فضاء الرأي

"العقلُ الأسير" في الثقافة العربية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حبوبُ منع الاختلاف

كل سلطة تخلق بمرور الوقت أدواتها وفي مقدمتها وسائل الدعاية والمؤسسات الثقافية التابعة لها، بغض النظر عن المستوى الفني والفكري والتقني. لكن، كلما كان تداول السلطة سلميا وديمقراطيا أصبحت السيطرة الكلية من قبل السلطة على الثقافة ووسائل الإعلام أمرا صعب المنال، لأسباب كثيرة لعل من بين أهمها نذكر اثنين هما: نادرا ما يبقى نفس الحزب ونفس الأشخاص في دست الحكم لفترة طويلة، ثانيا، في ظل النظم الديمقراطية لا يمكن الضغط على المثقفين والإعلاميين بشكل سافر بحيث لا يدع مجالا للخيار أمامهم. لذا، لا يمكن في مثل هذه الأجواء، استعباد الثقافة ووسائل الإعلام في المجتمعات ذات النظم الديمقراطية.
تختل المعادلة بدرجة تسعين بالمائة في ظل النظم ذات النظرة الأحادية الجانب للحياة والكون والطبيعة والفكر والدين والطائفة والآخر المختلف، فينشأ تصور وإيمان مدعوما بالممارسة اليومية بوجود طرفين أحدهما يتكلم ويتحكم ويَهّبُ، أما الثاني فعليه أن يُصْغي ويُنفّذُ ويأخذُ أجرَه. تنعكس هذه المعادلة أيضا على الأصولية الدينية وممارستها لدى الجماعات المتزمتة. فيصبح هذا "الثاني" بمرور الوقت أداة وصول الطرف الأول إلى كل شيء ثم الاستحواذ عليه. بمرور الوقت يغرق الطرف الثاني بمعاصي وزيف وفساد وبلطجة الأول. فتراه مُنْبَرِيَا و( مَنْبريا)في مناسبة وبدونها إلى الدفاع عن ضامن معيشته، وحتى أنه يتمادى في استنساخ دور سيده في علاقته مع الآخرين ومن بينهم "زملاء" المهنة. أمثال هؤلاء في حياتنا العربية والشرق أوسطية كثر، تجدهم في واجهات "المحلات" و"الصالونات" و"منابر الوعظ" الثقافية والإعلامية والدينية، وفي تحرير هذا الموقع وتلك الصحيفة أو أقسامها الثقافية، في هذا الاتحاد الأدبي أو ذاك، منتشرين في وزارات "الثقافة" و"الإعلام"، أحيانا يتبادلون الأدوار مع بعضهم البعض وفي أحيان أخرى يغيرون جلودهم مثل الحرباء، دائما يدّعون ما ليس لهم، ثم لهم قابليات خارقة في كيل المديح لأسيادهم ولبعضهم البعض. قاسمهم المشترك، أنهم لا يخافون من أسيادهم وحسب، إنما من بعضهم البعض.
القاعدةُ الذهبية تقول: لا يمكن لعقل أسير أن ينتج فكرا غير أسير. وهي خلاصة صاغها الشاعر والكاتب البولندي تشيسواف ميووش(1911-2004) في أربعينيات القرن الماضي ودَوّنَها في كتابه الشهير "العقل الأسير" الصادر في 1953 في منفاه الباريسي والذي استعرنا منه عنوان الموضوع.
في واقع الحال، كل وزارات الثقافة في ظل الأنظمة غير الديمقراطية هي وزارات ومؤسسات إعلامية ليس إلا. حيث لا توجد بلاد مدنية متحضرة تحترم نفسها في عصرنا الحديث ولها وزارة إعلام. لقد انتهى دور تلك الوزارات بانتهاء حقبة هيمنة الايدولوجيا البغيضة. في بلداننا العربية والإسلامية هناك مؤسستان رسميتان: واحدة رسمية فعلا، والثانية خاصة- أهلية، لكنها شبه رسمية، لكون مصالحها مرتبطة أشد الارتباط باللوبي الرسمي الحاكم، بالعائلة الحاكمة، بأبناء المنطقة الواحدة، والطائفة الواحدة، أيْ "بأخوّة الزِيّ الواحد".
السؤال التقليدي الحاضر أبدا هو، هل يستوي ذوو السلطة والجاه والنفوذ والأرصدة الدسمة من الفاسدين ومنعدمي الضمائر واللصوص بالسواد الأعظم من الناس مِمّنْ سحقتهم، مع سبق الإصرار والترصد، ماكينة السلطة قمعا واستغلالا وإذلالا وتخلفا؟ الجواب: كلا. فالأولون سلبوا السوادَ الأعظمَ حقهم في العيش السويّ والكرامة والتقدم، واستعبدوهم بشتى الأساليب والوسائل. ثم، هل يستوي هؤلاء الأوّلونَ بأدواتهم البشرية - ممّنْ يُسَيّرون ثقافة السلطة وإعلامها؟ الجواب: بنعم، ولا. بلى، لأنهم يشتركون في إثم التضليل والخداع والغش والتزمير والتطبيل للطغيان والتخلف وسلطة "الزيّ الواحد"، وبالتالي يقومون بتدبيج التقارير وهدر كرامة وحياة زملاء آخرين لهم ممنْ لا ذنب لهم سوى التفكير بشكل آخر. وكلاّ، لأنّ هؤلاء المجندين عبيد وخدم ولا يمكن للعبد أن يُساوي سيده. دعا لهذا التفصيل البغيض ما تناهى لبصري من رد بعضهم على دعمنا لمطالب الشعب المصري المشروعة، بأن "علينا أن نلتفت إلى ما يجري في بلداننا ونترك المصريين لحالهم"، وكأننا كنا عن ذلك غافلين. إذن، هكذا ثمة "أممية" بين فقهاء الظلام في الثقافة العربية وشعارهم الذي استلفوه، بعد أن قضى نحبَه شعارُ"البروليتاريا"، هو "يا مثقفي السلطات وأشباهها اتحدوا".
علينا أن ندرك، أن الثقافة العربية الرسمية تحتضر لأنها تنتمي إلى الماضي وأساليبه واكسسواراته، لكنها وبشتى الطرق والصور تتشبث بالحياة، شأنها شأن النظام العربي الرسمي التقليدي المتداعي برمته.
في عالم مثل عالمنا، تصبح استعارة ميووش فكرة حبوب "مورتي- بنغ" من رواية لابن جلدته الكاتب والرسام الطليعي والفيلسوف (ستانيسواف اغناتسي فيتكيفيتش "فيتكاتسي"1885-1939) وتوصيفه بها مثقفي الحقبة الستالينية الرسميين، ملائمة تماما لما يدور في ساحاتنا الثقافية العربية الرسمية منذ أكثر من قرن. يفترض فيتكاتسي أن هناك فيلسوفا منغوليا اسمه مورتي- بنغ قد ابتكر حبوبا حملت اسمه بحيث شكلت قوة الجيش الصيني- المنغولي، حينما يبلعها المرء تحدث تأثيرات إيجابية عضوية، مطمئنة بحيث تُوحي لبالعها بأنه يعيش في عالم سعادة وانشراح لا يحس فيها بما يحيطه من مشاكل واضطهاد واستغاثات، فيقوم قائد الجيوش الغربية بعد غزو صيني-منغولي مشترك ببلع بعضها ونظرا لانشراحه وغياب تشخيص حقيقي لمجريات الأحداث، يقوم بتسيلم نفسه لعدوه الذي يقوم بدوره بقطع رأسه خلال احتفالية مهيبة.

البالعُ والمبلوعُ
يمكن تصنيف"البالعين" في الثقافة العربية كالآتي: صنف المخبرين، وهم أشدُّ فتكا ووضاعة من سواهم، لأن نفسيتهم وعيشتهم تقتضي الصرامة والمواظبة في متابعة ومراقبة مجريات الأمور على الصعيد الثقافي والإعلامي، ثم نقلها إلى من يهمهم الأمر. وهم خطرون على الجميع. عادة ما يكونون من "المثقفين المسلكيين". الصنف الثاني: هم مثقفو السلطة العلنيونَ، المدافعون عنها ورافعو شعاراتها وأفكارها، وأيديولوجيتها، وهم خليط من كتاب الدرجة العاشرة، أحيانا تلمع فيهم جماعة، غالبا ما تُسلط عليهم الأضواء دون سواهم. أما الصنف الثالث، فيتألف من عموم الشعراء والكتاب والفنانين والإعلاميين والموظفين مِمَنِّْ ينأون بأنفسهم عن المشاكل وبالتالي عن المواجهة، ويجهدون قدر المستطاع ألا يتعرضوا للنظام أو للآخرين، حتى أن بعضهم يسعى إلى إقامة علاقات (مع بعض المتنفذين) درءا للمخاطر، ولبعضهم الآخر علاقات خفية مع أناس خارج السلطة، وهم بذلك يُشبهون إلى حد كبير مَنْ ينتمي دون قناعة إلى الحزب الحاكم تخلصا من المشاكل، والدليل على ذلك أن قسما منهم سرعان ما ينتقل إلى الطرف الآخر لدى الضرورة. قد ينطبق عليهم مؤقتا وصفُنا لهم ب"مثقفي الهدنة أو المهادنة" حتى أن قسما منهم يحتاج إلى مواساتنا.
صحيح أن الانتماء إلى الأحزاب الشمولية غير مبرر، لكنه من غير المعقول أن يكون سيئا كلُّ من انتمى إلى حزب حاكم يضم الملايين بالترغيب والترهيب، في ظل أنظمة شمولية سابقة أو راهنة، مثل الاتحاد السوفيتي، أو حزب البعث في العراق أو سوريا، أو الحزب الوطني في مصر، والدستوري في تونس، وما شابه ذلك. ينبغي أن نتذكر دائما، أن المثقف المؤدلج دينيا أو فكريا ذا اللون الواحد المندفع حدّ العمى خطير على محيطه وعلى الآخرين. نجده في صفوف الحزب الحاكم أو في إعلام الطائفة الفلانية أو القومية العلانية. هناك مثقفون نفعيون يديرون مؤسسات منظمات وطوائف ودول ذات أنظمة تعسفية، ليس بالضرورة أن تقودها أحزاب أيديولوجية محددة.
إن تحضّرّ وتقدم َأية دولة أو حزب حاكم يُقاس بمدى فصل السلطات بعضها عن بعض واستقلاليتها الذاتية دون تدخل سلطوي، ثم عدم أدلجة الثقافة والإعلام واحتوائهما، ولابد من ترك مسافة واضحة بين ممارسة المثقف والإعلامي وأهل المعرفة والإبداع وبين الدولة والحكومة. هذه المسألةُ العويصة تشبه إلى حد كبير وجوب الفصل بين مقتضيات ومصالح الدولة والوطن والمصالح الضيقة لهذا الحزب أو تلك الفئة. بدون خلق تلكم المسافة نكون أمام ظاهرة "بالع ومبلوع" في الحياة المدنية، والثقافية. ونظرا لأن بلداننا العربية والشرق أوسطية لم تعتدْ بعدُ على وجود مثل تلكم المسافة فإن ظاهرة "البالع والمبلوع" في حياتنا الثقافية والمعرفية والإبداعية لا تحتاج إلى أقمار اصطناعية لكي تنكشف، لأنها متفشية بلا رادع ولا ذمة ولا ضمير، ولا تقاليد أو قوانين تردعها حتى الآن.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف