فضاء الرأي

في علم اجتماع الثورة (1-2)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من بين الأعمال المتميزة لعالم الاجتماع العراقي د. حاتم الكعبي هو كتاب "في علم اجتماع الثورة" الذي يعد رائدا في مجاله للمكتبة العربية، حيث صدر عام 1959 في بغداد. ولأهمية ما تناوله من تنظير سوسيولوجي لظاهرة اجتماعية مهمة تمتد في عمق التاريخ البشري ولا تستثني جماعة بشرية معينة إلى الأبد. كذلك تزامن الأحداث الحالية التي تشهدها المنطقة العربية، نعرض الكتاب مع تعقيبات وتحليلات مرتبطة بالتطورات الأخيرة في العالم العربي.
يتضمن الكتاب عشرة مباحث هي: تعريف الثور، أسبابها، معالم الفترة التي تسبق الثورة، مراحل الحركة الثورية، قادة الحركة الثورية وأتباعها، دور المفكرين والمثقفين في الحركة الثورية، ما تتوخاه الحركة الثورية وما يتمخض عنها، أنواع الثورات، ومقارنة الحركة الثورية بالحركة الإصلاحية.


في تعريف الثورة:
لا يوجد إجماع بين علماء العلوم الاجتماعية على ماهية الثورة وتعريفها، مثلما هو الحال في عدم إجماعهم على كثير من الظواهر الاجتماعية. ولكن هناك نقاط رئيسية يلتقون بها، يمكن أن تشكل إجماعا على تعريف الثورة. منها مثلا: أنها التغيير المفاجئ السريع، البعيد الأثر في الكيان الاجتماعي. ذلك التغيير الذي من شأنه أن يحطم استمرارية الأحوال الراهنة في المجتمع. من جانبه يوصف عالم الاجتماع "هربرت بلومر" الثورة بأنها تبتغي إعادة بناء وتنظيم النظام الاجتماعي كله تنظيما وبناء جديدا. ويرى كارل مانهايم أن الثورة عمل قصدي وإن كانت بعض عوامل هذا العمل الاجتماعي لاشعورية. ولذا فهو يؤكد أن الثورة تعني فيما تعنيه أن هناك توقع حدوث انحطام في الكيان الاجتماعي المبرر القائم وفي التنظيم الاجتماعي الراهن ووجود قصد لأحداث مثل هذا الانحطام والانهيار. باختصار فإن الثورة ماهي إلا ردود أفعال الأفراد والجماعات على الأحوال غير المرضية في حياتهم الاجتماعية عامة، ولكن بعد أن تنتظم هذه الردود في عمليات السلوك الجمعي.
يجب أن نميز هنا بين الانقلابات العسكرية خاصة أو تلك التي تقوم بها أحزاب سياسية، وتسميها "ثورة". حيث تختلف بشكل كبير عن مفهوم الثورة، التي يفترض أن تعبر عن إرادة شعبية لغالبية أفراد وفئات المجتمع.

معالم الفترة التي تسبق الثورة:
هناك بعض الظواهر الاجتماعية غير المألوفة في الأحوال الاعتيادية للمجتمع، وإن من هذه ما يزيد في قوة الانفجار أو ما يعجل به. إن من علائم القلق والاضطراب الاجتماعي الذي يسبق الثورة، ارتباك وعشوائية سلوك الناس وعدم استقرارهم والقيام بإخلال النظام والخروج عليه واقتراف جرائم عاطفية وزيادة الجرائم الجنسية وحوادث الجنون وانتشار التشهير بنقائص النظام القائم والتحريض على تغييره. ويبدأ في هذه المرحلة أيضا تبلور "ايديولوجي ثوري" يوجه السلوك الجمعي بالتدريج وجهة معينة واضحة.
يذهب ادواردز إلى أنه لابد من بروز ظاهرتين في المرحلة التي تسبق الثورة وهما: انتقال وتحول ولاء المثقفين، وتكون الخرافة الاجتماعية (الحلم بتحقيق أوسع أهداف الثورة أو الذهاب بعيدا بها، إلى حد التصور بتحقيق حياة مثالية). يصاحب هذه المرحلة ضعف وانهيار قوة السلطة السياسية الحاكمة.
يجب الانتباه إلى أن الثورة كظاهرة اجتماعية تتغير أسبابها ومعالمها، ومراحلها باختلاف حياة المجتمعات، والوسائل التي تستخدمها بما فيها وسائل الاتصال. لذا لا غرابة أن نجد أن بعض الوصف أو معظمه لا ينطبق على ما حدث أو يحدث من ثورات في العالم العربي في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

مراحل الحركة الثورية:
يجمع الباحثون في هذا الميدان على أن الحركة الثورية لا تتم بين عشية وضحاها، بل تمر بمراحل متعددة مختلفة، وإن لها دورة حياة قد تستغرق سنة أو بعض السنة أو جيلا أو عدة أجيال. إن تقسيم الحركة الثورية إلى مراحل لا يعني أن هناك حدودا واضحة بين هذه المراحل، ذلك أن الحركات الثورية شأنها شأن الحركات الاجتماعية في هذا الوجه تنتقل من مرحلة لأخرى بطريقة لا يشعر بها.
عموما يقسم المختصون مراحل الثورة بصورة عامة إلى قسمين رئيسيين. تكون الحركة في الجزء الأول منها سيالة رجراجة، تلقائية لا تتميز إلا بشئ قليل جدا من التنظيم. أما الأهداف فهي موجودة بصورة جنينية أولية. أما الجزء الثاني من حياة الثورة فيتميز بالتنظيم الواضح، في تقسيم العمل وفي تبلور الأهداف وتبني وسائل وأساليب معينة لتحقيق تلك الأهداف، وفي ظهور القيادة أو الزعامة في الحركة. حتى إذا نجحت الثورة ووفقت في أهدافها، شغلت بإقامة نظام اجتماعي جديد.
يصف جيروم ديفز مراحل دورة حياة الثورة كما يلي:
تبدأ الحركة بوجود حركة محسوسة لدى الأفراد يعبرون عنها أمام بعضهم البعض. ومن ثم التحريض والإثارة والدعاية، فالشعور الاجتماعي بالحاجة ومن ثم التنظيم، فالمرحلة الأساسية التي تتميز بتمخض الحركة عن تكوين مؤسسات لها. ومن ثم نشأة وظهور الوجه المكتبي لهذا التنظيم المؤسسي ومن بعدها جمود هذا التنظيم وعدم مرونته. في حين يرى كل من داوسون وغيتز أن الحركة تمر بأربع مراحل تبدأ بالقلق والاضطراب الاجتماعي وعدم الاستقرار، ثم مرحلة الهياج الجمعي، فالمرحلة الشكلية وأخيرا المرحلة المؤسسة.

قادة الحركة الثورية:
يتفق فريق كبير من الباحثين في هذا الميدان ومنهم بلومر، داوسون وهيوز، كشلو، بارك وغيرهم على أن الزعيم في الحركة في مراحلها الأولى هو من نوع المهيج والمحرض. وفي مرحلة الهياج تصبح أهداف الثورة أكثر وضوحا ويكون الزعيم في الأعم الأغلب من نوع النبي أو المصلح. وفي المرحلة التي تكتسب فيها الحركة الثورية شكلياتها تتسم عادة، أكثر من ذي قبل بتكون قواعد وأنظمة وانضباط وخطة عامة للعمل في سبيل تحقيق أهداف الحركة. وفي هذه المرحلة يكون الزعيم أو القائد من نوع وطبيعة رجل دولة. وفي المرحلة اللاحقة التي تتبلور فيها الحركة يقوم أعضائها بادوار وظيفية والعمل على تنفيذ أغراض الحركة، ويكون الزعيم على أكبر احتمال إداريا أو من النوع الإداري.
يؤكد تشادوريك أن الحركات الثورية الوطنية منها والقومية نادرا ما تخلق من قبل ذوي مراكز عليا في المجتمع. إن الذين يبدأونها ويخلقونها في الأعم الأغلب من الأدباء والكتاب ورجال الدين.
اشتهر عن اتاتورك أنه قال: إن اؤلائك الذين يميلون في حل المشاكل إلى طرق المساومة لا يصلحون لان يقوموا بثورة.

دور المثقفين والمفكرين في الحركة الثورية:
إن الدور المهم الذي يلعبه المفكرون والمثقفون في الحركات الاجتماعية عامة وفي الحركة الثورية بصورة خاصة، هو دور لا يتناوله الباحثون إلا عرضا فيما كتبوا عن هذه الحركات، ولا يمرون به إلا مرور الكرام في الأعم الأغلب. ينقل د. حاتم الكعبي عن أستاذه في جامعة شيكاغو (بروفيسور شلز) أنه حين قدم موضوع درسه الذي يدور حول المفكرين قائلا: "لقد بحث هؤلاء المفكرون كل المواضيع في الدنيا وطرقوها ولكنهم نسوا أنفسهم فقصروا في هذا الباب". حيث يلعب المثقفون والمفكرون دورا هاما في تنمية الحركات الاجتماعية بصورة عامة وفي توجيهها ونشرها وإرساء قواعدها بين الناس وبلورة رسالاتها والدفاع عنها، والرد على خصومها والمساهمة في وضع الخطة العملية لإنجاحها، وفي تطعيمها بالعنصر الطوبائي. وفي صياغة أهدافها ووضع عقائدها وحتى ما يتصل بهذه العقائد من أساطير وخرافات.
يقول فردريك هرتز " إن الدور الرئيسي في كل الحركات الاجتماعية التي عرفناها، هو الدور الذي لعبته الطبقات المثقفة من أساتذة وطلاب ومحامين وموظفين وأطباء ومعلمين وكتاب وصحفيين. ويحدثنا لازويل عن دور المثقفين في الحركات القومية بعد أن يصنف الحركات القومية إلى أصناف وأنواع مختلفة فيؤكد على أن دور المثقفين فيها هو تحفيز الإحساس الراكد على إدراك الوحدة الحضارية والثقافية التي تربط الأمة الواحدة وذلك عن طريق الإنتاج الثقافي والتهييج السياسي.
يرى جوزيف شمبتر، أن المعاناة والظلم الذي يواجهه المجتمع مع النظام القائم غير كافية لإثارته على الثورة، بل لا بد من تهيئة الناس لمثل هذه الحالة، وتنمية الجو النفسي الاجتماعي إلى هذه الدرجة من النقمة وتنظيمها، وتغذيها وتعبر عنه وتقودها، ذلك أن جمهور الناس غير قادرين لوحدهم عادة على تكوين الآراء المتعلقة بهذا الوجه من الموضوع خاصة، يضاف إلى هذا أنهم اضعف قدرة مما مر على ربط هذه الآراء وتحويلها إلى مواقف ثابتة منسجمة وأعمال.
إن الطلاب أيضا يمكن أن يصنفوا جزء من فئة المثقفين، يلعبون دورا خطيرا في الحركات الثورية عادة. فقد لعب طلاب الجامعات في فرنسا دورا خطيرا في الحركات التي حدثت في باريس سنة 1830 وسنة 1848، وفي تلك التي حدثت في فيينا سنة 1848 حيث كون الطلاب كتائب ثورية وكذلك فعل طلاب ألمانيا وروسيا خلال القرن التاسع عشر وفي مصر قبيل ثورة 1952 وفي وسوريا قبل اتحادها بمصر وفي جنوب إفريقيا والعراق وغيرها.
وحتى لا يكون هناك تعميم لدور المثقفين ومواقفهم، فاننا نلجأ الى وصف مانهايم لفريق من المثقفين بـ" المثقفين الأذناب" وهم الذين يضعون خدماتهم من أجل مصالح طبقة معينة.

أنواع الثورات:
إن للثورات أنواعها المختلفة، فالماركسيون مثلا يصنفون الثورات كما يلي:
ثورة القصر الملكي، ثورة ضد الاستعمار، الثورة البرجوازية، ثورة العمال، والثورة المضادة. ويرى فريق من الكتاب أن الثورة على نوعين هما، مسلحة وغير مسلحة. فيما يرى فريق ثالث، أن تصنيفها يتوقف على الحقل الذي تحدث فيه. فهي مثلا: حضارية، صناعية، سياسية وهكذا. بينما يرى فريق آخر وعلى رأسهم داوسون، أن الثورة ما هي إلا أنواع من الحركات السياسية، ويقسمها إلى نوعين من حيث الأهداف:
1- حركات تتوخى أهدافا ثورية، حيث تنشد تغيير الآداب والمعايير السلوكية المرتبطة بها، وذلك بتحطيم النظام الاجتماعي القائم والقضاء عليه وإقامة نظام اجتماعي جديد مكانه.
2- الحركات التي تتوخى أهدافا إصلاحية تنشد إلى تغيير المؤسسات الهامة والأحوال لتجعلها منسجمة متمشية مع الآداب والقيم العامة السائدة في المجتمع. وان هذا النوع من الحركات السياسية يبتغي تغيير النظام السياسي الحاكم والإدارة القائمة.
يتبع التكملة في الجزء الثاني
* مختص بعلم الاجتماع-
hashimi98@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مهم جدا
القاريء -

الموضوع مهم جدا جاء في وقت غالت فيه التحليلات العلمية لظاهرة غيرت تاريخ المنطقة وشغلت الجميع وهي الثورات والانتفاضات العربية.

مهم جدا
القاريء -

الموضوع مهم جدا جاء في وقت غالت فيه التحليلات العلمية لظاهرة غيرت تاريخ المنطقة وشغلت الجميع وهي الثورات والانتفاضات العربية.

جواب
مشحن التميمي -

عاشت ايدك دكتور حميد موضوع رائع في وقته المحدد وعرض لكتاب استاذ عراقي كبير

جواب
مشحن التميمي -

عاشت ايدك دكتور حميد موضوع رائع في وقته المحدد وعرض لكتاب استاذ عراقي كبير

جامعة لندن
حيدر سلـــطان -

أجدت يا أستاذ بمقالتك كاستاذ في علم الاجتماع, فكما ان للمريض دواء لعلته ينشدها عند الطبيب, كذاك لامراض المجتمعات البشرية علاجاتها عند اختصاصيي علم الاجتماع. فعلينا كمثقفين ان نعطي الدور الكافي لعلمائنا في هذا العلم المهمش عند العرب والذي انعش وبعث الحياة في اوروبا.

جامعة لندن
حيدر سلـــطان -

أجدت يا أستاذ بمقالتك كاستاذ في علم الاجتماع, فكما ان للمريض دواء لعلته ينشدها عند الطبيب, كذاك لامراض المجتمعات البشرية علاجاتها عند اختصاصيي علم الاجتماع. فعلينا كمثقفين ان نعطي الدور الكافي لعلمائنا في هذا العلم المهمش عند العرب والذي انعش وبعث الحياة في اوروبا.