فضاء الرأي

الشرق الأوسط وحضارة التعاطف (1)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

تحتاج شعوب العالم لبيئة الوئام، وثقافة التعاطف بعد أن عانوا، في القرن الماضي، من خلافات، وحروب باردة وساخنة، ضيعت الكثير من مواردهم البشرية، والطبيعية، والمالية. وزاد إحساس مفكري الغرب بالحاجة لهذه البيئة، خاصة بعد حربي العراق وأفغانستان، وبعد الأزمة الاقتصادية لعام 2008، التي ضيعت 40% من ثراء العالم. وستلزم الشعوب، التحديات الاقتصادية، والبيئية، والأمنية، المتشابكة في عالم العولمة الجديد، وبأقطابه المتعددة، في الألفية الثالثة، للعمل بشراكة تعاونية. وستحتاج هذه الشراكة لأجيال مستقبلية تتربى في بيئة الوئام والتعاون، وتتغذى بثقافة الإيثار والتعاطف، لذلك أضافت الجامعات الغربية برامج تهيئ طلابها لهذه البيئة الجديدة، كما صدرت أبحاث وكتب كثيرة تناقشها. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: كيف سيتحول الشرق الأوسط من منطقة ملتهبة بالحروب المتكررة، والخلافات الإيديولوجية، والصراعات السياسية، والتمزفات الطائفية، إلى واحة الوئام والتعاون، لتتغذى شعوبها بثقافة الإيثار والتعاطف؟
اخترت للقارئ العزيز كتابين، قد يثريا حوار الشرق الأوسط حول هذه الواحة المقترحة، وبثقافة الإيثار والتعاطف، فقد سلط جون كارلن، في كتابه، "إنفيكتس،" الضوء على حياة نيلسون منديلا، بعد انتخابه رئيسا لجمهورية جنوب أفريقيا. فعرض بشكل فني جميل ذكاء التعاطف للرئيس منديلا، الذي أنقد بلاده من تفاقم تمزق عرقي، بعد نصف قرن من نظام التفرقة العنصرية. وقد نجح منديلا خلال السبعة والعشرين عاما من سجنه، في خلق علاقة تعاطف إنسانية مع ساجنيه، ليستبدل انفعالات الكراهية، والانتقام، بعواطف الوئام، والتعاطف. وحينما أطلق سراحه، وفاز في الانتخابات الرئاسية، أستمر في سياسته التعاطفية، وبدأها في أول يوم من رئاسته، بالمحافظة على موظفي الرئيس السابق البيض في مكتبه، وحتى رجال الأمن منهم. وتدخلت ثقافة التعاطف مرة أخرى، حينما خسر فريق البيض، "سبرنجبوك" لكرة الرجبي، الممثل لنظام التفرقة العنصرية، في إحدى مباريات كأس العالم، فغضب السود، وحاولوا التخلص منهم. فأنتهز منديلا هذه الأزمة مرة أخرى ليوحد شعبه، وذلك بالمحافظة على كرامة البيض، فبدل أن يطردهم من الفريق، ساعدهم على تحويل الفريق الخاسر للفريق الوطني للجمهورية الجديدة، مما أدى لتعاطف البيض والسود معا، ليفوز نفس الفريق الخاسر سابقا، بكأس العالم لكرة الرجبي في عام 1995. فنجح منديلا بثقافة الإيثار والتعاطف، الاستفادة من فن الرياضة، لتوحيد شعبه.
كما ناقش البروفيسور الأمريكي، جرمي ريفكن، أستاذ العلوم الاقتصادية بكلية ورتون، بجامعة بنسلفانيا، والمستشار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، في مقدمة كتابه الجديد، حضارة التعاطف، تحديات الجنس البشري في القرن الواحد والعشرين فقال: "لم يتوحد العالم في تاريخه بتكنولوجية اتصالاته وتجارته وثقافته، ويتمزق بالحروب، والأزمات المالية، والتغيرات البيئية، وانتشار الأمراض، كما هو اليوم. فكلما حاول التفكير في طريقة للتعامل مع تحديات العولمة، لم ينجح في جمع موارده الذهنية، ليفكر عالميا، ويعمل محليا. وترجع حالة التفكك هذه، للتناقض بين رؤيتنا لعالمنا الجديد، وقدراتنا على إدراكه في وعينا البشري، بسبب الطريقة التي نمت بها عقولنا، فدفعتنا للشعور والتفكير والتنفيذ في بيئة عالم قديم، لم يعد له صلة ببيئة العولمة التي خلقناها لأنفسنا. وتواجه البشرية اليوم تحدي تشكيل وعي عالمي يساعد الإنسان أن يعيش ويزدهر في مجتمع العولمة الجديد. ومع تسارع قوى العولمة وتشابكها، سيزداد الضغط على الشكل القديم للأيديولوجيات ومنطقها، وستزداد الخطورة، حينما نحاول أن نبحر في محيطات بعيدة عن إمكانياتنا وسيطرتنا، وسيكون لبزوغ وعي الوئام والتعاطف دلالات مستقبلية عميقة، حينما تنهي فلسفة التنوير، الوعي القديم، بالعقل، والمنطق."
وقد ساهمت الأبحاث العلمية في تفهم أسرار الوئام والتعاطف باكتشافها خلية عصبية، سميت بمرآة الخلية العصبية، والتي تنحصر مسئولياتها في البحث عن الانتماء، والرفقة، والتواصل، بالمخلوقات والطبيعة. ويبدأ تطور الخلايا العصبية في العقل البشري بعد الشهر الأول من الولادة، ويحتاج نموها للتفاعل والتعاطف مع الآخرين، والذي يتم من خلال خلية مرآة التعاطف. وتؤدي هذه الخلية لتحول الإنسان لكائن تواصل اجتماعي، يجمع بين التعاون، والتنافس، والذي اختلف العلماء حول توازنه. فأعتبر الفيلسوف البريطاني، هربت سبنسر، نظرية داروين للانتقاء الطبيعي، أثبات علمي بأن الحياة صراع تنافسي يسيطر عليها النفعية الشخصية وبقاء الأقوى، بينما أعتقد العالم الروسي، بويتر الكسيفيش كروبوتكن، بأن البقاء الطبيعي يحتاج للتعاون والتبادل. وقد أكدت الأبحاث بأن الطبيعة البشرية تجمع بين التعاون، والتنافس، ويبقى التعاون الصفة التي تجمعنا كمخلوقات اجتماعية، وضمن هذا السياق نتنافس أحيانا لنحقق مصالحنا، وحينما تتجاوز مصلحتنا الشخصية رباطنا الاجتماعي، نعرض أنفسنا للنبذ، وضميرنا للقلق، وبقاءنا للخطر. كما أن الإيثار ما هو إلا صفة متقدمة من صفات التعاطف بإحساس الإنسان بعواطف الآخرين، من الحزن، والألم، والسعادة، بدون توقع شيء مقابل، والذي هو منعكس طبيعي، ينمو في الشهر السادس بعد الولادة.
وتؤكد الدراسات بأن بعض آليات الإحساس والعاطفة مهمة للتفكير العقلاني، فهناك مركز عصبي مسئول عن تفاعل العاطفة مع العقلانية، ويؤدي تلفه لشلل الحركة، والعاطفة، والتركيز، والتفكير، وإصدار القرارات العقلانية. كما أن التفكير عملية تناغم معقدة بين شبكة تنظيم كيماوية وعصبية، تربط الإنسان بمحيطه، لتجمع الإحساسات، والعواطف، والمنطق، وتخلق تناغم بين البشر، والبيئة، فيصبح كل منا موجود من خلال علاقته بالآخر. وعبر الفيلسوف الروسي مايكل باكتين عن ذلك بقوله: "نكون يعني التواصل، لنكون يعني لنكون للآخرين، ومن خلال الآخرين نكون أنفسنا، فالإنسان يملك حدوده بالنظر في داخل نفسه، من خلال النظر في عيون الآخرين، أو بعيون الآخرين."
وتخالف هذه الأفكار فلسفة ديكارت التي اعتمدت عليها الحداثة الفردية الغربية، والتي تعتبر البشر مخلوقات، يشتغل ذهن كل منها بمفرده، بدون الحاجة للعلاقة مع الآخرين. ففي رأي ديكارت في عالم العقلانية النقي والمنفصل، هناك حقائق تكتشف بشكل مستقل، ومن خلال أفراد منفصلين، وحينما يكتشفونها، لهم أحقية الاكتشاف والاختراع، ليؤكدوا حقائق موجودة مسبقا، بشكل حقائق نيوتونية معزولة، ومعرضة لإثباتات رياضية، وتحتاج لذهن صافي، يستطيع استيعابها بهدف فهمها، وتفسيرها، وتقسيمها، للحكم على ما يحدث في عالمنا المادي. وعلق الفيلسوف البريطاني، ثوماس هوبس، على هذه التصورات الديكارتية بقوله: "ففي تصور ديكارت بأن حياة الإنسان وحيدة، فقيرة، شريرة، وغير عقلانية، والحل في أن تمنع الحكومة البشر من قتل بعضهم البعض، في حرب تنافس الفرد ضد الجميع."
بينما تعتمد فكرة التواصل والتعاطف على أن الحياة الذهنية عقلانية دائما، وتعتمد على "الفكرة التي أعرفها وتعرفها، والتي أعرف بأنك تعرفها." كما تحتاج تطوير آلية التفكير للعلاقة مع الآخرين، لنستطيع معرفة أنفسنا من خلال علاقتنا بهم، وبامتزاج جزء من خبرتهم في داخلنا، تتكون شخصيتنا، وتتبلور هويتنا، ووعينا الشخصي، من خلال خبرة التعامل مع الآخرين، فليس هناك عبارة بسيطة مستقلة أنا، بل كوكبة فريدة من العديد من نحن. وقد علق جون رون على ذلك بقوله: "محتويات حياتنا الداخلية ليست مخفية جذريا بداخلنا كأفراد، بل هي في عيش حياتنا، بطريقة تجاوبنا مع نشاطات حياتنا اللحظية، مع ما يجري من حولنا. فكل نشاطاتنا الذهنية موجودة مبدئيا في الخارج، في العالم الذي بيننا، وهناك تبرز تعبيراتنا الذهنية."
ويعتقد الكاتب بأننا نكتشف الحقيقة ولا نخلقها، وهي معرفة نسبية غير مطلقة، تكمل فهمنا لعلاقاتنا مع بعضنا ومع ما حولنا، لنربطها بالصورة الكبيرة لحياتنا. ولو فرضنا بأن الحقيقة هي الواقعية، والواقعية هي الخبرة، والخبرة متعلقة دائما بالتواصل مع الآخرين، فكلما كان التواصل أكبر كلما اخترقنا طبقات أكثر من الواقعية، لنقترب من فهم معنى حقيقة الوجود. فالحقيقة ما هي إلا تفسير نسبي لعلاقة الأشياء، وفهم العلاقة التي تجمعنا بالآخرين، لخلق أرضية لخبرة مشتركة، فحقائقنا تنظم علاقة وجودنا وفهمنا المشترك، كما أن الحرية هي حقيقة ثقافة الشفافية بين البشر، فنحن أحرار حينما نتعاطف ونثق ببعضنا، وننفتح في مشاركة كفاحنا، لتؤدي هذه الثقة لوعي تعاطفي.
ويحتاج التعاطف لمستوى متوازي من الشعور العاطفي بين البشر، لنحس ونتفاعل وننفعل ونفعل، وفي هذه اللحظات من التعاطف تذوب الفروقات المجتمعية، ويختفي لي ولك، ويبرز فقط أنا وأنت، ليقوى شعورنا بالمساواة بأن الآخرين فريدين، وأخلاقيين، ويستحقون فرص نجاحهم مثلنا. كما أن الحرية مطلب أساسي للمساواة، ويختلف العلماء تعريفها بعد توفر حاجياتنا الأساسية، فيطالب فريق بضمان الحرية السياسية، وحماية حقوق الملكية، وتأمين الفرص الفردية في السوق الحرة، بينما يضيف فريق آخر الحقوق الاجتماعية، التي توفر بيئة تشجع الامتداد التعاطفي، وتسطح التقاليد الهرمية، وتضيق المفارقات الطبقية.
كما أن قدرة معرفتنا لأنفسنا من خلال الآخرين ومعرفة الآخرين من خلالنا، هي خبرة ديمقراطية عميقة، وبأن التعاطف روح الديمقراطية، وهو الإقرار بأن حياة كل فرد فريدة، وتستحق المساواة في الحياة العامة. ويتماشى في التاريخ البشري تطور التعاطف وتقدم الديمقراطية يدا بيد، فكلما زادت ثقافة المجتمع التعاطفية، كلما أصبحت قيمه ومؤسساته أكثر ديمقراطية، وبالعكس كلما كانت ثقافة المجتمع اقل تعاطفا، كلما كانت قيمه ومؤسساته شمولية، والحوار الديمقراطي هو الآلية التي نكشف من خلاله شخصيتنا للآخرين، لندخل في واقعهم، لندمج جزء من واقعهم بواقعنا. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف