أصداء

الخطاب السياسي العربي ونظرية المؤامرة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

كثر الحديث في الأشهر الأخيرة عن مؤامرات خارجية وداخلية تحاك ضدّ الأنظمة العربية التي خاضت شعوبها ثورات متتالية ضدّها. فبعد أن تحدّث الرئيس التونسي المخلوع " زين العابدين بن علي " في خطبه التي سبقت رحيله عن " المتآمرين" و" الأطراف المناوئة والمأجورة " التي " أقلقها تقدّم تونس ونجاحها " ونسب إليها نشر الفوضى وتسيير الاحتجاجات والركوب على الأحداث الاجتماعية على اعتبار أنّ العنف ليس من شيم " التونسي المتحضّر والمتسامح "، اتّهم الرئيس المصري المتنحّي "حسني مبارك " قوى سياسية بتحريك الاحتجاجات في مصر واستهدافها لأمن الوطن واستقراره بأعمال إثارة وتحريض وأشار أنّ ما حدث من احتجاجات هو" جزء من مخطّط لهزّ استقرار البلاد ".
ولئن لفّ الغموض خطابات الرئيسين السابقين التونسي والمصري في ما يتعلّق بتحديد هوّية الأطراف والقوى السياسية التي ألمحوا إليها، فإنّ خطاب القائد الليبي " معمّر القذافي " كان واضحا في اتّهامه المباشر لتنظيم القاعدة بالضلوع في موجة العنف والمظاهرات التي اجتاحت الأراضي الليبية مصرّا على نفي أيّ وجود لاحتجاجات تطالب بتنحّيه عن السلطة و أنّ وسائل إعلام الدول العربية الحاسدة لليبيا على ثروتها النفطية هي التي تقوم بتهويل وتضخيم ما يجري على أرض الواقع في ليبيا.

وأخيرا جاء تصريح الرئيس اليمني " علي عبد الله صالح " الذي قال فيه ما مفاده أنّ كلّ من إسرائيل والولايات المتّحدة الأمريكية تقفان وراء ما تعيشه البلدان العربية من انتفاضات شعبية قائلا إن عملية زعزعة الوطن العربي تنفّذ في "غرفة عمليات موجودة في تلّ أبيب وتدار من البيت الأبيض وهؤلاء (أي المتظاهرين) ما هم إلاّ منفّذين ومقلّدين".

إنّ هذا التشبّث بإدانة الآخر وإسقاط ثورات الشعوب العربية على الأطراف المجهولة الحاقدة التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي في محاولة لتنزيه الذات من أيّ مسؤولية أو خطأ والظهور بمظهر كبش الفداء، يجعل الخطاب السياسي لهؤلاء الزعماء العرب مغرقا في منطق التآمر الخارجي وما يعرف ب" نظرية المؤامرة " التي ما فتئت القوى السياسية العربية تلوكها منذ خمسينيات القرن الماضي في إشارة إلى وجود مؤامرة استعمارية صهيونية تهدف إلى تفتيت العالم العربي والأمّة الإسلامية من خلال افتعال حروب أهلية وإثارة صراعات داخلية بين شعوب المنطقة بهدف إضعاف هذه الشعوب لتنشغل بمشاكلها وحروبها الأهلية وليعيش الكيان الصهيوني بسلام وتتمكن القوى الأجنبية من فرض سيطرتها ونهب ثروات المنطقة.

وبغضّ النظر عن حقيقة وجود هذه المؤامرة من عدمه، فقد قيل أنّ اكتفاء العرب - سياسيين كانوا أو مثقّفين- منذ ذلك الوقت بالحديث عنها وتضخيمها يتحوّل بدوره إلى مؤامرة من الذات ضد نفسها.

ويبدو أنّ الرؤساء الذين ثارت شعوبهم ضدّهم جنوا على مصيرهم السياسي بانخراطهم في منطق المؤامرة كذريعة للتنصّل من المسؤولية وحاولوا بذلك التآمر على شعوبهم التي لم تنطل عليهم هذه المرّة لعبة المؤامرة الخارجية لأنّها تدرك أنّ ثوراتها لم يحرّكها أيّ عامل خارجي ولم تستند إلى أيّ مسيّر داخلي، بل سيّرها الجوع والفقر والظلم الاجتماعي ودعمتها شرعية المطالب التي نادت بها أمام الرأي العامّ العالمي والتي كانت في البداية اجتماعية كالحقّ في الشغل والعدالة والكرامة الاجتماعية ثمّ تحوّلت فيما بعد إلى مطالب سياسية تنادي بالحرّية والديمقراطية وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية. وقد ساهمت مواقع الاتّصال الاجتماعي والفضائيات العربية في توسيع نطاق كلّ ثورة ونقلها من بلد عربي إلى آخر.

إنّ الاعتصام بحبل المؤامرة والمحاولة السياسية لإلهاء الشعوب بالخطر الخارجي وشغلها عن الأسباب الحقيقية للفقر والتخلف وسوء الأوضاع المعيشية تبرّرها طبيعة العقل السياسي العربي الرافض للديمقراطية وللنقد والنقد الذاتي، والمتلهّف على السلطة، فهو عقل يرفض الاعتراف بالخطأ والظهور في صورة المذنب والمدان وينزع دائما إمّا إلى التبرير أو إلى التكفير. وهو ما ينتج خطابا سياسيا فقيرا يتغذّى من ذهنية تاريخية استعمارية ومن عقلية الانهزام العربية بما يجعله خطابا فاقدا للمصداقية غير قادر على إقناع المتلقّي العربي الذي بات يدرك أكثر من أيّ وقت مضى أنّ هذا الخطاب لا يترجم الواقع وأنّه خطاب يهدف فقط إلى شرعنة بقاء هذا الحاكم أو ذاك على كرسي الحكم.
وأزمة الثقة هذه بين الحاكم والمحكوم خلقت مناخا من التشكيك والتخوين والاتّهام بالعمالة للأجنبي وغيرها من الأحكام المسبقة التي لا تستند بالضرورة إلى حقائق ثابتة، وقد خرجت هذه الأحكام والاتّهامات من أغلالها بعد أن تحرّرت الشعوب الثائرة من الأنظمة الدكتاتورية وانخرطت هذه الشعوب في لعبة المؤامرة وأصبحت المؤامرة حالة مرضية تستقطب السياسيين وأبناء الشعب على حدّ سواء.

وهذا ما لمسناه بعد الثورة التونسية، إذ أضحت مفردات من قبيل "المرتدّين" و"جيوب الردّة" و"الالتفاف على الثورة" أو "سرقة الثورة" و"ميليشيات النظام السابق" تردّد يوميا في المنابر الإعلامية والسياسية من طرف كافّة أفراد الشعب وصار التشكيك في أعمال وتصريحات الحكومة المؤقتّة وتخوين أعضائها واتّهامهم بالتبعية للنظام السابق أو لأطراف خارجية دأب أغلب التونسيين من السياسي والنقابي إلى أبسط مواطن في البلاد وكأنّ الشعب التونسي برمّته أصبح متضلّعا في السياسة ومتفقّها في شؤونها.

وقد أدّى الانخراط الشعبي في ثقافة المؤامرة إلى إقالات متتالية لأعضاء الحكومة عطّلت عمل هذه الحكومة وأفرزت جوّا من التوتّر والإرباك في صفوف الشعب والحكومة معا. كما شهدت مصر بدورها عدّة إقالات من هذا القبيل طالب بها "ائتلاف شباب ثورة 25 يناير".

ويمكن القول أنّ الشعوب التي حرمت من الحرّية لمدّة عقود حين أهدت إليها هذه الحرّية انفلتت من عقالها وأخرجت شكوكها الدفينة من مكامنها حوّلت ثوراتها عن مسارها الحقيقي وسلبتها جانبا كبيرا من النجاح و المشروعية بانتهاجها لمنطق المؤامرة كمبرّر لمطالبها ولأعمال العنف والنهب والتخريب التي اقترفتها أيادي أبناء الشعب دون سواهم من غير احتكام للوعي والمسؤولية.

ولذلك تحتاج الشعوب العربية إلى عقل متحرر والعقل المتحرر يحتاج الي تعلّم الحرية فالحرّية تكتسب بالممارسة اليومية وهي فكر وقناعة قبل كلّ شيء. والخلاصة أنّه يصعب على العقل العربي الذي تربّى على القمع والكبت السياسي أن يفهم معنى الحرّية والمسؤولية.

باحثة في علوم الإعلام والإتّصال
معهد الصحافة وعلوم الإخبار - تونس

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف