إرنستو ساباتو: "الممانعة" ضد وحش "التقنية"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صدر مع مجلة الرافد العدد012 /ديسمبر2010 إصدارات دار الثقافة والاعلام حكومة الشارقة، كتاب "الممانعة" لأرنستو ساباتو، ترجمة وتقديم أحمد الويزي.
يتألف الكتاب من مقدمة للمترجم و خمس رسائل وخاتمة، وتحمل كل رسالة مع الخاتمة عنوانا مستقلا يحيل على مضمونها العام.
اختار المترجم أحمد الويزي الكاتب والاديب المغربي كلمة الممانعة بدلا من المقاومة كما في أصل الكتاب بالاسبانيةresistencia وبالفرنسية la reacute;sistence وهو اختيار موفق للمترجم، نظرا لما توحي إليه كلمة مقاومة في ذهنية القارىء / المتلقي العربي من معاني تتنافى مع غاية الكتاب.
الرسالة الاولى: المعنونة بالصغير والكبير
يحكي الكاتب إرنستو عن تحسره عن افتقاد ذلك البعد الانساني الحقيقي في الحياة، وابتعاد الانسان عن جوهر الامور، ويدعم هذه الفكرة بسرد مجموعة من الامثلة من الواقع؛ من قبيل : أن التواصل الانساني أصبح بطريقة مجردة، وأصبح الادمان عن مشاهدة التلفاز، ورؤية المناظر الطبيعة من خلال السنما، وغياب اللقاءات أوالاجتماعات الحميمية بين الناس، وكثرة الضجيج والضوضاء، واختفاء الاسواق القديمة... فأرنستو يضع الانسان في مقابل التقنية /الآلة التي تريد أن تهيمن عليه وتطبعها بطابعها، وتعد التقنية - نظر ساباتو- مسؤولة عن بعض الامراض المعاصرة، كحال السرطان؛ فهذا المرض ناجم عن وضعية لا توازنية بالذات؛ يقول أرنستو:
" إننا إذا عشنا الحياة كمجرد أجسام آلية متحركة، فإننا سوف نصاب بعمى يحرمنا من رؤية تلك الآثار التي يخلفها الناس وراءهم وهم يعبرون الحياة..." ص38
ويقول أيضا:
" إن مصيرنا مثل بقية الامور الانسانية الاخرى، لا يفصح عن نفسه ضمن دائرة المجرد، وإنما يتطلع كي يتجسد على الدوام من خلال تفاصيل واقعة من الوقائع، أو عبر تفاصيل مكان معين، أو من خلال وجه محبوب." ص50
ولذلك، فهو يؤكد على ضرورة أن يتجاذب الناس أطراف الحديث بشكل مباشر، عن طريق الجلوس الى مائدة الطعام، ورؤية المناظر الطبيعية في الواقع وليس من خلال السينما أو التلفاز، ويحسن بالانسان أن يتسوق بنفسه في الاسواق القديمة عوضا من التسوق الافتراضي عن طريق الحاسوب.
فهو يحذر من عدم تأثرالانسان بما يحيط به من العوالم الصغيرة التي عادة لا ينتبه لها الانسان، يقول: " غير أننا إن لم نترك أنفسنا تتأثر بما يحيط بها، سوف لن نتآزرأبدا لا مع الانسان، ولا مع أي شيء آخر..." ص52
الرسالة الثانية: القيم القديمة
في هذه الرسالة يقارن ساباتو بين المدينة والقرية، ويصف كثير من التغييرات التي طالت معالم المدن، حتى قضي على اتساقها وانتظامها ورونقها، وأعطى مثالا بمدينة سالتا تلك المدينة العتيقة التي تغيرت معالمها ولم تعد تظهر للعيان على حد تعبيره، ونفس الكلام يصدق عن مدينة بوينس إيريس.
ثم يستطرد ساباتو في القول؛ حيث يذكر حدث لفت انتباهه حين وقع بصره على طفل صغير يلهو تحت أنظار والدته في ساحة كبيرة، وفي طقوس هذا اللعب بين الاطفال، يلتقط ساباتو أحيانا صدى وعادات هذا اللعب بعيدة، ورجع قيم يبدو أن زماننا عفا عليها، ومن هذه الملاحظة يتوقف عند قيم القرية - وهي بيت القصيد لديه بعد أن عرج على قيم المدينة - حيث لا زالت قيم المروءة، والايثار، والتضامن، والشجاعة، وطهارة الروح... وهذا الطفل الذي لاحظه الكاتب ما هو الا ساباتو حينما كان في طفولته يستمتع ببعض الطقوس سواء كانت دينية أو احتفالية.
يكرر مرة أخرى الكاتب في رسالته مظاهر الاستيلاب الانساني حين يقول: " ففي أيامنا هذه، ما عادت البشرية تعرف للراحة طعما ولا معنى، لأنها تعودت بشكل عام، على النظر الى الوقت نظرة نفعية، وصارت تستعين لتوصيف وقتها، بتعابير وألفاظ دالة يكتنفها الكثير مما هو إنساني بحيث كان البعض يتحادث مع البعض الآخر، وهو منهمك في انجاز مهامه، حتى وإن كان ما يقوم به شغلا مكتبيا أو عملا..." ص70-71
وقد ذكر هذه القيم القديمة التي عنون بها رسالته في قوله لقد كانت حياة الناس الفردية والاجتماعية، متوقفة على بعض القيم والمثل الروحية، التي ما لبثت اليوم أن هجرت، مثل عزة النفس، والاستقامة، والشرف، ومحبة العمل المتقن، واحترام الآخرين....ص72
بعد عرضه مقولات بعض الوجوديين(كامي/كيريلوف/سارتر/كيركيغارد)، يعود ليذكر مرة أخرى بالقيم الكبرى المفتقدة بنظره في الوقت الراهن، مثل قيمة الخجل يقول: "بأن الناس لم تعد تخجل من أي شيء أبدا، وأن من المحتمل جدا أن يصادف بعضهم شخصا ما متهما بالتعاطي لرشاوي مشينة، غير أنه يظل مع ذلك يعاشر الشرفاء والمستقمين... ففي المتاضي ما كان من الممكن لعائلة هذا الشخص أن تتجرأ على الظهور علنا، ولا على الاحتكاك بالناس مطلقا، وأحرى به هو بالذات." ص76.
الرسالة الثالثة : بين الخير والشر
بداية، يصف ساباتو مشهد طفل مع والدته وهو يلهو؛ فذكره - وهو في هذا السن المتقدم من العمر- بحواراته ولقاءاته الحميمية مع أمه، وكذا طفولته. متساءلا عن السبب الذي جعل أهل هذا الزمان يعرضون عن كبار السن؟ ويجيب ضمنيا بأن "تقدم" المجتمعات يدفع الى إقصاء جميع الكائنات التي لا تنتج.
ويتبين من خلال حديثه المتكرر عن الطفولة، كرمز للبراءة والصفاء والنقاء، يتبين انه يريد ان يجعل منها منطلقا لتغيير هذا العالم الذي افتقد كثيرا من القيم يقول: " بضرورة عدم السماح لكافة القاذورات، الصادرة عن عالم الكبار بأن تمتد الى هؤلاء الاطفال كي تكلمهم، وتكسر دواخلهم..."ص109 ويرجع أسباب إفساد براءة "الاطفال" الى نظام التربية، رغم إقراره أن الثقافة تبقى مع ذلك هي المسؤول الوحيد عن تشكيل تلك الرؤية التي يكسبها الاطفال فيما بعد عن العالم" ص109 ويقترح كمرتكزات لنظام التربية والتعليم الذي يجب أن تراعي فيه على حد قوله ما يلي: " إن البحث عن حياة أكثر إنسانية، ينبغي أن يكون الصرح، الذي يبنى عليه نظام التربية و التعليم، وإن هذا لهو السبب، الذي يجعلنا نرى أن ترك الاطفال يقضون ساعات كاملة أمام التلفزيون، وهم يبتلعون -بأذهان متبلدة- جميع أصناف العنف الممكنة،أوتركهم منهمكين في ألعابهم الالكترونية، التي تمجد الهدم والتخريب، هو من الامور الجسيمة جدا..." ص110/111
ينتقد الكاتب نقدا صارما المنظومة التربوية القائمة على النزعة الفردانية المرتكزة على التنافس والانتصار على الرفقاء. وهي بنظره تربية مولدة للشر تقدمه على هيئة خير.
الرسالة الرابعة : قيم الجماعة
ينطلق في حديثه عن مدينته بوينس ايريس، ومن خلالها يتحدث عن معطيات مرتبطة بأحوال العالم. في البداية يشير إلى النتائج الكارثية التي خلفها العلم " التقنية" يقول: إن العلم هذا الوليد الذائع الصيت، الذي كان ينبغي عليه أن يساهم بهمة، في حل كافة المشكلات الفيزيقية والميتافيزيقية التي تحير الانسانية، وتشغل بالها، قد ساهم كثيرا -بفطرياته الذرية، وسحبه الجهنمية- في تيسير بناء الامبراطوريات العظمى، وتقوية سلط التدمير والتخريب والابادة "ص131 وفي معرض حديثه عن عالم السياسة ذكر بأن الديمقراطية بنظره لا ينبغي أن تسمح بالتعددية فقط، بل تشجع عليها وتطالب بممارستها، أما السلطة فيجب أن تكون وظيفتها تكافلية ومن أجل خدمة الصالح العام، أما الحرية فيتبنى الكاتب مفهوم "الوجودي ألبير كامي" للحرية : بكونها ؛ أي الحرية ليست امتيازا بل مسؤولية وانضباطا.
الرسالة الخامسة: الممانعة
في هذه الرسالة يعود الكاتب للحديث عن اندحار القيم بين أفراد المجتمع؛ وتكمن لديه في ظاهرة ضغط الوقت، الذي صار يهدد إنسانية الانسان، لم يعد للقيم الانسانية من وجود وأولوية، نتيجة جعل المردودية الانتاجية هي الهدف والمعيار؛ فأضحى الانسان يعيش كالآلة الميكانيكية المتحركة، وهذا يمثل إحدى آليات النظام الرأسمالي المتوحش.
يقول أرنستو " في زحمة العجلة، يصير كل شيىء شديد الفظاعة بالنسبة للناس، حتى إن الكلام ما عاد عملة، تتبادل فيما بينهم أبدا، وقد بلغ بنا الامر مبلغا مهولا، بحيث صرنا لا نعبر سوى بلغة الأرقام، عوض لغة الكلام، ولا نتبادل سوى المعلومات العامة، عوض الخبر عن الاحوال..." ص160
إن انسان ما بعد الحداثة كائن مغلول الى أساليب الرفاهية، التي توفرها التقنية، وبالتالي فإنه لا يتجرأ في الاغلب الاعم، على الاقدام التلقائي على تجارب عميقة، من قبيل تجربة الحب، أو التضامن..." ص167
واضح أن رسالة ساباتو المركزية في مجموع رسائله هو الهجوم الشرس ضد التكنولوجيا، التي تستهدف الوجود الانساني، وتريد تحويله إلى مجرد مادة.
خاتمة : القرار والموت
هذه الخاتمة بقدر ما تعبر عن أفكار مجردة، وتأملات فلسفية، فإنها تعبر حقيقة عن ذات الكاتب ورؤيته ومنظوره للموت، ويكشف من خلال لحظات تحولاته الفكرية من إيمانه بالنزعة العقلية المنطقية، مرورا بنزعة التشكيك، الى نزعة روحية / انسانية.
ما عاد ساباتو يكثرت بالموت، وهو يشعر بدنو أجله، يقول: "...وبعدما أقترب أجلي، وصار أدنى مني من حبل الوريد، وبعد أن أشاع بين حنايا نفسي كلها، فهما خاصا للوجود، لم أكن قد أدركته من قبل أبدا، فإنني ما أنفك أرى تاريخي المعاش كله، في هذه الليلة الصيفية التي أكتب فيها خاتمة هذا الكتاب..." ص187
وأخيرا وليس آخرا، التاريخ -لدى ساباتو- ممكن أن يتغير بتوفر عنصرين أساسيين؛ وهما الايمان/ القيم والشجاعة، مثل ما قام بذلك أبطال شجعان.
إرنستو ساباتو: ولد يوم 24يونيو /حزيران 1911م ببلدة روخاسROJAS التي تبعد عن العاصمة الارجنتينية بوينس إيريس300كلم. من مؤلفاته رواية ّ"النفق"(1948 ) "وأبطال وقبور"(1961م)، و"ملاك العتمات" (1974م)...
التعليقات
التقنية مالها وماعلي
لميس -لاننكر أن التقنية لها سلبيات كثيرة وقد تكون سيفا مسلطا على رقبتنا ولكن لانستطيع أن نتحرر منها فهي قدرنا لأنها تسهل حياتنا وتشبع رغباتنا في أشياء كثيرة