فضاء الرأي

الإرهاب الفردي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في مقابلة له مع شبكة سي إن إن هذا الأسبوع، تحدث الرئيس الأميركي أوباما عن ما أسماه خطر "الإرهاب الفردي". وعبّر أنه في المرحلة الحالية علينا الاحتياط بشكل أكبر من عملية ينفذها شخص، أكثر من عملية إرهابية منسقة بشكل جيد. وقلل "الخطر الذي يقلقنا خصوصا في هذه المرحلة هو خطر "ذئب متوحد"، أي شخص قادر على القيام بمجزرة كبيرة فقط بواسطة سلاح، كما حصل مؤخراً في النرويج".
هذا الحديث من أوباما وأحاديث مماثلة تدور حول العالم الآن، تفتح الأعين على مسألة مهمة للمرحلة الحالية، وهي تضاءل الإرهاب المنظم، وتزايد أشكال الإرهاب الجديد، من إرهاب فردي عشوائي، إلى إرهاب بيولوجي متطور، أو إرهاب الكتروني ومعلوماتي، قد يغير صاروخاً عن مساره، أو يقوم بتعطيل محطات الطاقة الكبرى...
رأى البعض أن الإرهاب هو شكل جديد من أشكال الحروب، على اعتبار أن الحروب التقليدية قد تقلصت فرص حضورها في العقود الأخيرة. لقد كان الإرهاب في السابق منظماً بشكل واسع، كان يصل لحجم دول ومنظمات، تقودها مسارات وأيدلوجيات راسخة. لكن اليوم ضعفت أسباب حضور هذه الكيانات. فالعالم اليوم أصبح عبر التواصل قرية صغيرة، ويصعب على أي دولة عزل نفسها عن أسباب التنمية والمصالح التي تحتم عليها تواصلا خارجياً لا يقف. وسبب آخر وراء ذلك، هو أن المجتمعات بمرور الوقت أصبحت تتكشف لها خطورة وسوداوية طريق التطرف، لذا بعض الحركات المتطرفة التي كانت تتحصل على بعض التعاطف وبعض الدعم الشعبي أصبحت تعاني اليوم، ولا تستطيع التواجد إلا في بلد مضطرب.
لقد أصبح البعد الاجتماعي حول العالم خانقاً للحركات المتطرفة، وتحركاتها. لم تعد هذه الحركات تستطيع أن تتمدد وأن تنشر أدبياتها شعبياً كما كانت تفعل في السابق. وفشلت رغباتها في إيقاد حرب "كونية". هذا التحول يؤكد لنا ضرورة الانتباه للأبعاد الجديدة من الإرهاب، خصوصاً حالة "الإرهاب الفردي" الذي لازالت الأمثلة الحديثة تدلل عليه. إلى جانب أنه لا يوجد مجتمع بمنأى عنه.
وإذا كانت حالة الإرهاب فردية، فإن البُعد النفسي مهم جداً فيها. فلو لاحظنا مثلا حالة المتطرف النرويجي "أندرس بريفيك" لوجدنا أن الكثير استغربوا ارتكابه للمذبحة في وسط بلده وأهله، مع أن عقدة الكراهية لديه هي تجاه المسلمين والأجانب!.
والبُعد النفسي قادر على أن يفسر لنا هذا السلوك قبل أي شيء آخر.. فالإغراق في "الذاتية" لدى المتطرف يجعل الآخرون كلهم غرباء بالنسبة له. غرباء على فكره وعلى منطلقه وأيدلوجيته حتى لو كانوا مماثلين له في الدين والوطن والعرق..
إن العنف في جوهره عملية ذات أبعاد "نفسية" لا أبعاد "قوة". لابد من استعداد نفسي يؤهل لارتكاب مثل هذا السلوك. المرتكب لأعمال العنف سواء كان متطرفاً دينياً، أو عنصرياً، أو لديه عقدة استعلاء أو تهميش أو دونية أو غيرها.. لابد في النهاية أن تُصب أحاسيسه وانفعالاته في مسار نفسي مغلف بالذاتية العميقة وذا "بُعد" وحيد فقط، يساعده على الذهاب بعيدا في نتاجه المتطرف.
لقد قال فرويد أن "الطفل سيحطم العالم لو توفرت له القوة الكافية لفعل ذلك"، ويستطرد المفكر البريطاني كولن ويلسون، في كتابه "سيكولوجية العنف"، في شرح أبعاد هذه المقولة، فيقول أن فرويد كان يعني أن الطفل ذاتي تماماً، ومغلف بمشاعر خاصة وذاتية تجعله غير مستعد لتفهم وإدراك أي أبعاد أخرى، ولذا من يرتكب العنف يكون مشابهاً للطفل في هذه الخاصية، حيث ينطلق من بُعد واحد يتسم بالتسهيل والتسطيح لكل ما عداه.
صاحب البعد الواحد والرؤية الحدّية، لا قيمة لديه ولا مشاعر سوى لنفسه أو لمن يماثله في دوافعه أو قيمه وكل ما يدور في فلكه، لذا سهل لديه أن يعتدي على الغير. يذكر ويلسون بذلك أن المعتدين لا يشعرون بضحاياهم ولا يحملون لهم قيمة. يضرب أمثلة على ذلك، منها، تلك المذبحة التي ارتكبها الجيش الياباني في مدينة "نانكنج" الصينية ومقاطعاتها في عام 1937، حين قتلوا ما يقارب من مائتي وخمسين ألف مواطن صيني بما فيهم النساء والأطفال، وبعد تلك الوحشية كان الأمر لهم من القادة بأن يستعدوا للعودة إلى حياتهم "المهذبة" و"الطبيعية" في اليابان بين نسائهم وأطفالهم..
هذه الطبيعة المغرقة في الذاتية لدى المتطرف تدفعه لإفناء كل من هم خارج نطاقه ورؤيته، سيّان كانوا من قومه وأهل دينه ووطنه، أو غيرهم. بل المتطرف قد يكون ناقم على بني قومه أكثر من "الآخر" فهو يرى أنهم خانوا العقيدة التي ينطلق منها. وهذا التصرف من النرويجي بريفيك مشابه للسلوك الإرهابي الذي صدر من قبل متطرفين مسلمين، فعوضاً عن أن يذهبوا لمقاتلة المحتل الأجنبي الذي يكرهون، قرر نفر منهم أن يقوموا بالقتل والتفجير في داخل بلدانهم!.. فعلى ما يبدو هذا الأمر يحقق لهم طاقة أعلى من "التشفي" و"التنفيس"، التي تتناسب مع حجم الكراهية المهوّل الذي يحملون.. وهذا كله يثبت المنطلق النفسي لهذه الدوافع.
إن النمو المعرفي للمجتمعات بجانب التقنية الحديثة ووسائل الاتصال المتطورة، كلها أمور استطاعت أن تقلص فرص وجود وتمدد "الجماعات" المتطرفة التي تمتهن العنف.. لكن من جهة أخرى هذه الأمور قد تخدم "الأفراد" المتطرفين الراغبين في العنف. فعبر التقنية المتطورة يستطيع الفرد إنتاج قدر كبير من الضرر. وفي النهاية لا أحد يستطيع الجزم والإخبار إن كانت مواجهة الإرهاب الفردي فادحة ومكلفة وصعبة على العالم مثلما كان الأمر مع إرهاب الجماعات.
azizf303@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف