فضاء الرأي

ثورة حتّى النّصر، أم ثورة حتّى العصر؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ينشرح صدر المرء،

عندما يرى الناس ترتعش وتنتفض ضد الظّلم. هذا ما حصل في تونس وفي مصر، وهذا الفرح يعمّ شرائح شعبيّة واسعة ليس في مصر فحسب، بل وفي أنحاء العالم العربي. غير أنّ تسمية هذه الارتعاشات الشعبيّة "ثورة" يفتقد إلى الأسس التي تجعل من هبّة النّاس، مهما اتّسعت رقعتها، ثورةً بما يعنيه هذا المصطلح في العلوم السياسية.

من هنا فعلى الذين يتحدثون عن "ثورة" أو ثورات عربيّات أن يشرحوا لأنفسهم أوّلا، وقبل أن يطلقوا الشعارات الرنّانة ويوزعوها على الملأ، كَيْفَذا ولِمَذا تجتاح هذه الاحتجاجات الشعبيّة بالذّات البلاد العربية التي أفرزت منذ منتصف القرن المنصرم، وبعد جلاء الاستعمار أنظمة مسمّاة زورًا وبهتانًا أنظمة جمهورية وثورية؟ وهل كانت هذه حقًّا جمهورية وثورية؟

إنّ تخطّي هذه الاحتجاجات الشعبية العربية الأنظمة الملكية في العالم العربي يثير الكثير من التساؤلات. إنّ هذه الهبّات الشعبية التي تتخطّى الأنظمة الملكية إنّما هي تعبير عن رفض الدجل الذي اتّسمت به كلّ تلك الأنظمة التي تدّعي الـ"ثورية" والـ"جماهيريّة". فكلّ تلك الأنظمة "لثورية" الدّاجلة في جوهرها والزّاجلة في شعاراتها، بدءًا من عبد الناصر والناصرية وانتهاء بصدّام والأسد والبعثيّة القبلية لم تجلب سوى الطغيان والاستبداد وتقتيل العباد والاستيلاء على خيرات البلاد لتوزيعها وتوريثها لذوي القربى والأولاد.

بل يمكن القول جهرًا إنّ كلّ تلك الأنظمة الملكية العربيّة، والتي طالما وسمها هؤلاء النّفر "الثوريون"، ممّن يرفعون شعارات قوموية عن الثورة والجماهير وما إلى ذلك من كلام المواخير المستوردة بالـ"رجعية"، كانت أنظمة أكثر رأفة بشعوبها من كلّ ما يأفك هؤلاء في شعاراتهم. كما يمكن الذهاب أبعد من ذلك للقول إنّه حتّى الاستعمار ذاته كان أفضل بكثير ممّا جلبته هذه الأنظمة "الثورية" على شعوبها من خيبات وويلات.

هكذا، وعلى سبيل المثال،
يخرج ما تبقى من فلول الشيوعيين العرب من جحورهم ويدبّجون كلامهم بشعارات ثورية رومانسية ظانّين بسذاجتهم أنّ ميدان التحرير في القاهرة، وبين ليلة وضحاها وبجرّة شعارات أكل الدهر عليها وشرب حتّى ثمل، قد أضحى الساحة الحمراء في موسكو التي طالما شدّوا إليها الرحال، قبل أن تنفرط المنظومة، كما لو أنّها محجّة يتضرّعون في أنحائها إلى وليّ نعمتهم الّذي اندثر ولم يبق منه أثر. وهو على كلّ حال ولي نعمة لم يختلف في دكتاتوريته وفساده عن سائر الدكتاتوريات من دول الإفساد. وهؤلاء هم ذاتهم الذين دعموا في الماضي ولا زالوا في الحاضر يدعمون أسوأ الأنظمة دكتاتورية وفسادًا بدءًا من بلاد العرب وانتهاء ببلاد العجم وما وراءها.

هكذا أيضًا، يخرج ما تبقى من فلول العروبيين، أناصريين كانوا أم بعثيين، ناشرين على الملأ كلامًا معسولاً، منثورًا أحيانًا وموزونًا أحيانًا ومقفّى في أخرى، عن أمّة العرب وعن العروبة. نعم، يتحدثون بكلام شاعري عن هذه الأكذوبة التي ما فتئوا يروّجون لها ولأنظمتها القمعيّة "الممانعة" حتّى أضحت وبالاً عليهم وعلى من لفّ لفّهم من أصحاب البهتان. فلا جاءت هذه القوموية العروبية الرومانسية بهوية تجمع ما انتثر من بطون وأفخاذ، ولا جاءت بنظام يجلب العدل والرفاهية لأهل البلاد. بل على العكس من ذلك، لقد حكمت هذه العروبة "الممانعة" الكاذبة حكمًا مستبدًّا، قبليًّا أحيانًا وعسكريًّا أحيانًا أخرى، ونهبت خيرات البلاد وأراقت دماء العباد في حروب ونزوات وغزوات فاشلة عبر الحدود أو في دهاليز مخابراتها وعسسها الذين يعيثون في الأرض فسادًا.

لا ندري ماذا ستكون
وجهة هذه الهبّات الشعبيّة، بدءًا من تونس عبورًا إلى مصر أو بقاع عربيّة أخرى. غير أنّ أمرًا واحدًا يجب الالتفات إليه، ألا وهو انعدام أي أجندة "ثورية" حقًّا في هذه الانتفاضات. الشيء الواضح هو أنّ ثمّة تذمّرًا من هذه الأنظمة التي يربخ فيها الرئيس "الجمهوري" في منصبه عشرات السنين دون أن يفكّر أصلاً بأن "يحلّ عن ربّ" البشر في البلاد ويذهب للتقاعد. بل أنكى من ذلك، يحاول العمل على توريث المنصب وخيرات البلد للولد الذي ترعرع في أحضانه، كما لو أنّ الأوطان إقطاعيّة أو حظيرة عائليّة.

كذا هي حال الشام التي ابتدعت توريث الجمهورية. وقد مضى حتّى الآن على توريث بشّار الابن الشّاب عقد من الزّمان في رئاسة سورية. ألا تكفي هذه الأعوام ليُعرف صالحه وطالحه؟ لكن، يبدو أنّه، ولأنّه لا يزال في عمر الشّباب، فربّما كُتب على الشعب السّوري أن يخضع لرئاسته لعقود طويلة أخرى. غير أنّي أقول للحقّ أيضًا ودون مواربة، فمن خلال قراءة بعض كتابات المعارضين السوريين، أقول بعضها وليس كلّها، فإنّها هي الأخرى تثير الاشمئزاز بقدر ما يشمئز المرء من نظام البعث ذاته. فهي أيضًا لا تبشّر بالخير الذي يصبو إليه بنو البشر في هذه الربوع، كما إنّ الإسلاميين بإخوانهم وبمن يتبعهم فليسوا بأفضل حالاً من نظام القمع البعثي ذاته. على المعارضة أوّلا أن تقنع الجمهور السوري بجميع أطيافه الدينية والإثنية أنّها ليست طائفية وقبليّة هي الأخرى كالنّظام القائم الظّالم ذاته.

وكذا أيضًا هي الحال وعلى هذا المنوال في سائر "الجمهوريات" العربيات. لهذا السّبب فقد جاء ردّ فعل العقيد القذّافي مناصرًا لزين العابدين ولغيره من المستبدّين المخلّدين في السلطة. فهذا العقيد الغريب الأطوار لم يعد مُضحكًا بالمرّة. وهو وإن كان يُنعَت بـ"الأخ العقيد"، بينما يليق به أكثر تعبير "الآخ على التعقيد". إنّه الآخر لا يريد أن "يحلّ عن ربّ الشعب اللّيبي" بعد أكثر من أربعة عقود.

إنّ الهبّة الشعبيّة المصريّة كانت، أصلاً وفي الأساس، هبّة للإطاحة بمخلّفات الناصريّة العسكرية وأعوانها الذين أناخوا كلكلهم على صدر الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى طوال عقود طويلة دون أن ينقلوا البلد والمجتمع إلى مرتبة متقدّمة أسوة بباقي شعوب الأرض. لقد أفلحت الهبّة حتّى الآن فقط بالإطاحة بالرئيس، غير أنّ الطبقة العسكرية، صاحبة الامتيازات الاقتصادية المتشعبة، هي التي أحكمت القبضة الآن في أرض الكنانة.

لا يكفي ترديد شعار
"ثورة ثورة حتّى النصر". إنّما الثّورة تكون ثورة حقيقية وجديرة بهذه التسمية، فقط عندما تصل ليس حتّى النّصر، بل تصل حتّى العصر. أيّ حتّى تُجذّر المُكتسبات العصريّة التي تدفع بالبشر قدمًا. إنّ الانتفاضة المصرية ضدّ النّظام يمكن أن تتحوّل إلى ثورة حقيقيّة فقط عندما تقبل الطبقة العسكرية وأعوانها الذين يحكمون الآن بالمبادئ الأتاتوركية الدستورية التالية:
أوّلاً - فصل الدّين عن الدولة فصلاً تامًّا، بكلّ ما يعنيه هذا الفصل.
ثانيًا - مساواة تامّة في المواطنة بين المصريين - لا فرق بين مسلم ومسيحي وما سواهما من سائر المعتقدات الدينية وغير الدينية.
ثالثًا - مساواة تامّة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات دون استثناء.
رابعًا - فصل السلطات، التنفيذية، التشريعية والقضائية.
خامسًا - حريّة التفكير وحريّة التعبير وحرية الصحافة والنّشر هي حقوق دستورية مكفولة للمواطن.
سادسًا - يُنتخب الرئيس فقط لدوتين انتخابيّتين على أقصى حدّ، أي بما لا يزيد عشر سنين، يُحال بعدها إلى التقاعد.

هذه مجرّد بعض المبادئ، وهنالك بالطبع قضايا ومبادئ أخرى يجب العمل على تثبيتها. فقط عندما يتمّ إقرار هذه المبادئ بحذافيرها، عندئذ يمكن الحديث عمّا حصل في مصر بأنّه ثورة حتّى العصر. أمّا ما سوى ذلك، فإنّ لسان حالنا سيظلّ يقول: رجعت حليمة لعادتها القديمة، أو أنّنا سنظلّ نردّد إلى يوم يبعثون: كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا.

والعقل ولي التوفيق!
***
موقع الكاتب: "من جهة أخرى"
http://salmaghari.blogspot.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
معك حق
elie -

انا موافق على كل ما ورد في هذه المقالة لكن لدي سؤال للكاتب فهو هاجم الناصريين والشيوعيين والبعثيين والاسلاميين فما هو النظام المطلوب . وشكرا

معك حق
elie -

انا موافق على كل ما ورد في هذه المقالة لكن لدي سؤال للكاتب فهو هاجم الناصريين والشيوعيين والبعثيين والاسلاميين فما هو النظام المطلوب . وشكرا

أصبت
المعلم الثاني -

أمام هذه الشعوب أميالا وأميال قبل ادراك العصر

مصر ثورة
اشرف -

كل الثورات اللي تكلمت عنها كان ليها قادة !ماحدث في مصر حدث دون قادة حدث بارادة وتم التغيير اذا فهي ثورة ايها المفتي !

المبادئ الأتاتوركية
مزكين -

-المبادئ الأتاتوركية هههههههههههههوهل فعلاَ يوجد مساواة تامة في تركية بين كل مكوناته تحرا عن الموضوع يا سيدي وستكتشف العكس(الاكراد مثالا)-تتحدث عن حريّة التفكير وحريّة التعبير وحرية الصحافة اين هي في مبادئ الأتاتوركية سمعت عن محاكمات لرؤساء جرايد معارضة للحكومة تصل الى 125 عاما واكثر بربك لا تتمنى لثورة المصرية مبادئ الاتاتوركية وإ لا لن نجد تقدما في مصروراح يصير فينا متل المثل (كأنك يا زيد ما غزيت )

مصر ثورة
اشرف -

كل الثورات اللي تكلمت عنها كان ليها قادة !ماحدث في مصر حدث دون قادة حدث بارادة وتم التغيير اذا فهي ثورة ايها المفتي !

شو بدك
wissam -

شو اللي بدك اياه؟؟؟؟؟؟

شو بدك
wissam -

شو اللي بدك اياه؟؟؟؟؟؟

Freedom
Truth -

Excellent article and I agree 100% with you. I would like to add, if i may, that democracy requires protecting oppositions and minorities. Democracy is NOT directorship of the majority, unfortunately, as many believe!

افتخر اليوم أنت مصري
ماني سمعان -

أرفع راسك.. إنت مصرى ويا ريت كل الشعوب العربية مثل الشعب المصري باراك أوباما : يـجب أن نربي أبـناءنا ليصبحوا كشباب مصر رئيس وزاراء ايطاليا : لا جديد في مصر فقد صنع المصريون التاريخ كالعاده ستولتنبرج رئيس وزراء النرويج : اليوم كلنا مصريين هاينز فيشر رئيس النمسا : شعب مصر أعظم شعوب الأرض و يستحق جائزة نوبل للسلام السي إن إن : لأول مرة نرى شعبا يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها

Freedom
Truth -

Excellent article and I agree 100% with you. I would like to add, if i may, that democracy requires protecting oppositions and minorities. Democracy is NOT directorship of the majority, unfortunately, as many believe!

مزبلة اسرائيل
حرامية توطن حرامية -

أما الهاشميين فقد وطنوا الفلسطينيين بالاردن على حساب الشعب الاردني المسكين لكي ترضى عنهم اسرائيل وأمريكا

مزبلة اسرائيل
حرامية توطن حرامية -

أما الهاشميين فقد وطنوا الفلسطينيين بالاردن على حساب الشعب الاردني المسكين لكي ترضى عنهم اسرائيل وأمريكا

العلمانية بورجوازية
eco-tere -

انه يريدها غربية علمانية ليمارس الحكم الاغنياءوحدهم وفقط

هــَــبــًل
نزار -

لاأدري ماذا تريد أن تقول يا سيديالمطالب التي ذكرتها كلها جميلة وخلع الدكتاتور شرط لازم غير كافي طبعالكن لماذا تجريد حركة الملايين من الناس من اسم الثورة ولصالح من يا سيدي؟؟؟الحقيقة لاأدري ماذا أردت آن تقول في هذا المقال لكن كان من الأفضل لو لم تتجشم عناء الكتابـــــة...المعركة الن يا آستاذي العزيز هي معركة الاستقلال من الحكم الوطني الجائر بعد أن آطاحت الشعوب العربية بحكم الأجنبي;.... هل لديك مايساعد على ذلك ؟؟؟

هــَــبــًل
نزار -

لاأدري ماذا تريد أن تقول يا سيديالمطالب التي ذكرتها كلها جميلة وخلع الدكتاتور شرط لازم غير كافي طبعالكن لماذا تجريد حركة الملايين من الناس من اسم الثورة ولصالح من يا سيدي؟؟؟الحقيقة لاأدري ماذا أردت آن تقول في هذا المقال لكن كان من الأفضل لو لم تتجشم عناء الكتابـــــة...المعركة الن يا آستاذي العزيز هي معركة الاستقلال من الحكم الوطني الجائر بعد أن آطاحت الشعوب العربية بحكم الأجنبي;.... هل لديك مايساعد على ذلك ؟؟؟