فضاء الرأي

الإنسان ورأسمالية الألفية الثالثة (3)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ناقشنا في الحلقة السابقة مستقبل الرأسمالية الفائقة في الألفية الثالثة، وإمكانية تطور رأسمالية بنموذج جديد بعد انتفاضة العولمة، ودور الدول النامية في تطوير هذا النموذج. ونقاشنا إمكانية ترافق النموذج الجديد للرأسمالية بنظام عولمة يسمو بمصلحة الإنسان فوق ربحية السوق، وخاصة مع التغيرات الديموغرافية القادمة، ليحقق للمجتمع تنميته الاقتصادية، وللإنسان سعادته ورخائه. ويبقى السؤال: هل فعلا سيدعم القطاع الخاص سوق عولمة تحترم أصولها البشرية، لتحقق تنمية يتناغم المجتمع مع ثرائه، ويحقق أمنه واستقراره؟
ناقش البروفيسور جفري فيفر، أستاذ العلوم الإدارية بجامعة ستانفورد، أخطاء القطاع الخاص في تسريح العمالة، بمقال في مجلة النيوزويك، وأمتدح تجربة شركة طيران السوثوست الأمريكية فقال: "تجنبت هذه الشركة تسريح أي من موظفيها خلال العقود الأربعة الماضية، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لتتحول اليوم لأكبر شركة محلية، تغطي نصف سوق الطيران الأمريكي. ويرجع هذا النجاح لفلسفة احترام أصولها البشرية، مما أدى بمسئوليها لدراسة التحديات الحقيقة للشركة، وإيجاد الحلول المناسبة للتعامل معها. فبتجنبها تسريح العمالة كحل سريع، حافظت على مهاراتها البشرية، فزاد ثقة الموظفين بمسئوليها، فكثرت إبداعاتهم، وزادت إنتاجيتهم، وتطورت خدماتهم. بينما انشغلت شركات أخرى بالتسريح، لتتغاضى عن سلبياتها الحقيقية، لتستمر خسائرها." وقد وضح رئيس شركة السوثوست فلسفته بالقول: "إذا كانت الموارد البشرية هي أهم أصول الشركة فلماذا نتخلص منها؟"
ويعلق البروفيسور فيفر على معضلة التسريح بقوله: "هناك مفاهيم خاطئة بأن تسريح العمالة يرفع قيمة أسهم الشركة، ويزيد من ربحيتها. والحقيقة أن التسريح يقتل العمالة، ويقلل إنتاجية المجتمع، ويزيد من تكلفة الرعاية الصحية، ويضر بالاقتصاد الوطني. بل تزداد إنتاجية القوى العاملة في الدول التي تحد أنظمتها وأخلاقياتها من تسريح العمالة، وتوفر الرعاية الصحية الشاملة لهم، وتدربهم لوظائف جديدة، وتوفر لهم تأمين تعطل وتقاعد. وقد نجحت الولايات المتحدة في تصدير أنظمة تسريح العمالة لدول العالم، فاضطرت السويد واليابان لتغيير قوانينها."
وتؤكد الدراسات بأن إعلان الشركات عن تسريح موظفيها يقلل من أسعار أسهمها ويخفض ربحيتها، بسبب قلق المساهمين، وانتشار عدوى القلق بين عمالها، لتقل الإنتاجية، وترتفع نسب الأمراض النفسية والعضوية بينهم، وتزداد مدة إجازاتهم المرضية، ويفقدون ارتباطهم وثقتهم بشركتهم، ويتركونها في أقرب فرصة للعمل بشركة أخرى. وقد أكدت دراسة أمريكية أجريت على 141 شركة، بأن تسريح العمالة تترافق بخفض سعر أسهم هذه الشركات، وتزداد نسب الانخفاض بزيادة نسب التسريح. وبين بحث أجري على 1445 شركة، بأن التسريح لم يحقق الفائدة المالية المتوقعة، حيث ترافق خفض كلفة العمالة بزيادة انخفاض قيمة أسهم هذه الشركات. وأكدت دراسة أخرى أجريت على 300 شركة أمريكية و73 شركة يابانية بأن التسريح ترافق بمردود سلبي على أرباح المساهمين. كما بينت دراسة أجريت علي 140 ألف شركة أمريكية، بترافق التسريح بانخفاض الإنتاجية. ووضحت أبحاث البروفيسور بيتر كلي، الأستاذ بكلية ورتون في جامعة بنسلفانيا، بأن التسريح يترافق بانخفاض نسبة المبيعات لكل عامل.
فتنفي جميع الدراسات الأكاديمية، لخيرة كليات التجارة والإدارة الأمريكية والأوروبية واليابانية، صحة أسطورة: "تسريح العمالة يزيد من ربحية الشركات،" بل بالعكس، أكدت دراسات إحصائية حديثة أجريت على 122 شركة بترافق تسريح العمالة بانخفاض الربحية. فمع أن تسريح الأصول البشرية تقلل التكلفة المباشرة، ولكنها تترافق بخسارة كبيرة غير مباشرة بترك خيرة الموظفين عملهم، وانتقالهم لشركات منافسة، ليستفيدوا من مستحقاتهم. فتفقد الشركة مهاراتها البشرية المتمكنة. وتضطر بعد تحسن الدورة الاقتصادية لإرجاعهم، بعد أن خسرت ثقتهم ودعمهم، لتزداد تكلفة طردهم وتشغيلهم مرة أخرى، وليؤدي كل ذلك لسوء بيئة العمل، وزيادة غضب الموظفين وحقدهم على الشركة.
ويعلق البروفيسور فيفر على هذه الأبحاث بقوله: "يقارن بعض الإداريين تسريح العمال كقطع طرف لحماية باقي جسم الشركة، والحقيقة بأنه نزف يضعف جسم المؤسسة بأكملها، بسبب حلقة مفرغة خطيرة." فالتسريح يترافق بفقد العمال الثقة في شركتهم، ليشعروا بالمهانة وقلة القيمة، فيقل مستوى تعاملهم مع الزبائن، وتنخفض إبداعاتهم وإنتاجيتهم. ويؤدي كل ذلك لزيادة خسارة الشركة، لتضطر تسريح عدد آخر من العمال، لتتكرر الحلقة المفرغة وتفلس الشركة مع الوقت. وخير مثال لذلك شركة "سيركت ستي" حيث بدأت في تسريح 3400 من خيرة موظفيها لتقلل التكلفة، مما أدى لقلة ثقة المستهلكين بخدماتها ومنتجاتها، فاستمرت خسائرها في الزيادة، لتعلن إفلاسها في عام 2008، ولتسجل شركة "بيست باي" المنافسة أرباح هائلة. كما يضعف تسريح العمالة الاقتصاد الوطني، فبزيادة البطالة يزداد القلق بين المواطنين فيقل استهلاكهم، مما يؤدي لخفض مبيعات الشركات، لتقل صناعة المنتجات، فتزداد الخسائر، فتضطر الشركات لتسريح عدد جديد من موظفيها، لتستمر حلقة مفرغة من الخسائر.
وتؤدي ظاهرة التسريح لخسائر غير مباشرة في المجتمع، فتزداد الانفعالات العاطفية بين العمالة المسرحة، لتزداد أمراضهم. كما يترافق التسريح بزيادة البطالة، ليفقد المجتمع تناغمه، وتزداد ظواهر التطرف والعنف، وترتفع نسب الإدمان على التدخين والكحول والمخدرات، وتتصاعد نسب الانتحار لحوالي 250%، وتزداد الوفيات بنسبة 20% في الولايات المتحدة، وبنسبة 44% في السويد. ويترافق كل ذلك بزيادة الصرف على الرعاية الاجتماعية والصحية والمؤسسات الأمنية. فمن الواضح بأن تسريح العمالة يضر بالاقتصاد الوطني، لذلك بدأت الجامعات تدريس برامج يهتم بالقيم الإنسانية في التجارة، وربطت الثراء الاقتصادي بكرامة المواطنين وسعادتهم، وأكدت على ضرورة المحافظة على الأصول البشرية في الشركات، لكسب ثقتهم، واستمرار إبداعاتهم، وزيادة إخلاصهم وإنتاجيتهم.
وقد ترافقت هذه المفاهيم الجديدة بتطور تكنولوجية الانترنت، وبدأت الشعوب والشركات تتبادل أفكارها واختراعاتها، لتمكن الملايين من شعوب العالم اقتصاديا، وتكنولوجيا، واجتماعيا. كما ستؤدي التكنولوجيات الجديدة في الطاقة الشمسية لكي يصبح الحصول على الطاقة حق إنساني، ليستطيع كل فرد إنتاج طاقته، ويشارك بها الآخرين في شبكة كهربائية وطنية وعالمية. ويعلق البروفيسور جرمي رفتكن، أستاذ الاقتصاد بكلية ورتون، بجامعة بنسلفانيا الأمريكية، والمستشار الاقتصادي للاتحاد الأوربي على ذلك بقوله: "وبمشاركة المليارات في إنتاج الطاقة سيبدأ عصر جديد، لتتآكل الهرمية التقليدية للمؤسسات والإدارات، وتنتشر شبكات تعاونية واسعة، والتي ستؤدي لاقتصاد أكثر عدالة وتعاونا. وستتزايد مهارات الاعتماد على النفس، وتنتشر شبكات التواصل والتعاطف، وسينمو الوعي البيئي. كما سيترافق ذلك بطاقة ذكاء آلية شبه مستحيلة، بتواصل كومبيوترات ملايين البشر بشبكة عولمة معلوماتية واجتماعية هائلة، لتخلق ظاهرة حكمة الحشود وسوق التعاون، ولتؤدي لرأسمالية توزيع تعتمد على الشفافية، والمشاركة، والانفتاح، والعمل بنظرة عولمة مشتركه."
ويعتقد البروفيسور رفتكن بأن هذه التطورات ستؤدي لاستبدال المنافسة الفردية، بطبيعة تنافس تعاون إنسانية، فيعمل الجميع في خدمة المجتمع والوطن، ويضاعف الفرد مصالحه الشخصية بمفهوم أوسع وأجمل. وسننتقل من مرحلة حقوق الملكية لمرحلة حقوق الدخول على الخدمة، وتتحول الإدارة لإدارة مسطحة لامركزية. فسيؤدي التواصل السريع للمشاركة في قرارات تنفذ بسرعة، ولتبرز الشفافية في جميع مستويات الإدارة، لتضم المشاركة في المعلومات والتعبير عن العواطف والأفكار والأفعال، فتبني الثقة بين العاملين وتقوي الزمالة والتعاون، لتكون مفتاح اقتصاد رأسمالية التوزيع للألفية الثالثة. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف