واتفقا على وضع حجر تذكاري، لملك وحدة عام 1800، أوسكار الأول، بين حدود البلدين، كتب عليه: "بعد اليوم، الحرب بين الإخوة الاسكندينافية، مستحيلة."
وقد نسق وزراء السويد والنرويج والدنمارك سياساتهم بعد الحرب للمحافظة على الحياد، ونظموا التجارة بينهم، ليوفروا البضائع والأغذية لشعوبهم. وقد ساعد التالف المجتمعي خلال الحرب لبناء الثقة بين شعوب البلدين. ومع قرب عام 1930، اقتنع الطرفان، بضرورة خفض ميزانية الدفاع، وبدأ محادثات عسكرية منتظمة بين البلدين، والتعاون الأمني، فزادت التجارة والتنقل بين البلدين، لتتحول هذه العلاقة، لتجمع سلام وتعاون اسكندينافي حقيقي، وحتى اليوم.
وعرض البروفيسور كوبيشان تجارب أخرى لتحول الأعداء لأصدقاء، منها التجربة السويسرية، التي توحدت أقاليمها الثلاثة المتحاربة في عام 1291، لتشكل كونفدرالية حققت سلام دائم، لتنضج هذه التجربة بتشكيلها الدولة السويسرية في عام 1848، بعد خمسة قرون من الجهود المخلصة، وبعد خمسة حروب أهلية من الصراع الدموي الكاثوليكي البروتستناتي. كما عرض البروفيسور تجارب الوحدة في الدول العربية، وركز على تجربة الأمارات العربية المتحدة، والجمهورية العربية المتحدة. فعرض تحديات تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، حينما قررت دولها الوحدة في عام 1971، بعد أن اضطرت بريطانيا الانسحاب من المنطقة، وبعد أن تفهمت هذه الدول لمسئولياتها الإستراتيجية القادمة، وخاصة بعد أن صعب اكتشاف النفط رسم الحدود بين دول المنطقة، فاكتشفت الحل في الوحدة لضمان أمنها. وبالرغم من جميع التحديات المرافقة، نضجت تجربة الوحدة تدريجيا، لتحول بلدانها لمنطقة استقرار وسلام، ولتنشأ دولة عصرية موحدة، توجه ثروتها النفطية نحو اقتصاد متقدم ومتنوع. وبالرغم من غياب مؤسسات ضبط النفس الرسمية في كل إمارة، استطاعت هذه الدول بعاداتها القبلية التقليدية للتشاور، مشاركة السلطة مع شعوبها، ليلعب ذلك دورا هاما في تحقيق الوحدة، بعد تطوير مؤسسات حققت الاستقرار. كما ساعدت حكمة الرئيس زايد، رحمه الله، بمشاركة بلاده الثورة النفطية مع جيرانها، لجذب الجميع للدخول في شراكة سياسية ضمت أبو ظبي ودبي والفجيرة وأم القيوين والشارقة ورأس الخيمة، واستمرت بنجاح حتى اليوم.
وعرض البروفيسور تجربة الوحدة للجمهورية العربية المتحدة، والتي ترجع تاريخها لمحاولات مصرية قديمة لاحتلال سوريا، وكان أخرها الاحتلال العسكري في عام 1840. فبعد الانقلاب العسكري في مصر عام 1952، قلق الرئيس جمال عبد الناصر من تعاون عراقي سوري يضعف الجبهة المصرية، وخاصة بعد أن أسستت الولايات المتحدة حلف بغداد في عام 1955 في محاولة لإحتواء الخطر السوفيتي، لتضم تركيا والعراق وإيران والباكستان وبريطانيا. وقد عارضت مصر هذا الحلف، وتعاونت مع سوريا في عام 1955 باتفاقية للدفاع المشترك، والذي نتج منها وحدة الجهورية العربية المتحدة في عام 1958، بعد تخوف البعثيين السوريين من المد الشيوعي، ليمتزج الدفاع مع المؤسسات والهوية، ولتصبح سوريا الإقليم الشمالي، ومصر الإقليم الجنوبي، كمحاولة لبداية حلم الوحدة العربية. وقد انتهت هذه التجربة بانقلاب عسكري في عام 1961، حقق الانفصال. وحدد المحاضر سبب فشل هذه التجربة بإصرار الرئيس جمال عبد الناصر على السيطرة المطلقة لهده الوحدة، التي أحد نظمها مركزية اشتراكية، والأخرى لامركزية، تعتمد على السوق الحرة، ورجال الأعمال، ومالكي العقارات. كما لم تكن بين البلدين حدود مشتركة، ولا خبرة تعاون مسبقة، ولم تساعد محاولات الإصلاح الزراعي، وتأميم البنوك، وتحديد الدولة لأسعار البضائع وسعر العملة، على نجاح اقتصاديات هذه التجربة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستساعد دبلوماسية دول المنطقة في إنهاء حالة اللاحرب، ليتفرغ الجميع لتطوير تجمع اقتصادي إقليمي، توفر بضاعتها قاعدة صناعية شرق أوسطية متطورة، لتقلل معدلات البطالة، وتوفر لشعوبها الاستقرار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان