الشرق الأوسط الجديد: النفط وما بعد الغرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في زيارتي إلي مدريد الشهر الماضي، بدعوة من شبكة الأفكار الأوروبية وحزب الشعب الأوروبي، لاحظت أن معظم التساؤلات المطروحة عن آفاق وتحديات الثورة في العالم العربي، تدور حول: مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة، وتأثير ذلك سلبيا علي دول الاتحاد الأوروبي.
وهنا.. تذكرت ما كتبه "دومينيك مواسي" مؤلف كتاب "الجغرافيا السياسية للعاطفة" عن الدبلوماسية الأوروبية وما يحدث في الشرق الأوسط ، حيث وصفها ب"دبلوماسية العميان"، التي تفتقر إلي الخيال وتحافظ علي العادات الذهنية الخاطئة، التي حذر منها الفيلسوفان "فرنسيس بيكون" و"ديفيد هيوم" قبل قرون.
فما يحدث اليوم في العالم العربي - حسب مواسي - هو ثورة قد تمثل بالنسبة للشرق الأوسط ما مثلته الثورة الفرنسية بالنسبة لأوروبا في عام 1789: تغير عميق وجذري يعمل علي تبديل الأوضاع التي كانت سائدة من قبل تماما. والحالةالحديثة الوحيدة المشابهة للتطورات الجارية في العالم العربي كانت انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية من أوروبا في الفترة من 1989 - 1991.
" مواسي " يعقد مقارنة مهمة بين دبلوماسية الأوروبيين ودبلوماسية الولايات المتحدة، فالأخيرة تمكنت من التعامل مع ثورات المنطقة بشكل سليم ولو ببطء شديد بينما ضلت أغلب الدول الأوروبية الطريق فالتزمت جانب الوضع الراهن لفترة أطول كثيرا ورفضت أن تري المنطقة تتطور في اتجاه معاكس، لما اعتبرته في مصلحتها الاستراتيجية، وهو ما أصاب الدبلوماسيين الأوروبيين بالشلل.
خلاصة ما قاله مواسي هو: "ان الشرق الأوسط الجديد الذي ينشأ أمام أعيننا الآن ربما ينتمي إلي عصر " ما بعد الغرب " وذلك نظرا لصعود قوي جديدة، وعصر " ما بعد الإسلاميين " في ظل الثورات التي يقودها شباب متمرسون تكنولوجيا ولا يربطهم بالإسلام السياسي أي رابط علي الاطلاق".
لكن يبدو أن هذا الفرق الواضح في الخيال والرؤية بين الأوروبيين والأمريكيين يمتد إلي مجالات وملفات أخري تهمنا نحن كثيرا.
ففي أعقاب الزلزال العنيف الذي ضرب اليابان مؤخرا وتوابعه من موجات مد عارمة (تسونامي)، والغبار الذري المشع المتساقط نتيجة للكارثة التي تعرضت لها محطة دايتشي للطاقة النووية في فوكوشيما، أتخذت بعض الحكومات الأوروبية قرارا بتجميد كل مشاريع الطاقة النووية الجديدة ، وقررت الاعتماد علي الوقود الأحفوري (خاصة الفحم والغاز الطبيعي) لتعويض النقص في الطاقة، بينما سارع الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلي التأكيد علي التزام الولايات المتحدة بالطاقة النووية مهما حدث، بل وذهب إلي ما هو أبعد من ذلك حين أعلن أنه سيخفض استهلاك النفطِ المستورد بنسبةِ الثلث، بالتزامن مع زيادة حجم الاستثمارات في تطوير مصادرِ الطاقةِ البديلة.
تصريحات أوباما أزعجت معظم دول العالم خاصة روسيا والصين وبعض بلدان أوروبا والخليج، لأنها تعني ضمنيا انهيار أسعار النفط العالمية، حيث لم يستبعد المراقبون أن ينحدر سعر برميل البترول إلى مستوى عشرةِ أو عشرين دولاراً، بعد عشر سنوات من الآن.
تاريخيا كان النفط (تحت الأرض) يحرك البر والبحر والجو من خلال الأزمات الاقتصادية، ففي الأربعة عقود الماضية تسببت اضطرابات الشرق الأوسط في الركود الاقتصادي العالمي ثلاث مرات: حرب أكتوبر 1973، الثورة الإيرانية عام 1979، غزو العراق للكويت عام 1990. ناهيك عن أن أسعار النفط لعبت دورا جوهريا في الأزمة المالية العالمية في صيف عام 2008 حيث بلغ برميل البترول 148 دولارا وهو ما مثل ضربة موجعة للاقتصاد العالمي الضعيف والمبتلي بالصدمات المالية، حسب تعبير البروفيسور " نوريل روبيني " المؤلف المشارك لكتاب (اقتصاد الأزمة) ورئيس مرقب روبيني للاقتصاد العالمي.
" روبيني " كتب مؤخرا مقالا لافتا بعنوان " العواقب الاقتصادية للثورة العربية "، أكد فيه: أن الانتقال من الاستبداد إلي الديمقراطية في الشرق الأوسط سيكون وعرا وغير مستقر ، حيث المطالب المكبوتة بزيادة الدخول والرفاهية. لكن الحماسة الديمقراطية قد تؤدي إلي عجز ضخم في الموازنات وارتفاع معدلات التضخم وهو ما سيسفر في نهاية المطاف عن أزمات اقتصادية حادة.
لذا فإن الأمر يستلزم - برأيه - تصميم برنامج مساعدات جديدة للمنطقة، ولابد ان يأتي التمويل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والبنك الأوروبي للأنشاء والتعمير، والصين ودول الخليج، وأن يكون الهدف تثبيت استقرار اقتصاد هذه البلدان، بينما تعالج عملية الانتقال السياسي الحساسة.
ان المخاطر كبيرة ، وهي دائرية تفاعلية وليست سببية أو خطية، إذ قد تؤدي التحولات السياسية غير المستقرة إلي مستويات عالية من الاضطرابات الاجتماعية والعنف المنظم أو الحروب الأهلية ، وهذه المستويات العالية بدورها تؤدي إلي تفاقم الاضطرابات الاقتصادية السياسية، ونظرا لحساسية أوضاع " النفط " للمخاطر في الوقت الحالي، فإن الآلام لن تكون محصورة في منطقة الشرق الأوسط وحدها، وإنما سوف تمتد لأوروبا وآسيا وأفريقيا فضلا عن الأمريكتين واستراليا ونيوزيلاندا، حيث بلغت حالات اللجوء السياسي - الديني، والهجرة غير القانونية حدودا غير مسبوقة.