الشرق الأوسط والبرغماتية الشرق آسيوية (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
تلعب الصين بتاريخها الثري، وحضارتها العظيمة، وأرثها الفلسفي الكنفوشيوسي، ونموها الاقتصادي السريع، دورا هاما في منطقة الشرق الأسيوي وخاصة بالتعاون مع جيرانها في "آسيان+3"، وقد تلعب المملكة العربية السعودية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، نفس الدور في منطقة الشرق ألأوسط، في الألفية الثالثة، بحكمتها التاريخية، وأرثها الحضاري، وقوتها الاقتصادية، ومكانتها الدولية، وحزمها في التعامل مع الأزمات المستعصية، وقوة اللوبي العربي السعودي في دهاليز السياسة الأمريكية بواشنطن، وخاصة بعد أن اختارت مجلة الفوربس الأمريكية، في العام الماضي، خادم الحرمين الشريفين، أكثر قيادات العالم قوة على الساحة الدولية، مع الرئيس الصيني هو جنتو، والرئيس الأمريكي بارك أوباما.
وقد تحتاج دول الشرق الأوسط الاستفادة من تجربة يقظة التنين الأسيوي بعد سبات قرنين، ليرجع ويلعب دوره في مجتمع العولمة الجديد. ففي عام 1800 كانت الصين، مع جيرانها، تنتج أكثر من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي للعالم، لينخفض هذا الناتج مع بدايات القرن العشرين لرقم لا يستحق الذكر، ولتستلم دول الغرب الأوربي القيادة، فيرتفع نتاجها المحلي الإجمالي لأكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن المتوقع أن تنعكس هذه الأرقام من جديد في القرن الحادي والعشرين، ليرتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين مع جيرانها والبرازيل إلى 69% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بينما سينخفض الناتج المحلي الإجمالي لدول الغرب إلى 16%.
وقد تحتاج شعوب منطقة الشرق الأوسط مراجعة تجربة التاريخ الصيني، في الظروف المعقدة التي تمر بها اليوم، للتشابه الكبير بين التحديات التاريخية في المنطقتين. وقد سجلت الصين نجاحات باهرة في التعامل مع تحديات العولمة، ونتمنى أن تحقق دول الشرق الأوسط نفس هذه النجاحات في الألفية الثالثة، فقد يلهم شعوبها دراسة التاريخ الصيني، لنبذ الخلافات والصراعات، واحترام الاختلاف، والعمل، معا، بتناسق وتناغم، لتحويل المنطقة لواحة سلام ووئام، لأبناء النبي إبراهيم، عليه السلام، لتزدهر من جديد، وتبرز في حضارة العولمة، كما عبر عن ذلك سابقا معالي وزير خارجية المملكة العربية لسعودية، سمو الأمير سعود الفيصل.
بدأت حضارة الصين على ضفاف النهر الأصفر، ويرجع تاريخها المدون لعصر الشانج (1550-1046 ق. م.) وقد عبد أسلافها آلهة كثيرة، وسمي إلههم الأعظم "بالشانجتي." وازدهرت الثقافة والفلسفة الصينية في عصر الزو (1045-256 ق. م.). واستطاع كين شي هونج، في عام 221 ق. م. توحيد البلاد، بعد سنوات من الحروب الداخلية، ليؤسس أول إمبراطورية صينية بنظام بيروقراطي، يحكم فيه الإمبراطور مختلف أرجاء البلاد الواسعة. وتوسعت هذه الإمبراطورية في عصر الهان (206 ق م- 221 ب م) لتمتد لمنشوريا ومنغوليا وكوريا وشمال الفيتنام. وقد ارتبطت الحضارة الصينية بفلسفة كونفوشيوس (551- 479 ق. م.)، وتلونت ثقافتها بالاختلاط بالثقافات الآسيوية، نتيجة الأمواج المتلاحقة من الهجرة والتوسع والاندماج. وتقدمت تجارة الصين في عصر السونج (960-1279)، ليصف نشاطها التجاري في القرن الثالث عشر الرحالة الايطالي ماركو بولو بقوله: "اطمئن، فالأنهار تمر بمناطق كثيرة وبمسافات هائلة، وهناك الكثير من المدن على ضفتي النهر، كما تزيد كمية الحمولة النهرية فيها على ما تحمله جميع الأنهار المسيحية وبحورها." وبعد أن غزا المغول الصين، عانت البلاد من الجمود الاقتصادي خلال الفترة بين القرن الثالث عشر والسادس عشر، وليبدأ بعدها عصر اليون (1279- 1368) ولتنضم الإمبراطورية المغولية للبلاد. وفي عصر المنج (1368- 1644) منعت التجارة الخارجية لمدة ثلاث قرون بسبب القرصنة، ولم يبقى في عام 1757 إلا ميناء كانتون للتجارة القانونية، بالرغم من انتعاش التجارة النهرية بين الولايات الصينية. فنشط الاقتصاد الصيني خلال فترة القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، حيث توفرت المواد الغذائية بكثرة، بسبب زيادة المساحات الزراعية وتطور آلية الري وارتفاع نسب الإنتاجية، مع تزايد الهجرة والاستيطان في الولايات الغربية والوسطى، والذي ترافق بتزايد السكان لخمسة أضعاف. وقد وصف الاقتصادي البريطاني ادم سميث الثراء الصيني في عام 1776 بأنه "أكثر من ثراء أي جزء في أووربا،" كما استمرت بكين أكبر مدينة في العالم حتى عام 1850.
وقد أغرى التاج البريطاني الازدهار الصيني، فبدأت تدخلاته في عام 1792 لغزو أسواقه، فأرسل الملك جورج الثاني وفد تجاري لميناء كانتون، حاملا معه الاختراعات الأوربية والهدايا للإمبراطور الصيني. وبعد رحلة شاقة، وخلافات كثيرة، حول بروتوكول كيفية الانحناء أمام إمبراطور الصين العظيم، قابل اللورد جورج ماكارتني الإمبراطور في شهر سبتمبر من عام 1793، وطالب بتمثيل دبلوماسي لبلاده في بكين، وفتح الموانئ الصينية للتجارة الأوروبية. وقد تجنب الإمبراطور كين لونج الرد عليه، ولكنه أرسل خطاب لملك بريطانيا يقول فيه: "لم نقدر قط اختراعاتكم المبدعة، ولا نحتاج لصناعات بلادكم، كما أن طلب الملك بإرسال ممثل للبقاء في العاصمة بكين، لا يتماشى مع قوانين إمبراطورية بلادنا العالمية، كما نشعر أيضا بأنه لن يفيد بلدكم."
لقد كانت شركة شرق الهند البريطانية تتاجر في تصدير الأفيون من شبه القارة الهندية إلى الصين، وفي عام 1829 منعت الصين استيراد الأفيون، لترد بريطانيا بحرب الأفيون الأولى (1839- 1842) التي انتهت بهزيمة مهينة للصين. فاستسلمت هونج كونج للغزاة، وفتحت الصين جميع موانئها للتجارة الأوربية، كما دفعت تعويضات هائلة عن الحرب. وقد أدت تلك الهزيمة لانهيار الاقتصاد الصيني، وتصدع الجبهة الداخلية، وضعف سيادة الدولة، بعد التدخلات الغربية المتعاقبة في شؤون البلاد. ولتستمر هذه المرحلة لقرن من الزمن (1850- 1950)، ولتبدأ بعدها الثورة الأيديولوجية الماوية، وتتبعها عصر براغماتية الإصلاحات الاقتصادية.
ونحتاج لفهم التغيرات السياسية والدبلوماسية الصينية المستقبلية، لدراسة مفاهيم فلسفتها الكونفوسوشية، وتاريخ حضاراتها. ويرجع التطور السياسي في الصين لعصر الزو (1100- 256 ق م)، حيث ادعى الإمبراطور، ولأول مرة في التاريخ الصيني، "بأحقيه الحكم كوصية من السماء، تقع مسئوليته على عائلة تتميز بالمسئولية الأخلاقية، وتتم المحاسبة على الأداء من خلال هذه القوة السماوية، والتي ترشد المجتمع البشري." وأعتمد قانون الحكم السماوي الصيني على المعايير الأخلاقية للسلطة. وقد أدى ذلك لابتعاد الصينيين عن التنظير في فضائل حكامهم، ومدى صلاحيتهم للحكم، وترك ذلك لكفاءة تعاملهم مع تحديات الفقر، وقلة الإنتاجية الزراعية، والزلازل، والفيضانات. وقد ثار الصينيون ضد إمبراطور كينج، في منتصف القرن التاسع، حينما صرخ العشرات الملايين بأن السلطة قد سحبت من السماء عن الإمبراطور، لعدم كفاءته في التعامل مع الأزمات البيئية والاقتصادية، لحماية المواطنين وإعالتهم. لذلك كان الحكام يهتمون بمراقبة مخزون الحبوب وتوزيعه، لضمان توازن قانون العرض والطلب لاستقرار الأسعار. كما حققت مشاريعهم الضخمة تطور البنية التحتية، وتقدم آلية منع الفيضانات من النهر الأصفر، وطورت مشاريع الممرات المائية للتجارة النهرية.
واعتقد مفكرو الغرب بان جميع الأنظمة السياسية في العالم ستنتهي بنماذج قريبة من الديمقراطية الغربية، وبأن ممارسة السلطة يجب أن تتم بنفس طريقة هذه الديمقراطيات، مما أدى بتعليق الكاتب البريطاني، مارتين جاكوس ، في كتابه، متى ستحكم الصين العالم؟ على ذلك بقوله: "بدل التحدث الغربي عن النظام السياسي كآلة متحجرة، سيكون النقاش منتجا لو فكرنا بمفهوم الثقافة السياسية، بسبب نبع جذور السياسة من ثقافة المجتمع. فقد يستطيع التاجر أن يتاجر بمهارته وبدون حواجز الحدود، كما يمكن أن يحاضر الأكاديمي في أي جامعة في العالم، بينما ترتبط موهبة السياسي وهيبته، بمميزات مغروسة جذورها في ثقافة مجتمعه. وهناك اختلاف كبير بين مفهوم السلطة التقليدي في الصين عن المجتمعات الغربية، التي يحركها السعي لفردية الهوية، والحكم الذاتي، الممثل بنواب البرلمان. بينما يحرك السلطة في الصين وباقي دول شرق آسيا رغبة الأفراد لهوية الفريق، والذي يجدون فيه معنى لوجودهم، وحياتهم، وأمانهم، واستقرارهم."
ويعتقد مارتين جاكوس بأن مفهوم الحكومة يعتمد في الغرب على الأسس النفعية، فعلى الحكومة أن تحقق للمنتخبين بعض من مصالحهم مقابل دعمهم لها، بينما ينفصل مفهوم السلطة الحكومية، في مجتمعات شرق آسيا، عن مسئوليتها. فالسلطة الحكومية غامضة، ومحدودة، في هذه المجتمعات، بسب ارتباطها بقوى إضافية سماوية، خارجة عن إرادة البشر، والتي قد تحدد النتائج. فالعلاقة بين المسببات والتأثيرات معقدة ومراوغة. وبدل أن تحدد مسئولية سلطة الحكومة على النفعية الفردية للمواطن، ارتبطت هذه المسئولية في ذهن المواطنين بالخدمة الشاملة لازدهار المجتمع وتطوره، وألتزم دورها بالأبوة، واعتبر المواطنون أنفسهم تابعين لها. وقد انعكست هذه المفاهيم التاريخية على استمرارية الحكومات "الأبوية" للحزب الواحد ليس فقط في الصين، بل أيضا في الدول الأسيوية التي تنتخب حكوماتها، كاليابان وماليزيا وسنغافورة. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان