الثورة ومقوماتها- 2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تناولنا في الجزء الأول تحت ذات العنوان العنصر الأول من المقومات اللازم توافرها لكي تتحقق في مصر حالة ثورة حقيقية، تجري تغييراً جديراً بالاعتبار، ينقل البلاد والعباد من حالة التخلف والتكلس والركود الطويلة، تلك التي فرضتها عليها ستة عقود من حكم العسكر، كان نصفها هو عهد مبارك، والذي قد أُغضب كثيرين إذا قلت أنه قد سعى بالفعل لتحديث مصر وللتوافق مع المتغيرات والظروف العالمية، لكنه حاول ذلك مستخدماً نفس المعطيات السياسية والمجتمعية البائدة، تلك التي أوجدها أسلافه، واستمر هو في إعادة انتاجها. . نعم فلقد سعى الرجل وبعض ممن هم في معيته بالفعل إلى تحديث مصر، كأنما بقيادتهم سفينة عتيقة، يأكل بدنها الفساد وتخلف الثقافة والعادات والتقاليد، وكان لابد من أن تكبل محركاتها الديكتاتورية وشللية التوريث والقبضة البوليسية، كنتاج طبيعي لتلك البيئة. . يبدو الكلام هكذا متناقضاً، إذ كيف أزعم رغبة نظام في تحديث البلاد، في ذات الوقت الذي يتمسك فيه بأوليات حالة التخلف والفساد؟. . هو تناقض فج بلاريب، لكن هذا هو بالفعل ما حدث، في غياب أو فشل مشروعات التنوير. . وهذا بالتحديد ما يحدث الآن بعد ثورة شبابنا الطاهر على كل ما نجلس فوقه من عفن وفشل وفساد، في ظل غياب مشروع تنويري نابع من هواجس شعبية يفترض أن تصاحب الثورة، بل وتكون هي الدافع والموجه لها.
لا نظن أن ثمة حاكم مهما كان سيئاً ومستبداً وفاسداً يتعمد كما لو كان شيطاناً أن تتخلف بلاده، بل لابد وأن يبذل ولو بعضاً من الجهد لكي يرتقي بوطنه، ويخفف معاناة من يتحكم فيهم، ولا يختلف الحاكم الصالح عن الطالح هكذا إلا في نسبة حجم سعيه للإصلاح، مقارناً بمجمل توجهاته وفعالياته، علاوة بالطبع على التوفيق في انتهاج السبل المؤدية للإصلاح المنشود. . هكذا ليس لنا أن نتعجب أو نتحاجج في تقييمنا للرؤساء، حين نجد لهم إنجازات تستعصي على الإنكار، رغم أنهم بالمجمل كانوا كارثة على شعوبهم. . هكذا كان عبد الناصر بانجازاته، وكان السادات كما كان مبارك. . لقد سعى كل هؤلاء للإصلاح بدرجات متفاوتة، في مقابل سعي "الثوار" الآن للتغيير الشامل، وإذا كنا في الجزء الأول من هذه المقاربة قد تناولنا وضع "الثوار"، ولا ننتوي تقييم آخر ثلاثة حكام لمصر، فإننا نجد أنفسنا أمام الظروف والبيئة التي سعى فيها هؤلاء الحكام لتحقيق إنجازاتهم، أي أمام تلك البيئة "ذاتها" (مع قدر جدير بالاعتبار بالطبع من التغيير) التي يسعى "الثوار" من خلالها لتحقيق ثورتهم.
نعمد إلى تساؤلنا مباشرة: هل البيئة المصرية الآن بشعبها وظروفها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تسمح بحركة تغيير شاملة نحو الأفضل المختلف جذرياً عن كل ما كان؟. . نتحدث فيما يلي من فقرات عن الوضع بمعزل عن تقييمنا للثوار، ونركز على الأوضاع العامة والسائدة.
نستطيع الجزم بأن روح النقمة أو التذمر تسود بين الشعب المصري، ويتركز التذمر أو حتى ينحصر في الجانب الاقتصادي، بما يشمله من خدمات وتعليم وصحة وإسكان علاوة على الأسعار، لكن هنا يبرز التساؤل عن فهوم هؤلاء المتذمرين لأسباب ما ينقمون عليه، فقيام "ثورة" حقيقية لا يعتمد فقط على وجود "شباب ثائر"، فهؤلاء أقصى ما يستطيعون هو ما قد حققوه بالفعل وهو إسقاط نظام، لكن إقامة بناء جديد مختلف جذرياً عما سبق، يحتاج إلى شعب يؤمن أنه قد صار من اليوم سيد مصيره، ويدرك أن التغيير المنشود يتم أساساً على يديه، وينعكس بالدرجة الأولى على ممارساته اليومية، بل وعلى عاداته وتقاليده وقيمه، تلك التي كانت سبباً رئيسياً (وإن لم يكن وحيداً) في معاناته، وفي فشل محاولات إصلاح لا يمكننا نكرانها على مدى ستة عقود مصرية مضت، بل ونستطيع الرجوع بالزمن إلى مدى أبعد، منذ ثورة 1919 الليبرالية، أو حتى مشوار محمد علي التحديثي مع بداية القرن التاسع عشر. . الثقافة البطريكية الأبوية تبرز هنا كداء يبدو حتى الآن بلا دواء، والتي تعزي الفشل دائماً وأبداً إلى الحاكم، دون أن نجرؤ على مواجهة أنفسنا بحقيقة توالي مختلف صنوف الحكام منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الآن، ويكاد يكون الفشل هو ذاته، وضئالة حجم الإنجازات أيضاً هو ذاته.
الثقافة الأبوية كما تمجد الحاكم، فهي أيضاً تنهال عليه متى فشل باللعنات، ولما لا وهي تنظر إليه كما لو أب مسؤول عن توفير احتياجات أبنائه، الذين يفغرون أفواههم ويمدون أيديهم لتلقي ما يتم منحه لهم من هبات أبوية. . فشعبنا مثلاً وعلى رأسه نخبته على يقين كامل بأن "مصر كلها خير، والحرامية سارقينها"، وهكذا نعتمد في "ثورتنا المباركة" على تنحية الحرامية أو إعدامهم، واسترداد أموالنا المنهوبة، لنتقاسمها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا كل ما في الأمر بداية ونهاية!!. . هو تخلف أمة تعيش على ثقافة سلبية ريعية، لا تعرف قيمة العمل وبذل الجهد، وارتباطه المباشر بالأوضاع المعيشية. . فالثقافة الأبوية والريعية صنوان، أو هما وجهي عملة واحدة، ففي حين أن ثقافة بذل الجهد المنتج ترتبط بالفردية وسيادة الإنسان لمصيره، وبالتالي بالليبرالية والديموقراطية، فإن الثقافة الريعية تخلق روح القطيع الجمعية، وتعتمد على أب بطريرك عادل، يقوم بتوزيع الريع بالتساوي، قديماً على تنابلة السطان المنطرحين على أبواب قصره، وحديثاً على المحشورين بلا عمل أو كفاءة في كافة مؤسسات الدولة البيروقراطية المترهلة متدنية الفاعلية.
الثورة لدينا هكذا قبل وبعد إسقاط النظام تتمثل في تلك التظاهرات والاعتصامات الفئوية، وتلك المطالبة بحد أدني وأقصى للأجور ، الأمر مجرد إعادة اقتسام الريع أو الكعكة وفق مفهوم العدالة في ذهن هؤلاء. . وإذا كان القول بريعية الاقتصاد المصري يمكن أن يثير لدى البعض الاستغراب أو حتى الاستهجان، ولأننا لسنا هنا في معرض بحث اقتصادي يدلل على زعمنا، فإننا نكتفي بمجرد إشارة إلى ما تتداوله الألسن الآن عن مليارات منهوبة، فسوف نجد مصدرها إما عائدات البترول، أو بيع أراض الدولة، خلاف هذا ليس ثمة ثروات تنهب أو توزع بعدالة!!
هكذا أيضاً يمكن أن نرى أن سلبية الشعب المصري وعزوفه عن المشاركة السياسية لا ترجع فقط إلى ما مورس عليه من قهر وتهميش، لكن أيضاً وبالأساس لنظرته الأبوية للحاكم، والتي لا تقتضي مشاركة الشعب في حكم نفسه بنفسه، وأقصى اهتمام له بأمر الحكم يتمثل في الدعاء الشائع على كل الألسنة "ربنا يولي من يصلح"!!. . فقط نحصل على حاكم عادل يحسن تقسيم الريع، وأقصى ما نطمح إليه بثورتنا هو استبدال الفاسد الظالم بآخر عادل. . تكون الرقابة والمتابعة الجماهيرية للحاكم هكذا ليست بحثاً وجهداً مشتركاً لتحقيق أهداف المجتمع، بل هي علاقة "رفض/ قبول" للحاكم، أو "نعم/ لا" أي "ON/ OFF"، لتكون أبسط النتائج لتلك الرؤية أو العلاقة هو الطلبات اللحوحة والمستمرة المتصاعدة من الجماهير، دون أدنى تفكير في كيفية تحقيق أو تمويل ما نطالب به، وتغطي هذه النوعية من المطالب كافة شئون الحياة، بداية من توفير رغيف العيش، وصولاً لتحرير فلسطين وإلقاء إسرائيل في بحر الظلمات!!
ما نزعمه هنا أن الثقافة السائدة هي التي تحدد إن كان المجتمع صالحاً أو جديراً بإحداث "ثورة" بمعنى تغيير جذري في الأحوال المعيشية باختلاف مناحيها، وفي حالة الشعب المصري هذه ووفق ثقافته، لا يحق لنا أن نتعجب لو سلم الشعب قياده لمن يخاطبونه باسم الدين، ويحدثونه عن مبدأ الحاكمية لله، فهكذا يقدمون أنفسهم بصفتهم نواب الإله على الأرض، وبالتأكيد ليس غير الله حكماً عادلاً في توزيع الريع، وليس هناك بعد ذلك ما علينا إنجازه أو إعادة ترتيبه من أمور حياتنا، حتى نحقق الحياة الرغدة التي نطلبها.
مصر- الإسكندرية