أصداء

"لجان التحقيق البرلمانيّة" إبن شرعيّ ل"الديموقراطيّة اليهوديّة"

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


يشهد البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في السنوات الأخيرة سيل من التشريعات وإقرار الإجراءات العنصريّة لدرجة الفاشيّة والمشرّعة والمقرّة بالأساس ضدّ الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة. وآخرها المحاولة الفاشلة لأحزاب اليمين المتطرّفة بتشكيل لجان تحقيق برلمانيّة أعضاؤها من غلاة المتطرفين من بين أعضاء الكنيست على شاكلة محاكم التفتيش في القرون الوسطى، موجهة ضد الجمعيّات "اليساريّة" ولكن بالأساس ضدّ الجمعيّات الأهليّة العربيّة، الحجّة أن هذه الجمعيّات تُموّل من جهات معادية هدفها تشويه سمعة إسرائيل وجيشها.

يخطيء من يعتقد أن الأمر بجديد، فسِفر القوانين الإسرائيليّة مليء بالعشرات مثلها طالت كلّ ناحية من نواحي حياة العرب، ويكفي أن نذكّر بواحد قديم قدم ولادة إسرائيل هو قانون "الحاضر غائب" الذي ما زال مفعوله سائرا على المهجّرين والذي يبلغ تعدادهم حوالي الرُّبع مليون.

أهل قرية شعب الجليليّة كالكثيرين من أهل أخواتها، ما زالوا يدفعون ضمان أملاكهم للدولة لأنهم غابوا عن بلدهم تحت ضربات الهاجاناه عام 1948 إلى قرية مجد الكروم الجارة لأشهر قليلة، فصارت حقولهم وبيوتهم "ملكا" لدائرة أراضي إسرائيل يدفعون لها بدل سكنها وقطف زيتونها حتى اليوم. فأي عنصريّة يمكن أن تبلغ أكثر من أنك تسكن على أطلال بيتك وهو ليس ملكّك وتدفع مقابل سكنك فيه، وكرم زيتونك تحت ناظريك ولا تستطيع أن تدخله دون أن تدفع مقابلا لدائرة أراضي إسرائيل ثمنا لحبّات زيتونه؟!

الجديد هذا التقارب وهذه الغزارة في التشريعات والقوانين والجديد الآخر أن اليمين الإسرائيلي الواثق بعد أن نحا الشعب في إسرائيل منحى يمينيّا متطرّفا مانحا إياه الثقة المتزايدة، صار أكثر صفاقة ووقاحة، وما كانت المؤسسة تفعله ضدّ العرب تورية في لغة قوانينها أمام عجز عربيّ وصمت غربيّ خبيث، صارت تفعله جهارا غير آبهة بأية منظومة دوليّة لا بل مستهترة بكل المنظومات الدوليّة وعمادُها مصالحهم المتبادلة، ومستخفّة بأي فعل عربيّ لم يرقَ من العجز إلا إلى مستوى القرارات الفارغة والأعجز.

ظاهر الأمر يبدو وكأنه قوّة يشعر بها الإسرائيليّون ويمينهم غير حاسب حسابا لأحد ومُطمئِنا للموقف الغربيّ الذي لا يستغني عن إسرائيل كمصلحة عليا له كانت وما زالت واليوم أكثر كشوكة سامّة مزروعة في الربيع العربيّ صارت الحاجة لها أكبر، وقوة تؤهله للاستخفاف بالموقف العربيّ "النظاميّ" المُطْمئِن على الأقل مرحليّا بتأخر الربيع في ربوع محميّاته، وقوة مستمدّة من ضعف أو استضعاف الموقف الفلسطيني المنقسم والمتروك لقمة سائغة لا سند ولا عضد.

لكن نظرة عميقة في هذا الانفلات لا بدّ أن توصلك إلى استنتاج آخر وليس من فراغ، أنه ناتج عن هلع من قوّة البقاء التي اكتسبها عرب الداخل ورغم كل الظروف، وهلع من الربيع العربيّ الذي ينسّم على عرب الداخل والفلسطينيين عامة يداعب خصلات شعر شبابهم وشاباتهم وشيب كهلتهم ولحى شيوخهم. هم باتوا يعرفون حقّ المعرفة أن قنبلتهم النوويّة وجيشهم المجهّز بأحدث آلة "من الراس للمداس" لم يعد يكفيهم ولن يفيدهم أمام شعب لم يجفّ جذره في الخريف وروى نفسه بغيث في الشتاء وإن طال، وبدأت نسائم الربيع العربيّ العليلة تداعبه وأيام النكبة والنكسة ال-2011 كانت مؤشرّا على الآتيات من الأيام.

النقاش الذي أجرته الكنيست وشارك فيها 54 عضوا هم قرابة نصف الأعضاء الكلّي وغالبيتهم من المعارضين لتشكيل اللجان، دار حول ديموقراطيّة هذا الإجراء من عدمه وبالتالي سمعة إسرائيل في العالم "المتنوّر"، انطلاقا من أن إسرائيل "أم الديموقراطيات" و"الواحة" في الشرق الأوسط الظلاميّ، ومثل هذه القرارات يسيء إلى سمعتها الديموقراطيّة من وجهة نظر المعارضين ويعزز سمعتها انطلاقا من مبدأ "حق الديموقراطيّة في الدفاع عن نفسها" في نظر المؤيدين، وهنا وقع بعضنا أعضاء الكنيست العرب، في المطبّ طارحين النقاش المعارض من هذا الباب، "عدم ديموقراطيّة" الاقتراح.

التمثيل العربي في الكنيست هو حقل شائك وما زال موضوع نقاش بين الحركات الوطنيّة في الداخل رغم أن الغالبيّة منّا حسمت الأمر في اتجاه "استغلال" هذه الآليّة انطلاقا من واقع نعيشه ولتعزيز الوجود، ولكن ما زالت هنالك أقليّة كبيرة ترفض هذا الأمر ومن منطلقات شتّى ذات بال. أن تكون فلسطينيّا جزء من شعب مشرّد ومحتل ومداس الحقوق على يد دولة تمارس يهوديّتها ضدّك وأن تنتخب وتُنتخب لتكون عضوا في برلمانها، أمران ليس من السهل التعايش بينهما ولكن في ميزان السلبيّات والإيجابيّات حُسم الأمر على يد غالبيّتنا أن نعيش هذا التناقض.

الإدعاء أننا نجمّل بذلك وجه إسرائيل وديموقراطيّتها صحيح ونحن نُواجَه به من اتجاهين، واحد عربيّ يُثار في وجهنا في كلّ لقاء والآخر يهوديّ يُثار في وجهنا في كل مناسبة على يد "زملائنا" في الكنيست خصوصا عندما يحتدّ النقاش بيننا، وهنا لا يتوخى الكثير منّا الحذر خصوصا عندما نُستفز من البعض ومع سبق الإصرار علما أن الكنيست يبثّ أبحاثة مباشرة لوسائل الإعلام، كي يُظهر للعالم هامش الحريّة الذي نعيش وبالذات عندما نهاجم رئيس الحكومة والوزراء ببثّ مباشر ودون تحفّظ، وأكثر من مرّة وُوجِهنا ب"لو كنتم في دولة عربيّة لعُلّقتم على أقوالكم هذه" أو "إذهبوا ولنراكم تقولون مثل هذا الكلام في البرلمنات العربيّة" أو "انتم تفعلون لنا أحسن صنيع بوجودكم هنا" وما شابه.

ومع هذا لو كانت الديموقراطيّة هي في حريّة التعبير عن الرأي والانتخاب والترشّح لكانت إسرائيل "ستّ" بين الديموقراطيّات، ولكن من نافل القول أن الديموقراطيّة هي وبالأساس حقوق إنسان حياتيّة تدوسها ديموقراطيّة المؤسسة الإسرائيليّة صبح مساء بفظاظة بإجراءات أبارتهايديّة ضد العرب ومن مجرّد يهوديّتها.

انطلاقا من كلّ هذا فإن النقاش الذي دار في الكنيست حول تشكيل "لجان محاكم التفتيش هذه" هو ليس إن كان هذا الإجراء ديموقراطيّا متماش مع معاني الديموقراطيّة أو لا لأن في هذا اعترافا ضمنيّا بها، وهذا ما كان ويجب أن ننتبه إليه خلال النقاش مثلما فعل بعضنا ونشير إليه الآن ونؤكده، إذ أن سقوط الاقتراح ليس معناه سقوط التوجه الذي سيجيئنا بلبوس مختلف وكما مثلهم "نفس السيّدة بعباءة تختلف"، هذا ما يميّزنا عن بقيّة المعارضين للاقتراح.

النقاش هو أن هذا الاقتراح هو ابن شرعيّ ل"الديموقراطيّة الإسرائيليّة" ديموقراطيّة الدولة "اليهوديّة الديموقراطيّة" وليس دخيلا عليها، علما أن اليمين الإسرائيلي "يلعب" لأيادينا هذه المرّة إن أحسنّا التعامل مع قوانين اللعبة وليس من باب "كلّما ساء الوضع كلّما كان أحسن"، وإنما من باب استثمار هذا المنبر من خلال التوازن الصحيح بين وقوفنا عليه ومعانيه سلبا وإيجابا ورسائلنا من عليه أبعاداً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف