فضاء الرأي

يوم له ما بعده

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

هذا العام ولأول مرة منذ ثلاثة وستين عاماً كان للخامس عشر من أيار طعم مختلف، فقد قرر الفلسطينيون الانتقال من حالة الندب والبكاء وإقامة المهرجانات والخطابات وإطلاق المناشدات للعالم بإنصافهم في ذكرى تهجيرهم من وطنهم إلى محاولة العودة الفعلية إلى الديار عبر تحرك شعبي من جميع الجهات باتجاه حدود فلسطين.
مشهد زحف الفلسطينيين ومعهم المتضامنون الدوليون من كافة الاتجاهات ووقوفهم على حدود وطنهم المحتل ليس حدثاً عادياً بل هو تحول نوعي، وتأسيس لمرحلة نضالية جديدة عنوانها عودة اللاجئين إلى ديارهم يستفيد فيها الفلسطينيون من الروح الجديدة التي دبت في العالم العربي ومنحت الشعوب الثقة بنفسها وبقدرتها على تحقيق الإنجازات، فيأخذ الفلسطينيون بدورهم زمام المبادرة ويتقدمون باتجاه العودة الفعلية إلى وطنهم.
لقد تمكنت مسيرات الخامس عشر من أيار من تحقيق اختراق استراتيجي خاصةً في جبهة الجولان السورية التي اقتحم فيها اللاجئون الفلسطينيون الأسيجة وتخطوا حقول الألغام ووصلوا إلى الأرض المحتلة وعانقوا ترابها، بل تمكن اللاجئ الفلسطيني حسن حجازي من الوصول إلى بلدته الأصلية يافا وأعلن من هناك عبر التلفزيون الإسرائيلي بأنه لا يعترف بشرعية وجودهم على أرضه، وأن كل ما فعله هو أنه عاد إلى بلدته الأصلية..
ليس مهماً أن دخول اللاجئين في مجدل شمس كان لوقت قصير قبل أن يعودوا إلى مخيمات لجوئهم، أو أن عودة حسن حجازي إلى مدينته الأصلية لم يدم سوى يوماً واحداً قبل أن يعتقله لصوص الأرض..المهم هو تأسيس سابقة تاريخية وكسر الحاجز النفسي، وهذا هو الشرط الحاسم في انتصار الثورات، فإذا كسر الحاجز تقدمت الجماهير من كل حدب ينسلون، وكسر حجازي للحاجز سيكون ملهماً للآلاف في المسيرات القادمة بالتفكير جدياً في الوصول إلى بلداتهم المحتلة، فحسن ليس سوى طليعة زحف ملاييني يحمل أشواقاً بالعودة إلى كل القرى والبلدات المحتلة..
إسرائيل تشعر بالقلق العميق من هذا التحول النوعي، وقد بدا ذلك واضحاً من تصريحات قادتها حيث قال نتنياهو إن أحداث الخامس عشر من أيار تدلل على أن الصراع هو حول وجود إسرائيل ذاته، وليس حول حدود عام1967، أما وزير الجيش باراك فقد اعترف بأن جيشه أعجز من التصدي لزحوف بشرية من كافة الاتجاهات..
مصدر القلق الإسرائيلي هو أن هذه المسيرات تضعهم في مواجهة صارخة مع جذور المشكلة وهي أن هناك شعباً مشرداً من دياره، وها هو يعود بعد ثلاثة وستين عاماً ليحاصر إسرائيل من كافة الجهات ويقول إنه يريد أن يعود إلى وطنه، فهذه المسيرات تعمق مأزق إسرائيل الوجودي، والمجتمع الإسرائيلي لا يصبر على حرب استنزاف من هذا القبيل إذ أن مشهد محاصرة إسرائيل باللاجئين الفلسطينيين العازمين على العودة من كافة الجهات يلقي الرعب في نفوس المستوطنين خاصةً أنهم يعيشون في دولة ليس لها عمق جغرافي حقيقي، وقد سقطت أسطورة تحصينات حدودها التي كانت تخيف بها العرب تحت أقدام اللاجئين في مجدل شمس، وقبل ذلك سقطت في الجبهة الغربية الجنوبية بتمكن عشرات آلاف المتسللين الأفارقة خلال السنوات الماضية من اجتياز الحدود من مصر.
استمرار هذه المسيرات سيرفع تكلفة الاحتلال، فالأمن والاحتلال لا يجتمعان، والرسالة التي وصلت للمستوطن الإسرائيلي هي أن أصحاب الديار الأصليين يقفون على الحدود وهم على أهبة الدخول في أي لحظة، فسيكون المجتمع الإسرائيلي في حالة قلق دائم، وسيدخل المستوطن في موازنات صعبة بين البقاء في حالة توتر عصبي وسط محاط بالأعداء أو الرجوع للعيش الآمن من حيث أتى .
لقد ضربت مسيرات الخامس عشر من أيار على الوتر الحساس وأصابت نقطة الضعف القاتلة لكيان الاحتلال، فهو كيان هش وضعيف إلى أبعد الدرجات لا يقوى على مواجهة الزحوف البشرية من كافة الاتجاهات. وقد كان رهان الاحتلال خلال كل السنوات الماضية هو ألا يفكر الفلسطينيون بهذه الطريقة، لأنه يعلم أنهم حين يفكرون ويقررون الزحف بمئات الألوف أو الملايين فإنه لن يستطيع أن يتصدى لهم رغم كل ما يملك من أدوات قمع وإرهاب..
ولأن إسرائيل تخشى من مواجهة الشعوب وجهاً لوجه شأنها في ذلك شأن كل قوى الظلم فقد سارعت لمحاولة حرف الحقيقة فصورت مسيرات الخامس عشر من أيار وكأنها مدفوعة من بعض الأنظمة وتحركها أجندات سياسية، وهي دعوى باهتة لا تدل إلا على عجز الاحتلال، فهو يريد أن ينقل المعركة إلى المربع المريح له، لأنه يستطيع أن ينتصر على الدول أو الفصائل العسكرية، ولكنه قطعاً لن يكون قادراً على الانتصار على إرادة شعب كامل.وحقيقة مسيرات العودة أنها كانت نابعةً من نبض الشعب الفلسطيني وأحلامه وأشواقه للعودة إلى دياره، فلم تكن تحركها سوريا ولا إيران، ولا حتى فتح أو حماس بل كانت تعبيراً شعبياً صادقاً عن الأحلام الوطنية التاريخية.
ما بعد الخامس عشر من أيار لن يكون بالتأكيد كما قبله، فالفلسطينيون قد تفتحت أعينهم على طريقة نوعية في تحقيق حلم العودة التاريخي لم يكونوا متنبهين لها بالقدر الكافي من قبل، وبعد أن صارت بين يديهم تجربة مشاهدة فإن التحرك القادم سيكون أكثر تنظيماً وأكثر زخماً إن شاء الله لأنه سيكون على هدى من تجربة هذه المرة. كما أن قيمة هذه المسيرات أنها أعادت وبقوة تفعيل دور اللاجئين خارج حدود فلسطين فنجحت في انتشال القضية من التجزئة والتقزيم وأعادت لها الاعتبار بأنها قضية لكل الفلسطينيين في الداخل والخارج، بل قضية كل حر في هذا العالم.
من فوائد مسيرات الخامس عشر من أيار أنها أعادت الاعتبار للجهد الشعبي الفلسطيني وحررته شيئاً من حالة الاستقطاب الفصائلي الحاد، فهذه المسيرات على زخمها وقوتها لم تكن من صنع أي من الفصائل، بل كانت نتاجاً لحراك شبابي غير مؤطر، وبينما كانت الفصائل تدفع باتجاه إحياء ذكرى النكبة بأسلوبها التقليدي الذي اعتادت عليه كل عام من إقامة المهرجانات والمعارض والخطابات، فإن الشباب أصروا أن يخرجوا من هذا الجمود وأن يبدعوا وسائل نوعية، وكان لهم أن نجحوا في مسعاهم في رسالة قوية للتنظيمات بأن تخرج من حالة الجمود وتجدد نفسها لتكون قادرةً على مواكبة التطورات وتلبية طموحات الشباب.
رغم هذه الصورة المشرقة لتجربة مسيرة العودة إلا أن فريقاً من الناس لم يدرك بعد قيمتها بالقدر الكافي فرأينا دعوات ساذجةً من البعض لزحوف مسلحة، ورأينا آخرين يدعون الفصائل إلى إطلاق الصواريخ رداً على استهداف هذه المسيرات السلمية، ورأينا من يرجف في المدينة ويسخر من هذه المسيرات ويقول إنها عبثية بدون أي جدوى، وإنها لا تزيد عن كونها حصداًً لأعداد جديدة من الشهداء والمصابين ومثل هؤلاء السذج من حيث لا يشعرون يساهمون في دعواهم التي يبثونها في إنقاذ إسرائيل من ورطتها، وربما يغرونها بمزيد من الإجرام في المرات القادمة لتقوية هذه الآراء الانهزامية في صفوفنا. ولو أنهم يقرءون لعلموا حجم الرعب الذي دبته هذه المسيرات في قلوب قادة الاحتلال.
إن هؤلاء لم يدركوا بعد قوة سلاح الزحوف الجماهيرية في هذا العصر وأنه أكثر مضاءً وفعاليةً من الصواريخ والرصاص، وقد رأينا من الآيات ما يزداد به الذين آمنوا إيماناً حين تهاوت أنظمة بوليسية قمعية أمام المتظاهرين العزل دون إطلاق رصاصة واحدة من قبل الشعب، بينما حين تورطت الثورة الليبية في العسكرة والسلاح دخلت في دوامة لم تستطع أن تخرج منها حتى الآن..
المطلوب الآن هو الاستفادة من حالة الزخم الكبيرة لمسيرات الخامس عشر من أيار والمراكمة عليها، والمحافظة على مستوى التفاعل الشعبي والإعلامي الذي نتج عنها، وعدم السماح بأن تبرد القضية، وألا تتحول مسيرات العودة إلى ذكرى موسمية سنوية وحسب، ولكن أن تنظم المسيرات والاعتصامات بشكل متواصل وتصاعدي.
إن تركيبة إسرائيل من الداخل لا تسعفها في مواجهة ثورات شعبية من هذا القبيل لفترات طويلة الأمد، لذا فإن مزيداً من الدفع في اتجاه النضال الشعبي للاجئين الفلسطينيين سيستنزف إسرائيل ويرهقها، وسيشكل عامل طرد للمستوطنين، وسيقربنا كثيراً من تحقيق حلمنا التاريخي بالعودة إلى وطننا الحبيب فلسطين التي بارك الله فيها للعالمين..
"ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"

abu-rtema@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف