فضاء الرأي

المستشرقون في علم الآثار: الدور والهوية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عنوان الكتاب: مستشرقون في علم الآثار.
الكاتب: محمد الأسعد.
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ودار مسعى، الكويت، طبعة أولى، 2010م
عدد الصفحات: 245 صفحة.

لم يكن "الاستشراق" يوماً عِلْماً مبرَّأً عن الأسبقيات المعرفية أو منزَّهاً عن المآرب الغربية "الاستعمارية"، كما يرى ذلك عددٌ من دارسيه ومنتقديه، على حد سواء؛ فدور الوصاية السلطوية الذي مارسته الثقافة الغربية تجاه الثقافات الأخرى، وَسَم الاستشراق بصورة التبشير الديني تارة، وصورة التمثيل التصويري تارة أخرى، وصورة الاستعمار المباشر تارة أخرى.
يناقش الكتاب تأثير الاستشراق على علم الآثار من خلالوستة فصول: عنوان الأول "كيف قرؤوا الألواح وصنعوا التاريخ"، والثاني "المشكلة التوراتية"، والثالث "طريق العطور"، والرابع "الجغرافية السياسية للثقافة العربية". أما الخامس، فعنوانه "ألسنة أم لهجات لسان واحد؟"، والسادس "ميلاد تاريخ فلسطين القديمة".
ويرى المؤلف أن النص التوراتي تحديداً لعب الدور الأكبر في إنتاج ماضي الشرق، وشرقنا العربي بخاصة، فوضع تاريخه ولغاته وفنونه وآثاره المادية في سياقات غريبة لا تنتمي إليه بقدر ما تنتمي إلى صورة متخيلة مستمدة من المرويات التوراتية، حتى وإن كان هذا الماضي أوسع زماناً ومكاناً من تلك اللحظة العابرة في تاريخه، تلك التي يفترض أنها مرحلة توراتية.
وأعطت هذه الخصوصية علم الآثار في شرقنا العربي طابعاً مغلقاً وثابتاً، فهو فرع آخر غير علم الآثار، إنه علم خاص يدعى علم الآثار التوراتي، لا تلمسه أي مكتشفات من أي نوع كان، ولا تغير ثوابته أي خبرات جديدة مكتسبة، ولا تطورات حديثة في مجال علم الآثار.
يكمن في أساس هذا العلم عنصران يسمونهما "الرؤية" و"الإحساس بالهدف"، والرؤية هي بالطبع الرؤية اللاهوتية، أما الهدف فهو استعادة هذا الجوهر المطمور في تلال المنطقة العربية وفلسطين خصوصا، وإعادته إلى الحياة. فوظيفة علم آثار من هذا النوع ليس التنقيب عن الآثار القديمة والتعرف على هويتها، بل رفعها كمستندات تخلق رابطة بين ذلك الجوهر الثابت وبين الكيان الاستعماري الذي أنشأه الغرب على أرض فلسطين.
لذلك فمن الطبيعي أن يحمل الآثاريون الغربيون هذا البعد التوراتي، وترافق ذلك مع عصر الاستعمار ونشوء الكيان الصهيوني وبالتالي "تلازم البعد اللاهوتي والبعد الاستعماري وسارا في سياق واحد وبتوافق تام، الأول كان يستولي بفرق الاستطلاع والمسح والتنقيب على الماضي الفلسطيني ويحل محله ماضياً مختلقاً، والثاني كان يستولي بقواته العسكرية ووحشية فاقت الوحشية النازية والفاشية على الحاضر الفلسطيني ويكمل مهمة الأول على أتم وجه".
ويرى المؤلف أن التشويه الأول الذي تعرضت له جزيرة العرب على يد علماء الآثار التوراتيين هو التشويه الجغرافي، ويقوم على تحويل جزيرة العرب إلى شبه جزيرة بحدودها الحالية متجاهلين أن العرب كانوا يقصدون بمصطلح "جزيرة العرب" ما ذكره الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" وهي حدود ترسمها مياه الخليج ونهري دجلة والفرات وصولاً إلى جبال طوروس، ثم انحداراً مع شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى نيل مصر، فالبحر الأحمر وصولاً إلى المحيط الهندي من الجنوب. أما التشويه الثاني فهو افتراض أن الجزيرة المختزلة حدودها إلى حدود شبه الجزيرة العربية حالياً كانت معزولة عن الحضارة قبل القرن السابع الميلادي، متجاهلين مركزية دورها في التاريخ العالمي. فهي كانت موضع أطماع اللخميين والساسانيين والرومان والبيزنطيين، وحاول الإسكندر المقدوني غزوها، وسبب ذلك يرجع إلى أنها كانت ملتقى طرق التجارة الدولية.
يؤكد الكتاب أنه تكاثرت الأدلة الواقعية على بطلان وزيف علم الآثار التوراتي، فكل المنقبين الموضوعيين لم يجدوا أثراً لبني إسرائيل في المنطقة، ولم يجدوا ما يؤيد قصص التوراة، وبسبب ذلك نشأ جيل جديد من الباحثين الغربيين ممن تصدوا للخرافات التوراتية رغم سطوتها في مجالهم، فدفعوا ثمن ذلك غالياً. ففي عام 1992 تم اغتيال عالم الآثار الأميركي ألبرت غلوك الذي كان يعمل محاضراً في جامعة بيرويت من قبل الصهاينة لأنه كان يقود مشروع استكشاف التاريخ الفلسطيني، وتم الاغتيال لمنعه من نشر نتائج تنقيبه الميداني.
وفي السياق نفسه، يذكر المؤلف أن سلطات الاحتلال أوقفت عالمة الآثار البريطانية كاتلين كينون عن العمل عام 1967 بعدما أعلنت نتائج تنقيباتها التي تدحض التاريخ التوراتي حول مدينة أريحا الفلسطينية. وفي عام 1990 كتب عالم الآثار غلوك يقول: "لقد عملت أربع قوى على صياغة قصة فلسطين المهيمنة اليوم: الأولى هي الموروث التوراتي كما فسرته الأمم الغربية المسيحية، وهو الذي يشكل قصة فلسطين المعتمدة في العالم الأنجلوساكسوني والأوروبي. والثانية التنافس الأوروبي على بسط السيطرة على ساحل شرق المتوسط عامة، وعلى فلسطين خاصة، والثالثة قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين بشكل مدروس من أجل توفير وطن لليهود اللاجئين من الاضطهاد الأوروبي، والرابعة هي اختفاء الميراث الفلسطيني من الأدلة الملموسة، بسبب مصادرة الإسرائيليين المتعمد للمصادر الثقافية العربية.


....كاتب وباحث
hichammunawar@gmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف