أصداء

أفول الأصنام: رؤى في ثورتيْ تونس ومصر 1-2

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قد راهن الكثيرون على أن ثورتي تونس ومصر لن يكلل لهما النجاح في نهاية المطاف، وسيؤول بها الأمر إلى اللحاق بمصير باقي الانقلابات التي شهدها العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين - أي أنهما سوف يسقطان تارة أخرى بشكل آخر من الاستبداد والديكتاتورية أو الفوضى والغوغائية. يعبر الدكتور تركي الحمد عن هذا الرأي في مقاله المعنون " من الثورة إلى الانقلاب ومن الانقلاب إلى الثورة" المنشور في جريدة الوطن" بتاريخ 23/1/2011 التي يقول بها: " في معظم الثورات التي عرفها تاريخ البشرية، تتجه الأمور إلى الفوضى والفراغ السياسي، أو لنقل عدم الاستقرار السياسي أول الأمر، ثم لا تلبث الأمور أن تتجه نحو الانقلاب، سواء كان عسكرياً أو غير ذلك، وهو انقلاب يعد بتحقيق الجنة على الأرض، ويرفع شعار الظرف الطارئ، وأنه مجرد إجراء مؤقت لا تلبث الأمور أن تتجه بعده نحو إعادة السلطة إلى الشعب صانع الثورة، بعد فترة تعديل مسار الأمور، ولكن الانقلابيين في النهاية يستمرئون السلطة، فإدمان السلطة ولذتها تفوق أي إدمان وكل لذة أخرى، ويبقون في السلطة حتى يزالون بانقلاب آخر أو ثورة شعبية جديدة."

طبعاً هذا الهاجس له ما يبرره من واقع تاريخ الانقلابات في العالم العربي، (وغيره أيضاً من بقاع العالم الأخرى)، غير أن من المهم أن نتذكر - بينما ينتابنا هذا الهاجس - أن أبعاد "الثورة" (أي ثورة) لا يقتصر على مسألة ما يؤل إليه مصيرها على المدى القصير، (إذ أن ثمة تشاؤماً مفرطاً في مآل الأمة العربية وأوضاعها، وغرق في وضع تقديرات بخسة في حق العقل العربي والشعوب العربية)، بقدر ما هي متعلقة بكشف إمكانيات وقدرات كامنة في إرادات الشعوب، وببعثها في الواقع الاجتماعي، كما يتضح هذا جلياً في مسيرة هاتين الثورتين، وإن لم يبلغا مداهما بعد.

وطبعاً لن أعارض هذا الرأي بتبني ذات المنهج، أي من خلال إجراء مقاربات تاريخية على أمثلة أخرى من التاريخ حققت فيها الثورات مرامها مباشرة، كما هو الحال في ثورتي جورجيا وأوكرانيا اللتين اندلعتا في عصرنا الحاضر. ولكن ما يعنيني هنا هو فكرة الثورة بحد ذاتها، ومراميها التاريخية والاجتماعية والفكرية، أي ما تجلبه من منظومة قيمية سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو وقعها التاريخي في العالم العربي.

الثورة - أولاً وأخيراً - هي جزء من الحراك الاجتماعي والتاريخي، ومن خلال النظر لها من هذا المنظور، نستطيع أن نقول بقدر ما أن هناك ثورة، بغض النظر عن مآلها، بقدر ما أن هناك حراكاً اجتماعياً وتاريخياً، وإن لم يتبوأ مصيره بعد كما يراد له في البدء، غير أنه آيل إلى ذلك في سياقه التاريخي العام، وبرهان ذلك هي الثورة ذاتها - إذ هي تعبير عن رغبة في الحراك، وعن سعي إلى الإصلاح، وطلب إلى التغيير...!

طبعاً هذا ينطبق على الثورة من خلال كونها كذلك، بغض النظر عن سياقاتها، فما بالنا في ثورة قد عبرت عن آمال الشعب وإرادته، كما هو شأن ثورتي تونس ومصر (ولم تكن مجرد انقلاب من فئة معينة). فقد نخطئ في تقدير كثير من جوانب هاتين الثورتين، ولكن الأمر الذي من المستعبد أن نخطئ تقديره هو أنهما ثورتان قد نبعتا من قلب الشعب وإرادته. وهذه حقيقة تستحق أن نقف عندها ونتأملها طويلاً.

بل يمكنا أن نذهب أبعد من ذلك ونقول بأن الثورات لا تقاس بمقاييس نفعية وكمية أي من حيث مقدار ما تنجزه على المدى القصير، ولكن تقاس في تأثيرها التاريخي على المدى البعيد، إذ أنها أولاً وأخيراً تجربة تضاف إلى رصيد تاريخ الأمم، وإن أجرينا مقارنة مع مآل الثورة الفرنسية ومآل تلك الأمريكية يتضح لنا ذلك، رغم أن الثورة الفرنسية التي ابتدأت في عام 1789 م ارتدت إلى ديكتاتورية ثورية بقيادة ربسيبير و إلى حكم فردي في ظل إمبراطورية نابليون، إلا أنها "أنجح" الثورات في العالم على الإطلاق، ليس لأنها حققت مطالبها سريعاً، ولكن لأنها كانت فيصلاً في تاريخ أوربا على وجه الخصوص والعالم على وجه العموم، إذ حملت قيماً (بل حتى أحلاماً) غيرت التاريخ البشري برمته، وأدخلته في قطيعة عمّا قبله. بينما في الطرف الآخر، الثورة الأمريكية التي قامت قبلها بمدة ليست بالطويلة، قد أنجزت مطالبها بوقت قصير، إذ لقد حررت الأمة الأمريكية من الاستعمار البريطاني وأقامت حكماً ديمقراطياً (لا يزال مضرب الأمثال في الحكم الديمقراطي) إلا أنها لم تبلغ منزلة الثورة الفرنسية، إذ ظلت محصورة في جوانب ضيقة. تؤكد "حنّة ارندت" الكاتبة المعروفة في كتابها (في الثورة) على ذلك، وتقول: "إن الثورة الفرنسية التي انتهت بكارثة قد صنعت تاريخاً عالمياً، في حين أن الثورة الأمريكية التي كانت مظفرة في نجاحها قد ظلت حدثاً لا يتجاوز أهميته المحلية إلا قليلاً" (ص 76). وتقول كذلك: "لقد كانت الثورة الفرنسية وليست الأمريكية هي التي أشعلت العالم، وبالنتيجة فإن مسار الثورة الفرنسية، وليس شكل مسار الأحداث في أمريكا ولا ما قام به الآباء المؤسسون هناك، هو الذي جعل استعمالنا الحالي لكمة "ثورة" تستمد فحواه وألوان معانية من كل مكان في الدنيا ومن ضمن ذلك الولايات المتحدة الأمريكية" (ص 75).

فالرؤى التي تنظر إلى "الثورة" على أنه حدث تاريخي منفصل عن سياق التاريخ العام وفلسفته، لا تراعي أهمية الثورة من حيث كونها حراكاً اجتماعياً، قد يحمل قيماً هي التي من شأنها أن تقوم - في نهاية المطاف - بتغيير مجرى التاريخ لهذه الأمة ولأمم أخرى أيضاً.

ولعل من المفارقة المضحكة أن فشل الثورة الفرنسية كان هو سبب نحاجها والعكس صحيح في شأن الثورة الأمريكية، فإن سبب انتكاس الثورة الفرنسية - اتكاءً مرة أخرى على ارندت - هو أنها كانت "عاطفية" في جوانب كثيرة منها، فقد كانت أفكار جان جاك روسو الرومانسية هي التي دفعت بالجموع الغاضب إلى الباستيل، وألهمت زعيم الثورة روبسبير في أن يدمج "التعاطف" مع الضعيف والفقير في جوهر الثورة الفرنسية، ويدشن "حكم الرعب" الذي لم يتوان حتى من سحل من يشكلون خطراً - ولو يسيراً - على مكتسبات الشعب الثورية، حتى نال هذا بعض زعماء الثورة الأوائل لأن "الثورة تأكل ابناءها" كما كان روبسبير يردد. وفي ذات الوقت لقد أجج شعور التعاطف الحقدَ على رموز الطغيان والاستبداد، هذا الحقد الذي دفع بمن نظر لهم على أنهم رموز الطغيان إلى المقصلة، بما في ذلك ملك فرنسا لويس السادس عشر، لأن جريرة هذا "الفقر" و"البؤس" الذي عانى منهما "الشعب" تقع على عاتقهم، وكان منطقها في ذلك أن بتر هذه الرموز هو بتر للفقر والبؤس، وكان هذا هو الباعث الأكبر وراء الثورة الفرنسية التي صنعت شعاراتها في العدل والحرية والمساواة. بينما الثورة الأمريكية التي اتسمت بالعقلانية "الجامدة" لم تنشغل إلا في تحرير الأرض، وشكل الحكومة السياسي، وبناء الدستور بشكل يضمن حفظ الشعب من تسلط الحكومة بحكم أنها "شر لابد منه"، ولكن مسألة "الفقر" و"البؤس" لم تكن من أهم أولوياتها، بل لعلها تجاهلتها أيما تجاهل، فقد تغاضت عن حقوق جزء كبير من الشعب الأمريكي، وهم طبقة العبيد السود رغم ما كانوا يرزحون تحته من شقاء وبؤس! وهو الأمر الذي أشعل فتيل الحرب الأهلية ما بين عامي 1865 - 1861 1865 - 1861.

إن هذا الشعور بالشفقة الذي ساد في الثورة الفرنسية هو الذي طبعها بطابع دموي، وأدخلها في نفق مظلم يحدوه المجهول والفوضى، ولكنه في ذات الوقت كان أقدر على التلاقي مع حقيقة الثورة بحكم أنه جعل منها في الطرف الآخر "ثورة اجتماعية" قبل أن تكون "ثورة سياسية"، والأهم من كل ذلك هو أنها ثورة قد قادها "الفكر" (فكر عصر الأنوار المبكر) ثم قادته بدورها، لذا لم تكن مجرد تغيير، ولكنها صانعة للتاريخ، ولا عجب أن تتعلق من الناحية التنظيرية والفلسفية في "ضرورة التاريخ"، وهو ما نشهده واضحاً في أطروحة هيجل عن فلسفة التاريخ، وأطروحة ماركس في الاستغلال الطبقي الاجتماعي، ولا نستطيع أن ننكر دور هاتين الفلسفتين في صناعة "حداثة" عصرنا الحاضر، وهما من الهام الثورة الفرنسية بامتياز.

وبناء على ذلك، من البخس أن نرى بأن دلالة ثورتي تونس ومصر تقتصر على مدى تحقيقهما لأهدافهما الظاهرة في جدول زمني مقنن، ولا نقرأ دلالتهما التاريخية والفكرية على العالم العربي وتاريخه، فلا شك بأنهما - سواء ظفرتا بما تريدان أو لم تظفرا - قد أصبحتا علامة فارقة في تاريخ الأمة العربية وشكلتا منعطفا خطيرا في تاريخها في العصر الحاضر.

ودلالة هذا هو أن هاتين الثورتين لم يقتصران على كشف هذا الحراك وهذا الطلب للتغيير، وعلى نفض الغبار عما كان يكنه مكنون "الوضع الراهن"، ولكنهما امتدتا إلى فضح وتعرية كثير من الأفكار والانطباعات التي كان ينظر لها على أنها أصنام مقدسة لا يجوز تدنيسها، أيما تدنيس حتى لو أن نهمس حيال صمتها بكلمة "لا"...!

فمن دلائل أصالة الثورة - إن صح التعبير - هي أنها لا "تتمرد" على "الوضع الراهن" وحسب، ولكن تتمرد على البنى الفكرية التي قد ولّدت هذا الوضع، لذا تحمل الثورة مغزًى فكرياً أكثر من أنها تحمل معنًى ثورياً بالمعنى الضيق للثورة. لذا فإنها لا تجلب لنا "نظاما سياسياً" عوضاً عن آخر، ولكنها تجلب لنا رؤى جديدة عن نظام اجتماعي جديد، السياسي ليس إلا جزءا يسيراً منه (بغض النظر عن قدرة المجتمع على تحيق هذه الرؤى على أرض الواقع السياسي)، أنها تبعث في الشعوب بروح الإبداع والأمل، وتعبر عن قدرة (حتى لو لم يتسن لها أن تظهر بالفعل على المدى القريب) لخلق أنظمة جديدة على كافة الأصعدة...! وهو الأمر الذي من مقتضياته - في نظري - أن يجبر الفكر على أن يتحرك بمسار جدلي مع الواقع الجديد الذي تفضي إليه الثورة، لا على أساس أن يحاكمها لسياقات تاريخية مغايرة، ولكن على أساس أن يحاكمها للحظة الراهنة التي تنطوي على رؤى وآمال شعبية، فمن الثابت للمراقب بأن ثورتي تونس ومصر تحملان في جعبتها تنظيرات جديدة، لابد أن تحيل بوصلة الفكر إلى اتجاه آخر، هو انعكاس لها في الأصل. لذا أعتقد بأن الخطاب الثقافي والفكري لابد أن ينخرط في هذا الاتجاه، كي لا يكون الواقع أبلغ من الفكر، فمجرد أن ينفصل الفكر عن الواقع تموت ديناميكية الجدل بينهما.

وهكذا فإن هواجس من ينظر إلى ثورتي مصر وتونس بنظر تشاؤمية كتلك التي وصفنها في البدء لا أساس لها إذ أنها لا تراعي متطلبات المرحلة الفكرية لهما، ولا المرحلة التاريخية، حيث أنها مشغولة وحسب في احتكامها إلى شروط مقننة مسبقاً، هي من صنيعة هذه الهواجس أكثر من أنها من صنيعة تجارب التاريخ، وإذ كأنها ترى أن التاريخ مرحلة واحدة مثبتة لا تميد ولا تريم، وهي ذات النظرة التقليدية والتراثية التي ظللنا ننتقد فيها هذا النزوع الماضوي السلبي الذي لا يقرّ بأن التاريخ يسير ويمضي، وليس زمناً مسمراً في عصر معين.!

وقصور الفكر عن اللحاق بالثورة قد يكون هو سبب إجهاضها، وليست السبب هو الثورة بحد ذاتها، لذا هذه الرؤى المتشائمة التي تنظر إلى الثورة نظرة "رجعية"، قد تكون حقيقة هي سبب فشل الثورة، هذا إن قدر لهذه الرؤى أن تكتسح روح الثورة وروح الشعب.

وإذ نظرنا إلى ثورتي تونس ومصر من تلك الزاوية، نستطيع أن نزعم بأنهما قد نجحتا بمجرد أن تحرك الشارع العربي، وعبر عن إرادته، بعد أن ساد شعور بأن الشارع العربي لا وجود له، وأنه ميت (أو في حكم الميت)، لذا لا نستعجب أن تحرك الشارع العربي في بلدان أخرى، فقد أوصلت ثورتا تونس ومصر رسالة واضحة لا تحتمل اللبس إلى الأنظمة والشعوب العربي مفادها أن الشعوب لا تموت، وإن أصابها الكسل والشلل، فإن هذا مرحلة عابرة، ومفادها أيضاً أن التاريخ لا يبقى ثابتاً، ولكنه يتحرك، والأمم قادرة على أن تشكل حراكه وتسيّر دفته...!

وهذا هو معنى "الثورة" في أصح معانيها، حراك تاريخي وبعث للشعوب، فالثورة لابد تحرك المياه الآسنة، وإن طال أمدها. لذا المطلوب من النخب في هذه المرحلة ليس النواح على أساس أن الماضي مظلم، ولكن التجاوب مع المستجدات ومحاولة بناء قراءات جديدة من شأنها أن ترفد الثورة إلى أن تصل إلى منتهاها!


الرياض

Ssultan491@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تحية
ليلى الاصلية -

الاكراد اثبتوا وطنيتهم وانتمائهم للدولة السورية اثناء احتفالات عيد نيرو-فتحية لهم