فضاء الرأي

تونس..حماية الثورة كمدخل لإفسادها

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من يراقب يوميات الثورة التونسية، سيلاحظ أنه قبل أيام فقط كان خطاب عدد كبير ممن نصبوا أنفسهم "حماة للثورة"، و لا أحد على وجه التحديد يعرف من نصبهم، يصب في اتجاه التأكيد على أن السيد محمد الغنوشي لن يستقيل من منصبه، باعتباره حسب رأي هؤلاء شكل جزء أساسيا من مؤامرة حيكت في جوف يوم 14 يناير لإفراغ الثورة من مضمونها، وها قد استقال الرجل فماذا عساهم يقولون يا ترى؟
و بحسب "حماة الثورة" الأشاوس دائما، فإن عشرات المؤمرات الداخلية والخارجية تحاك، وأن وظيفة "الشرفاء" هي التصدي لهذه المؤامرات، عبر الاستمرار في تنظيم المظاهرات والاعتصامات و تعطيل الحياة العامة و إرباك الاقتصاد و مهاجمة المسؤولين على اختلاف درجاتهم و زرع الشكوك والاتهامات حتى في وجه أولئك الذين أفنوا حياتهم في معارضة الرئيس بن علي، و لا يعلم المرء أي مناخ أفضل من هذا الذي يصنعه "الثوريون" ليتحرك فيه المتآمرون، أم هل أن تحالفا ما ربما قام بين حماة الثورة وأعدائها، و يا للمفارقة؟
ثمة من قال لي أن "الله تعالى" لو تجسد و نزل من عليائه إلى التونسيين اليوم (و أستغفره تعالى على إن أوردت الخبر)، أو حتى أناب رسوله الكريم محمد (ص) في ذلك، لواجهه هؤلاء بكلمتهم الأثيرة "Degage" أي "إرحل"، فلا أحد عند "حماة الثورة" المتناسلين بعدد شعر الرأس، فوق النقد والتشكيك، وهو لن يكون أبدا بحسبهم ضمن لائحة "الشرفاء" مجهولة النسب، فما البال برجل ك"الباجي قايد السبسي" لا يقال له إرحل وهو لم يكن محل إجماع التونسيين، و ليت القوم يذكرون رجلا واحدا أو إمرأة يمكن أن يكون كذلك؟
الدولة التونسية دولة عريقة تعود جذورها إلى ما يقارب الثلاثة آلاف سنة، و محمد الغنوشي الذي قاد الحكومة التونسية بعد الثورة لستة أسابيع، و كان من قبل رئيسا لها لمدة عشرة أعوام، أحد أبناء هذه الدولة المخلصين، ممن عمل نصف قرن في دواليبها و تدرج في سلمها من أسفله إلى أعلاه، وقد كان هاجسه في توليه المسؤولية، سواء في ظل نظام الرئيس بن علي أو خلال الأسابيع الماضية ما بعد الثورة، هو هاجس رجل الدولة الأمين الذي يؤمن بأن الفراغ هو أكبر خطر يمكن أن يهدد دولة، لكن ماذا عسى الدولة التونسية تفعل في مواجهة "حماة الثورة" الأشاوس، ممن اكتشفت بطولتهم وشجاعتهم الخارقة أيام الحرية لا أيام البلاء و العنجهية؟
في هذا الزمن الثوري العصيب، لا أحد يعلم معالم هذه "الحكومة الانتقالية العجائبية" التي يطالب بها "حماة الثورة"، و التي يجب أن تشغل في 36 يوما نصف مليون عاطل و ترفع في أجور الموظفين والعمال و تقضي على كافة المفسدين و تعالج جميع الملفات المطروحة، و تنفذ في الآن نفسه الإصلاحات السياسية والقانونية والدستورية الكفيلة بإضفاء الشرعية على مؤسسات الحكم؟
فإذا ما أضيف إلى هذه الحالة إكراهات ضغوط المنطقة، حيث تدفق عشرات الآلاف من التونسيين المقيمين في ليبيا عائدين إلى بلادهم عاطلين أيضا، وخسائر المقاولات التونسية التي تفوق المليار دولار في هذا البلد الشقيق السائر على طريق الثورة، عدا توقف حركة السياحة من الجارين الليبي والجزائري، فسيكون المطلوب من حكومة باجي قايد السبسي، أو أي حكومة تأتي في مكانها، أن تتوفر على قدرات "سحرية" خارقة حتى تنجح في امتحان "حماة الثورة" المستحيل وتنال رضا ثوار ما بعد الثورة؟
في ليبيا المجاورة، يتطلع الليبيون إلى إنهاء مأساتهم الممتدة على 42 عاما مع "اللانظام الجماهيري"، أما في تونس فإن "حماة الثورة" يطالبون في كل مكان و مؤسسة بحالة "جماهيرية" في إدارة المؤسسات والشركات التابعة للدولة، ومن ذلك مطلب صحفيي التلفزيون التونسي و موظفيه وعماله، بطرد أي مدير يؤتى به حتى لو كان ملاكا، و الدعوة إلى انتخاب كافة أنواع المسؤولين، وعندما يبحث المرء في حالات أعرق المؤسسات الإعلامية العامة في أعرق الدول الديمقراطية، لا يعثر للأسف الشديد على مثل هذه الرؤية الأفلاطونية، التي نجحت إلى حد الآن في تحويل التلفزيون التونسي إلى تلفزيون صومالي أو أرتري، مع احترامي الشديد للشعبين الشقيقين، أم أن التطلع هو إلى تلفزيون "الجماهيرية" العظيم؟
و إن المبدأ عند الديمقراطيين في كل مكان، حساسيتهم المفرطة من اقتراب العسكر من الحياة السياسية، وتحبيذهم الدائم التزام العسكريين حتى في أحرج الأوقات بوظيفتهم الدستورية في حماية حدود الوطن و ضمان أمنه، لكن بعض حماة الثورة التونسية لم يترددوا في توجيه الدعوة تلو الأخرى لقادة الجيش التونسي للتدخل والإشراف على المرحلة الانتقالية، فهل القصد من وراء الدعوة حماية الثورة فعلا أم أنها نكاية بزملائهم المدنيين، حتى ولو كان الثمن تلويث المؤسسة العسكرية التونسية التي أظهرت وعيا عظيما بمخاطر السقوط في آلاعيب الساسة، خصوصا تلك الفئة "الطهورية المزايدة" من بينهم؟
اللهم إحفظ الثورة التونسية من ثوريي ما بعد الثورة، أولئك الذين لم يشاركوا فيها، وهم اليوم الأغلبية المستبدة التي يعلو صوتها فوق كل صوت و يطال سعارها كل مؤمن بأن تونس للجميع، وأن قليلا من الصبر على الحكومة الانتقالية سيكون نافعا للسياسة والاقتصاد معا، ولربما حقق أهداف الثورة أفضل من عنتريات و شعارات المزايدين.
* كاتب تونسي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
ما فهمته مما يحدث
ايمان -

العرب يا اما الديكتاتورية يا اما الفوضى الشعوب العربية عاجزة عن فهم و تطبيق الديمقراطية

رويد انها تونس
سرور الرياحي -

ان تونس لما قامت بثورتها كانت كشاف طريق ولم تتعلم من احد وقامت بما قامت به بفضل ابنائها وكانت الصورة كما شاهدها العالم درس تونسي غير مسبوق لم تجبر احد على ان يتعلمه ولم تسع الى نشره الان الفصل الثاني من الثورة التونسية ونقر جميعا انه اصعب بكثير من الفصل الاول ونرى ان ما يجري الان الى حد طبيعي هو مخاض عسير جدا لرسم ديموقراطية ناشئة ديموقراطية تونسية المنشا والهوى والتصورت على مقاسنا بعقلانيتنا وتشنجاتنا الان نقابة تسترج دور فرحات حشاد والحبيب عاشور في تداخل السياسي بالنقابي حزب اسلامي لاول مرة يتحصل على التاشيرة مكونات مجتمع مدني من حقها ان تبدى رايها ورئيس حكومة جديد يحاول ان يستمع الى كل توليفات المشهد التونسي من اجل الوفاق هذه الى جانب انفلات امني احيانا يجمع بين الجريمة السياسية والجريمة العادية ومع تقديرنا الكبير للسيد محمد الغنوشي ولكل الوزراء ابناء تونس الاكفاء الذين كانوا معه ولكن نقر ايضا واقر عدد من الوزراء الذين كانوا ضمن هذه الحكومة انها كانت ضعيفة ومتذبذبة الى حد كبير ولم تجب على استفهامات عدة للشعب التونسي كما انها لم تستمع الى فئة من الشعب التونسي فكان من الافضل من اجل المصلحة الوطنية ان تنسحب الان حكومة الباجي قائد السبسي بالقرارات التي يرجح ان تتخذها وجدت ترحيبا لدى اغلبية الشعب التونسي ولتمضي من اجل الوفاق الوطني استاذ خالد اعرف كتاباتك السابقة وتوجهاتها عن تونس لذلك فانت لا تعرف تونس بكل عمق

رويدك
سرور الرياحي -

لقد فاجاني انك تونسي وتكتب بمثل هذه السطحية عن المشهد في بلادك لسنا في فوضى وانما نحن كشاف طرق في الديموقراطية ونكسب الرهان رغم صعوبة الطريق وعسر المخاض

يا كبدي
ابن المكناسي -

يا كبدي كنت قبل سقوط بن علي تشكر حكمة نظامهوقلت لك يا ابن وطني و معهدي لا تفعل احتراما لنا في تلك البقعة المحرومة وابيت ان تردارجوك لا تنظر علينا كثيرا فنحن مازلنا نعاني