الطائفى والقبلى والفئوى فى سياق الدولة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إلى الرفيق والمفكر مهدى عامل فى ذكراه ال 24
(1)
بعد تنحى مبارك فى 11 فبراير2011، ذهبت الكتلة الهائلة التى تسمى الشعب، التى توحدت فى لحظة طارئة، إلى مواقعها الاجتماعية والثقافية التى جاءت منها. ذهبت الى موقع معيشها ونضالها اليومى، لا لكى تهدأ وتنتظر جنى الثمار وتعيد الإنتاج، كما أراد الاقتصاديون والسياسيون والعسكر، بل لكى تعيد ترتيب أو جغرافية هذا الموقع؛ بما له من علاقات سلطة وثروة ورغبات وتطلعات للمستقبل. وخرجت كل القطاعات والفئات، حتى التى لم يكن لها تاريخ سابق فى الاحتجاج، وربما لم تشارك بفاعلية، فى أيام 25 يناير الى 11 فبراير، وهناك من اتخذ موقف الضد من هذه الثورة، باعتبارها فعلا تخريبيا(وهى بالفعل كذلك، فعل تخريبى رائع، لأنها خربت ما كان خرابا بالأساس). ولكن عند انفتاح الشارع انطلقت كل الجماعات التى تعانى من ظلم وقهر شديدين لتعلن حضورها فى المشهد وتأخذ حصتها من القادم.
خرج عمال من معظم القطاعات، وموظفو بنوك، وتأمينات، وطلبة جامعات ومعاهد، ووزارات؛البحث العلمى، والكهرباء، والتضامن، والتربية والتعليم، والزراعة،... وافترش شوارع القصر العينى، أمام مجلس الوزراء من طردوا من مساكنهم، أو هدمت عليهم، وعمال محلات، مثل التوحيد والنور. كثيرون وصفوا هذه الاعتصامات بانها "مطالب فئوية"، ضيقة، خاصة جدا، ومحدودة الأفق. ونصحوا بالصبر والانصراف الى العمل، لأن هذه المطالب، وإن كانت مشروعة، ولكن ليس هذا وقتها، سيأتى الوقت لكى يأخذ كل حقه، لكن الآن وقت إعادة البناء. ورفعت شعارات "الشعب يريد البناء"، و"الشعب يريد العجلة". وهناك من رأى بأن هذه الاعتصامات والاحتجاجات تغنى الثورة، وتزيد من قوتها، وهى ملتحمة بجسم الثورة، وأن تلك المطالب هى حقوق اجتماعية لفئات أضيرت طوال عقود أو لها ردح من الزمن تعانى الفاقة والعوز. فمطلب مثل الحد الأدنى للأجور، أو حرية التنظيم النقابى، أو إقالة مجالس فاسدة، وعودة عمال سرحوا أو فصلوا تنكيلا بهم فى عهد مبارك،....الخ، هذه ليست "مطالب فئوية"، بل هى حقوق اجتماعية، أى جزء من مطالب ثورة 25 يناير. وكانت المكافأة لهذا الجدل، صدور قانون تجريم الاعتصامات، وأخيرا فض احتفالية عيد العمال فى ميدان التحرير. وتظل مقولة الفئوى فى مقابل العام حيلة لإطالة أمد الإستغلال الطبقى، ولصالح طبقة رجال الأعمال، وذلك تحت زعم الانتاج القومى، واقتصاد مصر، وإنقاذ بورصة السمسرة.
هنا تعمل مقولة الفئوى كادأة للتضليل السياسى ولإدانة فئات واسعة وعريضة مقهورة ومستباحة لعقود من النهب والتجويع. وأيضا تعمل على استعادة وضع ما قبل 25 يناير حيث تعمل على ربط تلك الحقوق والمطالب العمالية والفلاحية والشعبية بأجندات لمنظات حقوقية، هذه المنظمات ترتبط بدول مانحة، وفى نهاية الأمر نجد أنفسنا أمام نفس التهم البشعة، التى تتعلق بزعزعة الاستقرار، والانتماء، والتخوين...الخ.
(2)
فور صدور قرار تعيين محافظين جدد، انطلقت الاحتجاجات واسعة فى محافظة قنا ردا على تعيين المحافظ الجديد، وهو لواء شرطة، ومسيحى، يدعى عماد ميخائيل، بعد تجربة محافظ مسيحى سابق فى عهد مبارك، وهو مجدى أيوب. وقد جرت مياه كثيرة فى مجرى تلك الاحتجاجات والاعتصامات التى استمرت حتى تم الاستجابة لمطلبهم وهو عزل المحافظ الجديد. فالبعض يؤكد أن الاحتجاجات بدأت بتوافق تام بين المسلمين والمسيحيين. خرج الجميع ضد تعيين لواء شرطة محافظا، ولكن بعدها بأيام سيطرالسلفيون على المشهد، ورفعت شعارات، وعلت هتافات ضد المحافظ الجديد لكونه فقط مسيحيا، وهناك من تزعم قنا لتصبح إمارة إسلامية، وآخرون قالوا بأنهم رأوا أعلاما سعودية ترفرف على المدينة. وفى هذا الحدث الجنوبى تظهر مقولة القبلى، التى تم استخدامها كثيرا فى وصف الأحداث، وعلى أثرها طالب الجميع بتحرك الدولة تجاه ما يهدد هيبتها فى الجنوب، لأن الأمر ليس وفقط يقف عند حدود رفض محافظ جديد ولكنه أيضا يعرض الدولة المصرية الى خطر داهم. ارتعب الجميع مما يحدث فى قنا، سلفيون فى سدة المشهد، وإمارة إسلامية تلوح فى الأفق، ومسيحيون مرتعبون مما يحدث فى قنا، الدولة تتعرض لامتحان قاس، من يقبل بثنى ذراعها، أو بخدشها؟...هنا على الدولة أن تظهر، بوصفها الوحش، أو الأفعى، التى عليها أن تبتلع الجميع وتحارب الجميع لكى تحافظ على البقاء والسلام وترعى وجودها. وقال البعض بوجوب تطبيق الأحكام العرفية فى قنا وحدها، على القانون أن يظهر ويمارس فعله.
ولكن هل ما حدث فى قنا يمكن ان نقرأه بوصفه فعلا ضد مركزية الدولة، ضد العاصمة، ضد جماعة تحكم وتدير البلاد والعباد من جنوبها الى شمالها لصالحها، وتنهب خيراتها. هذه الجماعة تسكن القاهرة، وتتخذها مقرا لسلطانها؟ بالفعل كانت الاعتصامات فى قنا تذخر بأصوات متابينه ومتعددة ومتنافرة، لا يمكن إنكار أى صوت فيها، سلفى وقبلى ودينى وربما أمنى أيضا، أو كما قيل عناصر قديمة من جهاز أمن الدولة، ولكن ألم يحن الوقت لكى نطرح المسألة فى علاقتها بالعاصمة، بالمركزية، التى تلتهم كل الأقاليم، وتنهب الخيرات لكى تكدس فى خزائن وصوامع العاصمة؟ قرون طويلة يتم تعيين الولاة والمحافظين ومدراء الأمن وخبراء واستشاريين ومهندسين...الخ، من خارج بلدانهم ومدنهم، والشرط الأهم للحاكم هو ضمان ولاء هؤلاء الموظفين. هؤلاء لا يعملون لصالح المدن التى يديرون شئونها، بل يعملون لصالح أمن الذى يسكن القلعة/العروبة. وبكل فخر كان المحافظين يتباهون بأن مهمتهم أمنية بالأساس.
لقد كان رد قنا عنيفا، وربما أيضا كان ردا فى مقابل ميدان التحرير، وليس ضده. ربما أرادوا أن يخترعوا ميدانهم الخاص، او صورة مما حدث فى ميدان التحرير. حلموا بنقل الثورة إلى تخومهم. لكى يأتى الإعلام إليهم، ويأخذوا نصيبهم من الرعاية ومن الفعل. ليس بميدان التحرير وحده كانت الثورة، يمكن خلق ميادين كثيرة ومشتعلة. لم يكن فعلهم ضد الثورة ولا تهديدا لها، بل وجها آخر من وجهها المتنوعة والمرهبة أحيانا. لن تأتى ثورة على مزاج الثوار ولا على مقياس البرجوازيين الورعيين. لكل محافظة إدارة شؤونها حسبما يتم توافق الجميع؛ الموازنة، المحافظ، مدير الأمن، حصتها فى مقررات التعليم، تاريخها الخاص، إعلامها،...وربما جدول الضرب!!!
(3)
ننتقل الى مسألة أخرى وهى مسألة "الطائفية" بعد ثورة 25 يناير، والتى تفجرت بهدم كنيسة قرية "صول" بأطفيح. وخرج المسيحيون فى تظاهرات واسعة، واتخذوا ماسبيرو مركزا لاعتصامهم، بالإضافة الى طرق وشوارع أخرى، أكثرها ظهورا كانت منشأة ناصر. وتعالت أصوات مستنكرة ما حدث فى وضح النهار، وبدأت تتغنى بالوحدة الوطنية التاريخية، وأنه لأول مرة يحدث فى التاريخ أن تهدم كنيسة، وهذا مناف تماما للتاريخ، فالتاريخ يذخر بأحداث أكثر رهبة من هدم كنيسة أو حرق بيوت لمسيحيين. فقد ذكر الجبرتى بأن هناك كنائس أغلقت وتم إشعال النار بمن يصلون فيها. ولم تك كنيسة "صول" تعود الى الظهور من جديد، بعد أن قام الجيش بإعادة تشييدها، الا وتفجرت أحداث إمبابة المروعة.
وقد رأى كثيرون أن ما يحدث يمثل خطرا شديدا على الثورة وعلى مسارها، وينحرف بها الى حرب طائفية، ويمزق وحدة الأمة. وأن هناك مؤامرة على الثورة وعلى البلاد، وهناك أياد كثيرة، داخلية وخارجية، تعبث بأمن هذا الوطن. ومعظم التفسيرات والتحليلات استندت إلى مفهوم "الطائفى" كأداة للتحليل والتفسير. هذا المفهوم الذى نشا أساساً مع شرط تكون الرأسمالية فى شكلها الكولونيالى، الاستعمارى، وحافظت عليه الدولة المصرية التى تأسست على يد العسكر منذ مارس سنة 54، أو ما يمكن تسميتها بدولة الاستقلال، التى ظهرت فى غياب وحضور الاستعمار، هذه الدولة التى استمرت حتى قيام ثورة 25 يناير. وكانت الدولة المصرية تحرص على وجود هذه النزعة الطائفية، وتؤسس لها وتكرسها عبر كل ممارستها وسياساتها لكى تتمكن من السيطرة والاستغلال. فكان النظام السياسى يقوم أساسا على ما هو طائفى وقبلى ودينى وإثنى ونوع اجتماعى. وعملت كافة العلوم الانسانية التى ارتبطت بهذه الدولة بوضع الطائفية فى مقابل الوحدة الوطنية، واخترعت مفهوم يدغدغ المشاعر وهو نسيج الوطن، وعنصرى الأمة. وقرأت كل التاريخ المصرى وفقا لهذه الثنائية التى لا تفعل الا الاستغلال والتضليل وإعادة إنتاج التمييز والاضطهاد للجميع وليس لجماعة بعينها. فكان كل خروج هو خيانة للمصالح العليا للدولة، ويتم ربطه دائما بمؤامرة خارجية، ويظهر بجلال مفهوم الانتماء، وفى نفس الوقت، يتم استدعاء حضور القانون وتدخل الدولة ولو بفرض الأحكام العرفية.
وتأتى الحلول على قدر المفاهيم المستخدمة فى التفسير، فمفهوم طائفى، لا يأتى بشىء الا بنفس الحلول القديمة، تحقق بعض المطالب الخاصة بالمسيحيين، وخطاب إعلامى حول وحدة وهمية بين عنصرى الأمة، والنسيج الواحد، والعشرة، وأخيرا، العودة الى أخلاق الميدان، هذا الحل الوهمى، لأنه لا يمكن العودة الى أخلاق الميدان، هذا أشبه بالعودة الى عصر براءة الأديان، حيث يعيش الذئب والحمل معا بفضل الرعاية النبوية، او "بيت العيلة"، او "كوب شاى" مع صورة فوتوغرافية. فمفهوم طائفى لم يعد يصلح لفهم ما يحدث، فالمسيحيون ليسوا كتلة متجانسة، فهناك الأرثوذكس؛شرقيون وروم وأرمن، والبروتستانت، والكاثوليك...الخ، بالاضافة الى أمر هام وأساسى، وهو أن الشباب المسيحى الذى يقوم بالاعتصامات يقف على مسافة من كنيسة البابا شنودة، وأيضا قسم كبير منهم شارك فى ثورة 25 يناير، فهم غير المسيحيين الذى يعرفهم البابا، مثلهم مثل المصريين الذى لم يكن يعرفهم مبارك ولا نظامه. هنا لابد من أن نصنع عكس ما يريده السياسيون والقانونيون والاعلاميون والعسكر، لابد ان يتم الاجهاز بشكل تام على دولة مبارك. هذه الدولة التى كانت تقوم أساسا على الاضطهاد والقتل والتجويع والترويع للجميع. ألم يكن، وما زال، ما يدعو للتهكم والعجب، إننا لا نملك تعدادا حقيقيا للمسيحيين فى مصر، ويظل هذا الرقم مجالا للصراع، بين 4 مليون الى 20 مليون، وعلى جانب اخر لا تمتلك علوم النظام، مفهوما لهذه الجماعة، هل هم "أقلية"، ام "طائفة"، أم...،..؟.فعلم السياسة البرجوازى يمارس التضليل بإمتياز ومعه علم الإحصاء أيضا.
نحن فى حاجة الى إختراع مفاهيم جديدة لفهم ما يحدث، نحتاج مفاهيم تساعدنا على الوصف لا الفهم، ولا التفسير، فكل فهم وتفسير هو تعالى على الظاهرة. ما حدث فى ماسبيرو، وما سيحدث فى مرات قادمة، انطوى بالفعل على مطالب وهتافات يمكن ان تندرج تحت "طائفية" بمفهومها الدينى لا السياسى، أى مطالب خاصة بجماعة تم التحفظ عليها لقرون طويلة. ومفهوم التحفظ هنا، ينزع الى القبض عليها وتوظيفها وقت الضرورة. وكان ذروة التحفظ هذا عندما تحفظ السادات على شنودة فى وادى النطرون قبيل أحداث المنصة. فتشكلت هوية هذه الجماعة فى حضن كنيسة هى بدورها تستظل بدولة استبدادية وطبقية. ولكن ليس الحل هو منح هذه الجماعة بعض المزايا أو الحصص، فهذا الطريق يكرس طائفية سياسية خطرة، ولكن علينا أن نؤسس خطابا ديموقراطيا ينقل هذه الطائفية الى فضاء أرحب والى مجال يقبل الجميع بلا تمييز. نحن فى حاجة الى تشكل دولة جديدة، تشييد جمهورية ثانية تتأسس على الاختلاف والتنوع والتعدد لا على الوحدة والنسيج الواحد. فى حاجة الى خلق نظام أو صيغة للتعايش المشترك، هذا لن يتأتى الا عبر الاعتراف الكامل والعلنى بتاريخ اضطهاد منذ عمرو بن العاص حتى مبارك. اعتراف من الجميع بانهم فى لحظة، سواء بوعى أو بدون، مارسوا التمييز.وفى المقابل، لابد من صفح وغفران من الطرف الآخر، لكى تتأسس قيم حياتية تدعو الجميع؛ مسلمين ومسيحيين، رجالا ونساء، نوبيين، وبدو، وأمازيغ، عمالا وفلاحين، شمالا وجنوبا، الى تقاسم السلطة والثروة والثقافة والمستقبل والتطلعات. على أرض مصر، الكل مدعو إلى إختراع حياته الخاصة، وإبداع لغته وطريقته فى الكلام.
إثنوجرافى مصرى