كاميرون وفريدمان وانتفاضة العولمة (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناضلت رئيسة الوزراء البريطانية، مارجريت تشر، في عام 1978، لتحقيق حلمها في الخصخصة المجتمعية الشاملة، وقد دعمها الرئيس رونالد ريجن، لتحرير السوق من جميع قيود أنظمتها المكبلة، وتقليص المسؤوليات المجتمعية الحكومية، وعبر عن ذلك بعباراته المشهورة: ألحكومة هي سبب المشاكل وليست وسيلة لحلها." ويبقى السؤال: من أين برزت عبقرية الرئيس رونالد ريجن فجأة؟ وما علاقة ذلك بما يجري اليوم من انتفاضات في دول الشرق الأوسط؟
مع نهاية الحرب الباردة، أعتقد الغرب بأن تاريخ العالم قد انتهى بتفوق الفكر الرأسمالي الغربي، بعد أن انهار النظام السوفيتي، فحاول الاستفادة من ديمقراطيته الرأسمالية، لخلق سوق عولمة حرة، ينافس فيها بمنتجاته، واستغلت الفرصة شركاته العملاقة، لتثبيت مواقعها في سوق العولمة، بتشجيع لوبياتها الأكاديمية لتنظير رأسماليتها الفائقة، وبالدفع بلوبياتها البرلمانية لإقرار تشريعات توفر لها أسواق لتصدير منتجاتها، وترفع الحماية عن المنتجات الوطنية المنافسة، وتضمن لها توفر الموارد الطبيعية والبشرية الرخيصة، اللازمة لصناعة منتجاتها. وقد ناضلت هذه الشركات وبعنف من أجل الخصخصة، وحاولت تحرير السوق من الأنظمة، بعذر نشر الرأسمالية الديمقراطية وباستغلال ضغوط البنك الدولي والدفع بالتهديدات العسكرية الغربية. وليتجنب الشرق المجابة، ويستفيد من الاستثمارات الغربية وتسهيلات قروض البنك الدولي، قبل بالرأسمالية الغربية الفائقة، وديمقراطيتها المستوردة المفروضة، فحرر أنظمته الاقتصادية لتسهل تسويق وحماية منتجات الغرب، وتخلص من ضغوط المعارضة، بتنفيذ شعار الانتخابات هي الحل، لتبدأ مسيرة لتقليد إصلاحات الغرب الاجتماعية والاقتصادية. والسؤال: هل تسرعت بعض دول الشرق بقبول ديمقراطية الغرب المفروضة بدون دراسة متأنية، وقبل البدء، بإصلاحات تشريعية واقتصادية حقيقية، وتطوير ديمقراطية رأسمالية معاصرة، تناسب قيمه وثقافته وحضارته التاريخية؟ وما علاقة ذلك بالتطورات الأخيرة في الشرق الأوسط؟
تذكرنا الصحفية الأمريكية الأصل والكندية الجنسية نعومي كلين، في كتابها، مذهب الصدمة والرأسمالية الكارثية، كيف دفعت الشركات العالمية العملاقة رونالد ريجن لرئاسة الحكومة الأمريكية، ليرفع راية "الحكومة ليست الحل، بل هي سبب المشكلة، وبأن الخصخصة والسوق المحررة من الأنظمة والقوانين هي الحل. وبحثت كلين دور الشركات الغربية العملاقة في الدفع بلوبياتها الأكاديمية للتنظير للرأسمالية الغربية "الفائقة"، وبصبغة ديمقراطية "مزيفة"، كما عرضت النظريات المشتركة بين أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة شيكاغو، البروفيسور ملتون فريدمان، والطبيب النفسي أيون كميرون، رئيس الجمعية الأمريكية للأمراض النفسية. فقد تصور البروفيسور كاميرون بأن خير وسيلة للعلاجات النفسية، هو الدخول لذهن مرضاه، ومحو ما في عقولهم من خبرات ماضية، وذلك "بالحرب على العقل بالصدمة والرهبة." فقد أعتقد الدكتور كميرون بأن علاج مرضاه بالصدمة الكهربائية، والمخدرات، والعزل في غرفة مظلمة صغيرة، لأشهر طويلة، سيشلهم عقليا، وسيمسح كل ما في ذاكرتهم من أفكار، وخبرات، وذكريات، محاولا بذلك إرجاعهم لمرحلة الطفولة، ليتحولوا كرضع، يمصون أصابعهم، ويرضعون، وليفقدوا السيطرة على التبول، وينسوا كيفية المشي، أو الكلام، ليجبرهم بعدها لسماع أشرطة نصائحه ليلا ونهارا ولأشهر طويلة، ليشكل شخصيتهم من جديد. ويبرر كاميرون نظريته بعاملين مهمين لمعرفة الوقت والمكان، وهما إحساسنا بما حولنا وذاكرتنا، فالصدمة الكهربائية تمحي الذاكرة، وصناديق العزل تقضي على الإحساسات الخارجية، ليفقد المرضى إحساسهم بالوقت والمكان. وقد عارض الأطباء الأمريكيون أبحاث كاميرون، التي دعمتها المخابرات ماليا، وأثبتوا علميا بأنها دمرت حياة المرضى، بغسل عقولهم ومحو شخصيتهم، بل اعتبروا علاجاته نوع من التعذيب المخزي، كما لم تحقق ما كان يصبو كاميرون لتحقيقه.
وبينما كان الدكتور ايون كامرون يحلم بغسل عقول البشر، كان هناك باحث آخر بجامعة شيكاغو يسمى ببروفيسور ملتون فريدمان، يحلم بغسل عقول المجتمعات من عيوب أنظمة الدولة، والقيود التجارية، والمصالح المحصنة، لإرجاعها للرأسمالية الفائقة النقية. فحاول من خلال أبحاثه الرياضية النظرية أن يثبت بأنه حينما يكون اقتصاد البلاد منحرفا، يحتاج لصدمة سياسية واقتصادية مؤلمة، تحرر السوق من قيود الأنظمة، وتبيع أملاك الدولة للشركات الخاصة، وتسمح للشركات الأجنبية لشراء ما تريده من ممتلكات، وتحول خدمات الرعاية المجتمعية من صحة وتعليم وأمن وتضمان تقاعد وتأمين تعطل للقطاع الخاص. وتحتاج أيضا لقوانين تسمح للشركات الخاصة بتسريح العمال، وتلغي أنظمة الحد الأدنى للأجور، وتتجنب فرض الضرائب قدر الإمكان. وقد أنتظر فريدمان عشرين عاما لتنفيذ نظرياته على الواقع، والتي اعتبرت الاقتصاد علم مطلق، وبأن الرأسمالية النقية تخلق سوق حرة، وتحتاج لترك يدها الخفية لكي تنظم انحرافاتها، بدون تدخل الدولة بقوانينها المعطلة أو "بقطاعها العام الفاسد". وبعد أن توفى فريدمان في عام 2006، لخص احد أتباعه نظريته بالقول: "رأسمالية فريدمان، بأسعارها الحرة، وخيارات المستهلك، والحرية الاقتصادية، مسئولة عن ازدهار العولمة التي نتمتع به اليوم." فهل فعلا حققت نظريات فريدمان الازدهار، أم كانت السبب وراء انتفاضة العولمة؟ وكيف تزاوجت نظريات البروفيسور فريدمان والبروفيسور كيميرون؟
لقد عانى الشعب الأمريكي في عام 1929 من مأساة أزمة اقتصادية، أدت لاختفاء مدخراته بين ليلة وضحاها، وانتشار الفقر، وارتفاع نسب الانتحار، كما عاش الكثيرون منهم في الملاجئ، واعتمدوا على مراكز الشوربة للتغذية. وقد أدى ذلك لانتشار نظريات الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينس، التي توقعت بنهاية نظرية السوق المحررة التي تنظمها يدها الخفية. وقد انتشرت النازية في ألمانيا بعد التراجع الاقتصادي في العشرينيات، والتي تفاقمت بفرض تعويضات ما بعد الحرب العالمية الأولى على ألمانيا، وعمقتها أزمة انهيار الاقتصاد العالمي في عام 1929. وقد حذر البروفيسور كينس من خطورة حرية السوق في التعامل مع الفقر الألماني بمقولته المشهورة: " أتوقع ألا يعرج الثأر." وبعد أن بنت أوروبا دولها بعد الحرب العالمية الثانية، دعمت اقتصاديات سوق توفر الكرامة لمواطنيها، لتقي شعوبها من الأيديولوجيات الفاشية والشيوعية. وتوجت دولها ببناء رأسمالية ديمقراطية، وفرت التأمينات الاجتماعية في الولايات المتحدة، والرعاية الصحية الحكومية في كندا، والرعاية الاجتماعية في بريطانيا، وأنظمة حماية العمال في فرنسا وألمانيا.
كما برزت في هذه الفترة حركة التنمية والقومية في دول العالم الثالث، لتدعم الصناعة المحلية ولتنادي بتأميم شركات النفط والمعادن وتوفير الأراضي الزراعية للفلاحين، لكي تحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية لبلادها. وتمكنت هذه الحركة، في الخمسينيات، تحقيق نجاحات بارزة في أمريكا الجنوبية، وخاصة في شيلي والأرجنتين وأرغواي والبرازيل، بفضل قيادة الاقتصادي راول بريبش، الذي درب فريق من الاقتصاديين في النظرية التنموية، وأرسلهم كمستشاريين في مختلف دول العالم الثالث. وقد طبقت نظرياته بنجاح في بعض دول أمريكا اللاتينية، فمثلا قام الرئيس جوان بيرون في الأرجنتين، بصرف أموال طائلة لتطوير البنية التحتية ودعم الصناعة الوطنية الخاصة بصناعة السيارات والأجهزة المنزلية، ورفع نسب الضرائب على المنتجات الأجنبية. كما تطورت اتحادات العمال لتطالب بأجور مرتفعة للطبقة الوسطى، لتقل الفجوة بين الطبقة العاملة والثرية. ففي الخمسينيات ارتفعت نسبة الطبقة الوسطى في الأرجنتين لأعلى النسب في العالم، وزادت نسبة التعليم في الارغواي إلي 95%، كما وفرت الرعاية الصحية المجانية لجميع مواطنيها. فقد نجح التنمويون في تنفيذ إستراتيجياتهم، لتصبح دولهم نموذج لدول العالم الثالث، وذلك بتنفيذ جاد لسياسات عملية فاعلة وذكية. وقد أدت هذه النجاحات الاقتصادية في العالم الثالث لسوداوية مظلمة بين الشركات الغربية الخاصة العملاقة، وفي مقر علماء اقتصادهم بقسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو، وبرئاسة البروفيسور ملتون فريدمان. فتحركت هذه الشركات العملاقة لمحاربة التوجه التنموي الجديد في العالم، وحاولت الاستفادة من نظريات فريدمان وكميرون لضمان مصالحها، فعملت بجدية مستميتة لتغير الرأسمالية الديمقراطية للولايات المتحدة لرأسمالية متوحشة فائقة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما علاقة الرأسمالية الفائقة بانتفاضة الشرق الأوسط الجديدة؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان