العنف والسلطة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كان الفلاسفة الالمان وفي مقدمتهم هيغل بحثوا الارتباط الوثيق بين العنف والسلطة استنادا الى الكلمة الألمانية"Gewalt"التي تعني عنف وسلطة في آن. ومعنى ذلك انه لا توجد سلطة بدون عنف وانها تفرض شرعيتها من دون قوانين والعكس صحيح. والقوانين هي التي تضفي على السلطة شرعيتها، مثلما تفرض السلطة النظام بالعنف. والعنف وما يسببه من قمع وارهاب وحروب هو استمرار للسياسة الجائرة ولكن بوسائل اخرى. والى هذا المعنى تشير مقولة ماوتسي تونغ " بأن السلطة تنبع من فوهة بندقية".
وفي اغلب الاحيان يكون العنف قوة ودعماً للسلطة حين يسلم الأضعف لإرادة الاقوى الذي يهدده ويقمعه، بل ان يفجر التهديد فيه اثراً رجعياً. ولهذا يستخدم العنف في اللحظة الجوهرية للابتزاز والرضوخ. وحين تكون السلطة اكثر اصراراً على استخدام العنف، لا يعني ذلك ابداً انها الاقوى دوماً، ولكن تجسيدها للعنف من الممكن ان يكسر مقاومة الخصم فيضطر للرضوخ. وغالباً ما يبرر العنف الذي تمارسه السلطة بالقوانين التشريعية واصدار المراسيم والأوامر والنواهي، التي تظهر بشكل جدي لتبرر وتخدم بها مصلحة القوة. وبهذا يأخذ عنف السلطة شكلاً قانونياً ممنهجاً ومبرمجاً من وقت لآخر، بهدف استخدام القوة والسيطرة، واذا اقتضى الأمر استخدام القسوة، حتى الابادة الجسدية. ويتميز العنف عن السلطة كونه يستند الى الادوات التي تمتلكها.
من المفروض ان يكون هدف السلطة الأساسي هو إشاعة العدل والمساواة بين الناس والحفاظ على حرياتهم الأساسية، إلى جانب حفظ الأمن وصيانة كرامة الناس ضمن قواعد ومعايير وقوانين تحدد العلاقة بين السلطة والمجتمع. وكلما تراجعت السلطة أو فرّطت في أي هدف من تلك الأهداف، هيأت مناخاً مناسباً لهزات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية.
والعلاقة بين العنف والسلطة علاقة معقدة تطرح اشكالية كبيرة حول كيفية تفسير العنف والعنف المضاد والشرعي واللاشرعي وارتباطه بالسلطة. فمن الملاحظ انه عندما تصل السلطة الى ذروة ارهابها تبدأ بالتهام ابنائها، حيث تختفي السلطة لتتحول الى مافيا.
ورغم ذلك لا يكفي ان نقول بان السلطة والعنف شيء واحد، فالسلطة والعنف يتعارضان. وغالبا ما يظهر عنف السلطة حين تكون مهددة، ولكن اذا استمر العنف، فقد تنتهي السلطة، لانه يدمرها. وقد اشار كونور اوبريان في كتابه"مسرح الافكار" الى رأي الفلاح الأرلندي الثوري في القرن التاسع عشر حين قال :" أحيانا يكون العنف الطريق الوحيد التي تؤمن سماع صوت الاعتدال حين يكون مستحيلا ان تحصل على ما هو ممكن". في مثل هذه الحالة من الممكن اعتبار العنف سلاح اصلاح اكثر مما هو سلاح ثورة.
ويرى ماكس فيبر، بان السلطة هي فعل عنف يهدف الى اجبار الخصم على فعل ما تريد، والشرط الاساسي لوجود العنف هو"القيادة". فاذا كان جوهر السلطة هو ممارسة القيادة، فليس هناك سلطة لا تنبع من قوة، وبذلك تصبح قيادة السلطة هي القوة المؤهلة التي تحمل صفة رسمية مؤسساتية.
وفي اغلب الاحيان تلجأ السلطة السياسية في الدولة او مجموعة من الدول الى اتخاذ قرارات سياسية معينة والى اتخاذ اساليب عنف غير محدودة من اجل فرض مبادئها السياسية على افراد المجتمع/المجتمعات اوفئات معينة منها أو بقصد احداث تغيير جذري فيها. وقد تستخدم الدولة عنفا وقهرا من اجل فرض سياستها وايديولوجيتها على المواطنين. وقد يمتد بطش السلطة الدكتاتورية الى جميع افراد المجتمع والتحكم في اسلوب حياتهم وعملهم وعلاقاتهم الاجتماعية. كما تلجأ السلطات الدكتاتورية الى اعمال ارهابية فضيعة كالتصفيات الجسدية للمعارضين والاغتيالات السياسية والاختطاف والنسف واحتجاز الرهائن والحرق في مواد كيمياوية أو في الافران الكهربائية والقيام بمجازر جماعية وغيرها.
ان العنف الذي تمارسه السلطات الدكتاتورية هو عنف منظم يهدف الى ابادة العدو وبث الرعب في النفوس. وغالبا ما تتخذ السلطات الدكتاتورية من القوانين والمراسيم وسيلة لفرض العقوبات القاسية، وفي ذات الوقت، اعطاء صلاحيات واسعة الى اجهزة الأمن والشرطة وابتداع نظم وقوانين ومحاكم ثورية للانتقام من الاعداء، كما حدث في فترة حكم اليعاقبة في فرنسا او ما يسمى بعهد الارهاب حيث قام روبسبير بفرض دكتاتوريته على ملايين الفرنسيين وكذلك فعل هتلر بالمانيا النازية وستالين بالاتحاد السوفيتي.
اما في الدول العربية فكانت لثنائية العنف والسلطة حضور قوي وفعال وخاصة بعد حصول الدول العربية على الاستقلال الشكلي في منتصف القرن الماضي وصعود المؤسسة العسكرية الى الحكم واحتكارها للسلطة والقوة وعسكرة الفرد والدولة والمجتمع والتحول الى الأنظمة الدكتاتورية الفردية كما في العراق وسوريا وليبيا وغيرها.
ويأخذ العنف اساليب مختلفة أفضعها القسوة، وهي الاصرار على الشدة والصلابة والاستمرار في القهر. وقد قيل "انه اقسى من الصخر" أي عديم الرحمة. واذا كان العنف احياناً غير مقصود، وعفويا، فالقسوة مقصودة وارادية وموجهة دوماً نحو الأضعف، خصوصاً اذا كان الخصم عنيداً، او عاجزاً عن الافلات منها.
ويختلف العنف عن القسوة واستعمال القوة، حين يكون استخدام القوة شرعياً وقانونياً، شرط ان يكون الحاكم شرعياً وعادلاً وقوياً، ولكن ليس من الضروري ان يكون الحاكم قاسيا وعنيفاً في استخدام القوة.
والقسوة بمعنى آخر هي استخدام قصدي ومتعمد لالحاق الاذى الجسدي باشخاص في موقع ضعف وعجز امام استخدام القوة ورد ذلك الأذى. وغالبا ما تتقاطع القسوة مع العنف أو تكون هدفه، تبعا لما يسعى اليه من يستخدم العنف. ولكن لا يمكن تبرير استخدام القوة بأي حال من الأحوال، لأنها تقوم على عنف قصدي. وهناك انواع من القسوة كالجسدية والنفسية والاجتماعية، غير ان القسوة الجسدية هي المباشرة في اغلب الاحيان، عندما يعتدي انسان على آخر بالقوة او بواسطة أداة ما، في حين تكون القسوة النفسية او الاجتماعية هي اعتداء بصورة غير مباشرة ومباشرة أحيانا ويكاد تأثيرها في بعض الاحيان اكبر من تأثير القسوة الجسدية، باعتبارها اهانة ومذلة للانسان تنتج آثارا نفسية شديدة الوطأة على الانسان المكسور.
والواقع تركز السلطة دوماً على العدد، الذي يطلق عليهم عبد الرحمن الكواكبي "المستبدين الصغار"، حيث لا يتم استخدام العنف الا بهم. كما يعتمد العنف، من جهة اخرى، على اساليب وادوات القمع. ولا يعني ذلك ان السلطة والعنف شيء واحد دوماً. وبحسب حنا ارندت "يمكننا وصف السلطة الاكثر تطرفاً بعبارة: الجميع ضد الواحد (المتسلط)، في حين يمكننا وصف العنف الاكثر تطرفاً بعبارة : الواحد ضد الجميع". والواقع لا يمكن ان يكون القمع ممكناً بدون الادوات القامعة والافراد الذين يستخدمونها، والعجز عن الافلات منه.
يمكننا القول اذن، ان السلطة ليست فردية، وحين نقول "فردية" فإننا نشير، في الحقيقة، الى ان هذا الفرد قد سلط من قبل عدد من الناس لكي يكون مستبداً، فإذا اختفت الجماعة التي نبعت عنها السلطة، سوف تختفي ايضاً سلطة الفرد المتسلط باسمها، لأن كل سلطة مستبدة لا تقوم على تفوق ادوات العنف فحسب، بل وعلى تضامن بين المستبدين الكبار والصغار. وحين لا يجد المستبدون من يدعمهم "ويصفق لهم" لا يكون هناك مبرر لاستخدام العنف استخداماً ناجحاً. والحال لا يستمد المتسلط قوته ونفوذه من مؤهلاته الخاصة، وانما من ضعف المجتمع وتمزق الجماعات وعدم وعيهم وتنظيمهم ووحدتهم، وكذلك شعورهم بالعجز عن تحمل المسؤولية، وهو ما يساعد المستبد على توسيع حدود نفوذه بمساعدة اعوانه من المستبدين الصغار واعوانهم وتابعيهم من المرتزقة.
العنف والتسلط هما اذن صنوان متلازمان لادامة تاريخ الاستبداد والقمع والاذلال، وهو الوجه الآخر للارهاب، الذي يفرضه انسان على آخر. والارهاب أياً كان شكله ومصدره هو عنف سياسي باعتباره يخرج عن القيم والمعايير الانسانية مثلما يخرج عن وسائل الضبط الاجتماعية، العرفية والوضعية، لأنه غير مشروع ويهدف الى التخلص من الطرف المقابل باستخدام جميع أدوات ووسائل الابادة والتدمير.
وهناك جملة من الاسباب التي تدفع للعنف السياسي، التي تختلف من مكان الى آخر ومن زمان الى آخر، وفي مقدمتها الشعور بالاحباط الذي ينشأ عن الصدمة الناتجة عن عدم تحقيق الآمال والتطلعات والاهداف وكذلك التناقضات والصراعات الاجتماعية واستبداد السلطات والقمع المفرط في العقاب دون الرجوع الى الاسباب الحقيقية والكامنة وراء فعل العنف، والتي تنشأ عن عدم ممارسة الديمقراطية والتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر.