الشرق الأوسط !! مراجعة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
عانت منطقة الشرق الأوسط، في القرن العشرين، من إرهاصات الاحتلال الأجنبي، العسكري والاقتصادي، ومن الصراعات الأيديولوجية للثورات الوطنية والقومية والاشتراكية، ومن التمزقات الطائفية لثورة الإسلام السياسي. ومع إطلالة القرن العشرين، عاشت المنطقة تداعيات الحادي عشر من سبتمبر، بالحرب على الإرهاب، ولم يبدأ العقد الثاني من هذا القرن، حتى اجتاحتها زلزال انتفاضة العولمة، والتي سنحتاج لعقود طويلة قادمة لتقيم نتائجها. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل فعلا تحتاج منطقة الشرق الأوسط لتكرار موجات الثورات والانقلابات الماضية، أم حان الوقت لوقفة مراجعة تقييم هادئة، بعيدة عن الانفعالات العاطفية للثورات وإرهاصاتها، وقريبة من حكمة العقل، وتناغم النفس، وصفاء الروح؟ ألم تؤكد دراسة التاريخ البشري بأن الثورات، عادة، تأكل أطفالها؟ ألم يحن الوقت للاستفادة من أعمدة الحكمة الغربية السبعة: ثقافة السلم، البرغماتية الواقعية، الكفاءة والأداء، القانون والتعليم، اقتصاد السوق الحرة، والعلوم والتكنولوجيا، لتنمية منطقة الشرق الأوسط اجتماعيا واقتصاديا؟
لفت نظري بعد "ثورة" الخامس والعشرين من يناير الماضي بجمهورية مصر العربية، تصريح لشاب مصري يقول فيه: "نحن في مصر نحتاج لخمسة وثمانين مليون ثورة، ثورة كل مواطن مصري على عقله ونفسه وروحه." لقد شخص هذا الشاب بحكمة عقله، وبتناغم النفس في داخله، وبصفاء روحة، علاج لمواطني الشرق الأوسط لمعالجة تحديات الألفية الثالثة، فلنحاول عزيزي القارئ أن نتدارس حكمة شباب العولمة الجدد.
تؤكد نظرية هرم الحاجيات، للبروفيسور الأمريكي، أبراهم ماسلو، بأن هناك حاجيات بشرية، مادية، وذهنية، ونفسية، وروحية، لخلق شخصية مجتمعية سوية. وتبدأ قاعدة هذا الهرم بحاجيات فيزيولوجية، كالهواء والماء والغذاء، وحاجيات أمنية، كالملبس والمسكن والأمان، وحاجيات إثبات الذات، بتوفر العمل، ليشارك الإنسان في إنتاجية مجتمعه، ويثبت به قدراته الإبداعية. ويمثل جسم هذا الهرم الحاجيات النفسية، والتي تشمل توفر بيئة العائلة والأصدقاء وزملاء المهنة والجيران وأهل الحي، بينما يتكون قمة هذا الهرم من حاجيات ذهنية، ممثلة بالحرية العقلية، والتي يستطيع الإنسان من خلالها أن يعبر عما يجيش في أعماقه من أفكار بصدق وحكمة، ليشارك بتناغم في استقامة أخلاقيات سلوك المجتمع وتطوره وازدهاره. كما يضم هذا الهرم حاجيات الإنسان الروحية، التي تسمو بالنفس البشرية، وتدرس الكون وخالقه، لتتفهم دورها في الوجود. وقد طور الغرب فلسفة الرأسمالية الديمقراطية، كمحاولة لتوفير هذه الحاجيات، بالاعتماد على الفرد لتحقيق تنمية المجتمع وسعادته، وذلك بتوفير حرية التعبير، وضمانة التملك، ومنافسة المتاجرة، والحماية من الفقر، بشبكة من الحماية التعليمية والصحية وتأمين تعطل وتقاعد. كما ربطت الحضارة الغربية بين الحرية والإنتاج، وبين السعادة والإبداع، فكلما كان الإنسان حرا، "حرية مسئولة"، زاد توازن تفكيره، وحكمة آراءه، ليستفيد من معرفته وخبراته في إنتاجية مبدعة، ليشارك في تنمية الوطن وسعادة شعبه.
وقد بدأت رأسمالية الغرب الديمقراطية مواجهة تحديات معقدة في القرن الواحد والعشرين، بعد أن حول الميكروشب العالم لقرية عولمة صغيرة، وغزت تكنولوجية الانترنت عالم السياسة. فلم تعد تعتمد الشعوب على إعلام حكوماتها، كما صعبت على السياسيين الاختفاء وراء شفافية العولمة. ففتح اليو تيوب، والبوك فيس، والتويتر، أبواب عالم جديد للنقاش، وتبادل الأخبار، وسهلت تكنولوجية التلفون الرقمي إحصائيات استطلاعات الرأي، والاستفتاءات الدقيقة والسريعة، والتي سلطت الأضواء على شعبية السياسيين، وتحدت أفكارهم وخططهم وسلوكهم. وبرز ذلك بانخفاض شعبية أحزاب الغرب وبرلماناتها وحكوماتها بشكل غير مسبوق. وعبر ديفيد هوول، الوزير البريطاني، وعضو مجلس اللوردات، عن ذلك بقوله: "الأحزاب السياسية التي خدمت كأعمدة للنظام الديمقراطي في الغرب، خلال القرنين الماضيين، بدأت في رحلة انهيار مستمرة، لتذبل أعضائها، وتتحول سياساتها لمهزلة مضحكة، ومحتقرة، تقريبا، في كل مكان. فلم يعد يحترم المواطنون لعب السياسيين الماكرة، وأصبحت أحزابهم وحكوماتهم نكرة مؤسفة. والتحدي الأكبر هو أن الحكومات الوطنية لم تعد في استطاعتها السيطرة على شؤون الدولة، بسبب تطفل العولمة في كل زاوية." وبينما بدأت تفقد ديمقراطية الغرب الرأسمالية فاعليتها، تقوم دول الشرق بتقليدها، بعد أن غيرت تكنولوجية "التلي بوليتكس" آليات عملها.
وقد ناقشت الكاتبة بارت شيريدين شعار الانتخابات هي الحل، بمجلة النيوزويك بقولها: "الصورة فعلا مؤثرة، الأصبع الخنصر القرمزية في العراق، صف النساء بالبرقع في انتخابات أفغانستان، وجهود المسئولين الدوليين للدفع بالديمقراطية بأسرع ما يمكن لبناء دول الشرق الأوسط، بينما ينتقد علماء السياسة كل تلك الجهود، بأنها ستدفع هذه الدول للوراء. فقد قام البروفيسور البريطاني بول كولير، أستاذ الاقتصاد بجامعة أكسفورد، بدراسة مجتمعات عانت سابقا من الصراعات، لمعرفة العوامل التي تؤدي للسلام، فأستنتج بأن الانتخابات في هذه الدول لم تساعد على تحقيق التناغم المجتمعي. فمع أن خطورة العنف تنخفض في فترة النشاطات الانتخابية بنسبة 5.2%، ولكنها تتصاعد في السنوات التالية، لأكثر من الضعف، وبنسبة 10.6%. والنتيجة هي أن الانتخابات تزيد من احتمال التطرف والعنف، لينعكس الوضع، ولترجع الصراعات الطائفية والقبلية من جديد، بسبب فرز الانتخابات للفائز عن الخاسر، حيث يكون الخاسر غير مستعد للمصالحة. فصناديق الانتخابات تعوض عن الصواريخ، وطلقات الرصاص، لفترة مؤقتة."
وقد ناقش البروفيسور بول كولير، خبير بالأمم المتحدة، في كتابه، مليار القاع، صراعات السلطة في دول العالم الثالث، فقال: "يعيش 80% من سكان العالم الثالث في بلدان تحسنت فيها أوضاعهم المعيشية، ويعيش عدة مليارات في بلدان أخذت في التطور وبسرعة شديدة. ولكن هناك أكثر من مليار من البشر في ثمانية وخمسين دولة راكد اقتصادها، ويعيش شعوبها في أوضاع مستميتة. فقد سقطت هذه الدول في فخ الصراعات، وقلة الموارد الطبيعية، والحكومات السيئة لدول صغيرة، ولجيران سيئين، ولا تستطيع التخلص منهم. فحوالي 73% من هذا المليار، يعانون من حروب أهلية، و 29% منهم في دول مبتلية بفساد في سياسة مواردها الطبيعية، و 30% بجيران سيئين، و 76% يعيشون في دول حكوماتها سيئة وسياساتها الاقتصادية متهرئة. ولن تساعد التجارة هذه الفئة، فدولها ليست منافسة في تصدير منتجاتها، كما أن قواها العاملة وخدماتها لا تستطيع تحدي كفاءة ورخص المنتجات الصينية والفيتنامية، وتتوجه الاستثمارات الأجنبية لاستغلال مواردها الطبيعية. وفي الحقيقة أن المشكلة معكوسة، فرؤوس أموال هذه الدول تهرب للخارج، فمثلا 40% من الثراء الأفريقي أستثمر في الخارج في عام 1990. ولم تؤدي المساعدات في تحسين الأوضاع، ولا الدعم الغير المشروط للميزانيات، ولا أموال النفط، كما لم يهتم المعارضون بفكرة إلغاء الديون عن هذه الدول."
ويعتقد البروفيسور كولير بأن الأمم المتحدة يمكنها أن تلعب دورا مؤثرا، في تحسين تشريعات هذه الدول، وتوفير المفاضلة في التجارة العالمية، ومنع التعامل مع الرشوة والأموال المسروقة، وتطوير نظام حكم شفاف للتعامل مع الموارد الطبيعية، والاتفاق على ميثاق وطني مع شعوبها يوفر الديمقراطية وشفافية الميزانية وتشجيع الاستثمار. ويبدو بأن الدول الغنية مقتنعة بحاجتها لمنع تكرار تجربة الصومال المكلفة أمنيا وماليا، وهي مستعدة لتوقيع ميثاق حكم جيد معها لتساعدها بمعونات شفافة وتسهل صادراتها، لكي تطور صناعاتها.
وقد بدأت في أفريقيا تجربة ديمقراطية جديدة بعد عقود طويلة من الحكومات المستبدة، فجلبت الشرعية والمحاسبة ليتطور الاقتصاد وتنخفض نسب العنف. فقد أكدت الانتخابات النيجيرية في عام 2007، بان التخويف يقلل من نسب المشاركة في الانتخابات، وتكون الأحزاب الضعيفة أكثر عنفا في العادة، بينما تزداد ظاهرة شراء الأصوات وتزوير النتائج بين الأحزاب القوية. وينتقد البروفيسور محاولة الغرب فرض ديمقراطيته بالانتخابات بقوله: "لقد كان المجتمع الدولي ساذجا بتنكره للواقع، وبتخيله بأن الأمن والمحاسبة بين الدول الغير متطورة ستتحقق بالانتخابات. فقد بينت التجربة بأن الديمقراطية ليست فقط انتخابات، كما أنه من السهولة سرقة الانتخابات إذا لم تكن هناك مراقبة ومحاسبة بحرية الأعلام وتطبيق القانون بصرامة. "
وقد بينت دراسة البروفيسور انكي هوفلير، الأستاذ بجامعة أكسفورد، بأن التكلفة المالية للدول الساقطة، كالصومال، تتجاوز المائتين والسبعين مليار دولار سنويا، بالإضافة لتكلفة محاربة الإرهاب والمتاجرة بالمخدرات، كما أن الجزء الأكبر من التكلفة (87%) مرتبط بالدول المجاورة لانخفاض اقتصادياتها بسبب الفوضى السياسية. وعلى المجتمع الدولي التدخل في هذه الحالات، فقد يكون المحافظة على السلام مكلفا، ولكن ترك الوضع كما هو أكثر كلفة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيراجع الشرق إصلاحاته السياسية ويعطي الأولوية لإصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان