أصداء

السلطة السياسية بين الماضي والحاضر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

السلطة السياسية هي أحد العناصر المكونة للدولة. وقد ساد عبر التاريخ، وخاصة في العصور القديمة والوسطى، خلط بين السلطة والدولة نتيجة ترابط السلطة السياسية بشخصية الحاكم، كما قال لويس الرابع عشر عبارته الشهيرة "انا فرنسا" اي انا الدولة. وكان مفهوم السلطة بهذا المعنى يشكل نظام من السيطرة والهيمنة المستمدة من القوة والعنف.
وبقي هذا التصور هو السائد لحين ظهور الفلسفات المعاصرة والمفاهيم الليبرالية التي مهدت الطريق لبناء الديمقراطيات في العالم الحر،اذ اصبحت السلطة احد مكونات الدولة وزوالها او تبديلها لا يؤثر على كيان الدولة. اي اصبحت الدولة وحدة قانونية مستقلة ومتميزة عن الافراد المكونين لها.

وقد عرف تاريخ النظم السياسية مراحل مختلفة منذ العصور القديمة والوسطى مرورا بعصر النهضة الاوربية والعصر الحديث والى يومنا هذا.
في العصور القديمة كانت الافكار السياسية تمتزج بالاسطورة وكانت شريعة حمورابي وشريعة مانو وتشريعات سولون في اثينا تناقش الشروط التي يجب توافرها لتكون الدولة فاضلة وتكريس سيادة القانون.

ويرى الفكر السياسي لدى السفسطائيين في اثينا بان الحق والقوة شيء واحد. وان العدالة هي تحقيق مصلحة القوي والظلم هو ان لا يعمل الضعيف من اجل منفعة القوي وهي صورة اولية للفكر البراغماتي الامريكي.
|
وقد رفض افلاطون الفلسفة السياسية للسفسطائيين واعتبر الفضيلة هي المعرفة والمجتمع السياسي لا يقوم بدون فضيلة. والفضيلة لا يوفرها الا اصحاب المعرفة وهم الفلاسفة والعلماء وان السلطة السياسية وادارة الحكم لا تكون الا لهؤلاء. وبهذا المعنى يتجاهل افلاطون الديمقراطية لاعتقاده بعدم صلاحيتها.
وكانت فلسفة ارسطو السياسية اكثر واقعية من فلسفة افلاطون، لان الدولة الدستورية هي مثله الاعلى واعتبر الضمان الوحيد للحكم الصالح هو القانون.
وفي الحقبة الرومانية يتميز النظام السياسي بطبقية حادة،حيث لا يحق المشاركة السياسية الا للاحرار من الذكور فقط ويستثنى النساء والعبيد والغرباء.
وطوال حقبة العصور الوسطى الاوربية التي انتهت مرحلتها في اواخر عام 1400، كان التصور السياسي للدولة، كونها مؤسسة خاضعة للقانون الالهي، وان دور الحاكم يقتصر على حماية الكنيسة، وهذا المفهوم للسلطة، مماثل للمفهوم الحالي لها في بعض البلدان الاسلامية خصوصا في السعودية وايران، ويحذو العراق بالوقت الحاضر حذوهما بتشجيع ودعم قادة العالم الحر لاعادته واعادة المنطقة الى ظلاميات العصور الوسطى.

وكان رجال الدين في تلك الفترة يتاجرون بالجنة واليوم الاخر، ويبيعون الاماكن والعقارات في الجنة عن طريق "صكوك الغفران" وكذلك يحددون فترات العذاب في النار للبعض..!! (كما هو ديدن بعض ملالي وشيوخ الاسلام اليوم)
ويعد مارتن لوثر (1483-1546م) من اوائل المحتجين على هذا السلوك، حيث دعى المواطنيين عام 1517م الى عدم الانصياع الى هذه الخزعبلات لان ذلك يتناقض مع الدين. وقد كلفه ذلك الكثير من حريته وكانت من نتائج تلك الاحتجاجات هو الثورة ضد هذه المفاهيم القديمة، واندلاع الحروب الطائفية التي دامت ثلاثين سنة (1618-1648)، وكانت نهاية هذه الحروب قد حددت طبيعة النظم السياسية في اوربا ومهدت الطريق للحرية الفكرية في كافة المجالات.

ومن ابرز الفلاسفة المعاصرين لمارتن لوثر، الفيلسوف الايطالي ميكيافيلي (1467-1527). وبالرغم من ان نظرية ميكيافيلي بررت الدكتاتورية والاستبداد، والاستيلاء على السلطة بالقوة، الا انها افتتحت عصر الانبعاث الأوربي بفلسفة سياسية تؤكد الاهمية القصوي لفصل السياسة عن الاخلاق، واعتبر غاية السياسة هي المحافظة على قوة الدولة والعمل على ازديادها وبجميع الوسائل حتى اذا كانت لاأخلاقية أو مناقضة للتعاليم الدينية.

واتفق ابن خلدون في مقدمته الشهيرة مع ميكيافيلي، فقد جعل للقوة الدور الاوحد في تاسيس السلطة السياسية للدول، عندما يتحدث عن التغلب والتملك، وعلى الرغم من انه من فقهاء الدين غير انه لم يجعل العقيدة الدينية المحور الاساس في تكوين السلطة السياسية بقدر ما جعلها للقومية والعصبية.
وقد شجعت افكار ميكيافيلي ظهور السلطة المطلقة لملوك أوربا. وخير مثال على ذلك الملك الانكليزي هنري الثامن الذي استغل مسألة طلاق زوجته للانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وتنصيب نفسه رئيساً للكنيسة الانكليزية عام 1534. كما تعاظمت سلطة الملك لويس الرابع عشر ومن بعده نابليون في فرنسا مما أدى ذلك الى فتح الابواب على مصراعيها امام فلسفات ونظريات أدت الى ظهور أنظمة سياسية جديدة أخرى، كالأنظمة الديمقراطية الليبرالية والاشتراكية الماركسية الشمولية والفاشية ابتداء من القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا.

وبعد قيام الثورة الانكليزية عام 1688 والثورة الامريكية التي تكللت باعلان الاستقلال عام 1776 والثورة الفرنسية عام 1789، ظهرت الفلسفة التجريبية (Empiricism Philosophy) التي كان من ابرز روادها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 1650) والفيلسوف البريطاني جون لوك (1632 1704) والفيلسوف الامريكي وليم جيمس (1842 1910).
تقوم الفلسفة التجريبية على تقبل الحقيقة التي يبررها العقل والسببية فقط بمعنى ان الانسان لا يمكن ان يؤمن بأي شيء من دون وجود اثباتات كافية تدعم ايمانه. هذه الفلسفة تجعل من أي فكرة في حالة حركة وتفاعل مستمر وتطور مع الواقع ومع ما يفرز هذا الواقع من مستجدات. وهي أساس الفكر الليبرالي الذي اعتمدته بريطانيا قبل ان تتبناه أي دولة أخرى والذي أصبح من اهم مقومات الانظمة الديمقراطية الليبرالية.

وكانت السمة الغالبة في النظم الديمقراطية الليبرالية التقليدية تقديس الفرد وحقوقه الشخصية واعتبارها مصونة ولا يمكن المساس بها بوصفها الأساس في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبالتالي أن السلطة وجدت لخدمة الفرد ومصالحه وضمان حريته المطلقة. وأدى هذا الغلو في تقديس الفردية الى فقدان العدالة الاجتماعية بسبب تركيز رؤوس الاموال بأيدي شركات وأفراد محدودين في المجتمع دون الاكتراث بالفئات الفقيرة التي لا تقوى على سد رمقها.
وهذا التقديس والغلو للفردية جعل من الديمقراطية الليبرالية بمفهومها التقليدي غير ملائم لسعادة الانسان بل يمنح الفرصة للقلة من الشركات والافراد لبناء ثروتهم على تعاسة الانسان، مما شجع ذلك على ظهور فلسفات جديدة متطرفة كالديالكتيك الهيكلي (صراع الامم) والديالكتيك الماركسي (صراع الطبقات).
يرى هيكل (1770-1831) ان الصراع في العالم هو صراع امم وان محرك هذا الصراع هو روح الامة التي تتجسد في شجاعتها وعبقريتها والتي تؤدي بها الى تبوء مواقع الهيمنة على الامم الاخرى باي طريقة من الطرق بما في ذلك الحروب والعنف والقوة. وبنى هيغل استنتاجاته على ما اثبته التأريخ الانساني من مراحل حتمية وهي:
المرحلة الاولى: هيمنة الشرقيين (العراقيون والمصريون القدماء)
المرحلة الثانية: هيمنة الاغريق والرومان.
المرحلة الثالثة: هيمنة الامة الالمانية.
المرحلة الرابعة: ستكون الهيمنة فيها للولايات المتحدة الامريكية.
وكأنه يقول ان هيمنة الولايات المتحدة الامريكية هي اخر المطاف ونهاية العالم وسعادته..!! كما سنرىrsquo; ان هذا التبشير، مشابه الى بشر به الفيلسوف ماركس عن المراحل النهائية للشيوعية في العالم.

وأكد الفيلسوف الالماني الآخر نيتشه (1844ــ1900) افكار هيغل حين قال "ان الفلسفة التجريبية هي تحقير للفلسفة برمتها".
هذه الفلسفة حفزت الشعور القومي لدى القادة الالمان والشعب الالماني مما دفع بهتلر من خلال قيادته للحزب النازي الالماني عام 1921، وانتخابه مستشارا لجمهورية المانيا عام 1933 الى بسط نفوذه وتوطيد نهجه الدكتاتوري الفاشي وخوضه الحروب للهيمنة على بقية الأمم.

كما ظهرت النظرية الماركسية متبنية منهج المادية الديالكتيكية والتاريخية (1818ــ1883) على أسس جديدة تختلف عن الاسس التي اعتمدها الفيلسوف هيغل.
ويرى الفيلسوف ماركس ان الصراع في العالم هو صراع طبقات، وان المسار التأريخي لهذا الصراع يدلنا الى ان مراحل هذا الصراع هو:
المرحلة الاولى: مرحلة هيمنة الاقطاع الذي فرض نظام القنانة بالقوة والحديد والنار.
المرحلة الثانية: هيمنة البرجوازية التي قضت على الاقطاع بثورات عارمة كالثورة الفرنسية.
المرحلة الثالثة: هيمنة العمال (دكتاتورية البروليتاريا) وبناء الاشتراكية باعتبارها المرحلة الانتقالية نحو الشيوعية والمجتمع الخالي من الطبقات كما وصفها مفكرون مثل لينين.
المرحلة الرابعة: وهي المرحلة الاخيرة التي ستبلغها البشرية ببناء الشيوعية Communism والعيش بسعادة وهناء لشعوب الارض..!!!

استغل ماركس نقاط الضعف في الديمقراطية الليبرالية التقليدية التي تطرفت في تمجيد الفرد وحقوقه المطلقة في التملك والسيطرة على وسائل الانتاج، وذهب في فلسفته الي تطرف جديد بالاتجاه المعاكس. إذ اعتبر الديمقراطية في الدول الغربية لم تتحقق إلا بعد تأمين هيمنة مالكي وسائل الانتاج وبالتالي سيطرتهم على السلطة وتسخيرها لاغراضهم في كافة المجالات. أي ان الديمقراطية الغربية هي ديمقراطية الطبقة البرجوازية (Bourgeoisie) التي لديها القدرة من خلال امتلاك رؤوس الاموال على استخدامها للسيطرة على جميع المؤسسات الحيوية واستغلال الطبقة العاملة وتسخير الانتخابات لمصلحتها. ويرى ماركس ان انتصار الطبقة العاملة وهيمنتها على المجتمع سينهيان دور الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الانتاج وما تمارسه من استغلال بعد سحقها تماماً، ويصبح المجتمع الصناعي أحادي الطبقة وتكون ملكية وسائل الانتاج ملكية عامة، وحتى الفلاحين سيتحولون الى عمال زراعيين تمهيدا لزوال الطبقات وبالتالي ستنتهي مرحلة الصراع الطبقي ومعها تنتهي اي معارضة فردية أو جماعية وبذلك فأن الطبقة العاملة قد حسمت التاريخ الانساني لصالح البشرية جمعاء والى الابد..!

ولكن الانظمة الشيوعية التي قامت باسم الماركسية زعمت: من اجل انتقال الشعوب الى هذه الجنة على الارض، لا مبرر لتعدد السلطات في الدولة، بل ان تركيز السلطات بسلطة سياسية واحدة سيقود الى التحول السريع نحو المراحل النهائية للشيوعية. ونلاحظ ان بقايا الانظمة الشمولية في العالم، كنظام حزب البعث السابق في العراق والحالي في سوريا، استمدت بعض افكارها وممارساتها في تكريس جميع السلطات بيد القيادة السياسية، من افكار الانظمة الشيوعية الى جانب المدرسة الفاشية متبنية "نظرية الحزب القائد".

أثبتت التجارب العملية لممارسات الانظمة القومية الفاشية والشمولية، أنها كانت من أسوأ الانظمة في التعامل مع حقوق الانسان وارتكابها ابشع الجرائم الدولية، كالابادة الجماعية، وجرائم الحرب، والعدوان، والجرائم ضد الانسانية.

إلا ان تجارب الانظمة السياسية الفاشية والشمولية، اعطت مردودات ايجابية على الانظمة الديمقراطية الليبرالية التقليدية التي بحكم اعتمادها علي الفلسفة التجريبية، كما اشرنا، على النقيض من الفلسفة الهيغلية الديالكتيكية بشقيها الرومانسي المثالي (Romanticism Idealism) والمادي الماركسي، قد طورت نفسها بعد تشخيص مواطن النقص والخلل في التجربة الديمقراطية التقليدية وهي (المغالاة في تطبيق المذهب الفردي).

لقد شاعت المفاهيم الحديثة للمذهب الاجتماعي الذي أخذت به الديمقراطية الحديثة وانتشرت في الدول الاوربية والاسكندنافية بأسم (الديمقراطية الاشتراكية) (Social Democracy) التي من شأنها ضمان الحد الأدني للعيش لجميع العاطلين عن العمل باعتباره حقا مشروعا للانسان.

واستطاعت الديمقراطية الاشتراكية بحكم اعتمادها علي الفلسفة التجريبية (العقلانية والسببية) ان تتكيف وفق معطيات التجارب العملية ومرونتها في المناقشات وقبولها الحلول الوسط لما فيه تحقيق الحرية وحقوق الانسان والمنفعة، وان تكون ملائمة لجميع البشر بمختلف درجاتهم الطبقية ومختلف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية والفكرية وصالحة لجميع المجتمعات صناعية أم زراعية، وبالتالي فأنها أكتسحت جميع الانظمة الاخرى الفاشية والشمولية كما اكتسحت من قبلها الانظمة الدينية (الثيوقراطية) التي جاءت لهدر القيم الانسانية.
اما السلطة السياسية في الفكر الاسلامي، فقد اتصفت بصفتين اساسيتين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولحد الان، الاولى في عدم الفصل بين الدين والدولة اما الثانية فتتمثل في اعلاء قيمة القوة والتاكيد على ارتباط السلطة بالقوة خصوصا بالمراحل التي تلت الدولة الراشدية حيث اصبح الحكم يتاسس عن طريق القوة او عن طريق الوراثة.
واخيرا يمكن القول، انه في اغلب الاحيان، لا تتحقق السلطة بدون القوة، فمن مستلزمات السلطة هي امتلاك اجهزة القهر والسيطرة، الا ان على السلطة السياسية ان تستخدم هذه القوة ضمن نظام ديمقراطي ليبرالي حديث، لبسط المساواة والعدل والحريات للمواطنين دون تمييز وان تكون الحارس لهذه القيم حتى لا ينفرط التلاحم الاجتماعي وتعم الفوضى وتنهدر كرامة الانسان.

د. طارق علي الصالح
رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين - بريطانيا

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف