كلفة الطب وديون الغرب (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
كتبت الصحفية الأمريكية، رنا فوروهار، بمجلة التايم، في شهر أغسطس الماضي، مقالا بعنوان، نهاية أوروبا، تقول فيه: "أنها نهاية أوروبا. فالإتحاد الأوربي يتفكك، ولندن تحترق، والشراكة الأمريكية الموثوق بها واهنة، فلن تستطيع إنقاذ اليورو. فقل وداعا للنظام العالمي القديم ... والغريب بأن الكارثة الاقتصادية، من نزول تصنيف القروض الأمريكية، وأزمة اليورو، وتقلبات سوق الأسهم التي تلتها، صنعت في نيويورك وبروسل وبرلين، وليست في شوارع شمال لندن، ولكن، لو تفحصنا الأمور بدقة، سنتفهم الحقيقة، فبريطانيا، كالولايات المتحدة، مركز لخلق ثراء عظيم مع تزايد الفجوة في تباين هذا الثراء خلال العقدين الماضيين. شكرا لارتفاع، وحديثا، نزول سوق الأسهم، وانخفاض نمو الاقتصاد العالمي، وتشارك بريطانيا المعاناة مع الدول الأوربية، خفض كبير في الميزانية، للسيطرة على ديونها المتراكمة، والذي خفض الدعم المالي للسكن، والمؤسسات التعليمية، ليتبين بذلك، سبب خروج أفقر سكان أوروبا، وفي دولة، بها أكبر فجوة في تباين الدخل، لانتفاضة الشارع." ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما الذي أدى لارتفاع ديون الغرب بهذه الطريقة المفاجئة؟ وهل الخصخصة المنفلتة، مع الصرف المترف على الرعاية التشخيصية والعلاجية، الذي سيصل خلال هذا القرن إلى 25% من الناتج المجلي الإجمالي الأمريكي، وإهمال الرعاية الوقائية له دور في كل ذلك؟ وهل تحتاج خطط الغرب الصحية للمراجعة، برفع شعارات: كفاءة الصرف، مثقال وقاية خير من قنطار علاج، فرط الصرف على الرعاية العلاجية يعني صحة أسوء للمواطنين مع إفلاس الدولة؟
لقد أدت الديمقراطية اللبرالية "المفرطة" في دول الغرب لانتشار الرأسمالية الفائقة، بخصخصتها المتوحشة، وسوقها الحرة المنفلتة. وقد سببت مضاربات هذه السوق للمواد الغذائية والعقار والطاقة والأدوية، لزيادة الأسعار بشكل جنوني، وترافق ذلك بزيادة التضخم، وانخفاض قيمة النقود، وانكماش الدخل الشهري للطبقات المتوسطة والفقيرة. وتزامن ذلك مع أرتفاع نسب المتقاعدين، ليصلوا قريبا لربع سكان بعض دول الغرب، وهم يشكون من أمراض السن المكلفة علاجها، كالسرطان وأمراض الشرايين، والتي تمكنت التكنولوجية الطبية الحديثة علاج الكثير من اختلاطاتها، واستبدال الأعضاء التالفة بالزراعة. كما أدت الرأسمالية الفائقة لانفلات أسعار التكنولوجيات الطبية المتطورة، فتمكنت الشركات المصنعة رفع أسعارها بفضل قوانين حماية الاختراع، لتصل، مثلا، حقنة واحدة لعلاج السرطان إلى عشرة آلاف دولار، والمضحك المبكي، بأنه حينما منعت المؤسسة الحكومية الغربية المسئولة تغطية تكلفة هذا الدواء، بسب تأكيد الأبحاث عدم فائدته، وترافقه بإختلاطات قاتلة، قامت الشركة المصنعة بدعوى قضائية ضد الحكومة. وزاد الطين بلة في فوضى الصرف على الرعاية الطبية، زيادة توفر الأطعمة الدسمة والسكرية، والتي أدت لارتفاع نسب زيادة الوزن، ليشمل في بعض الدول ثلثي السكان، ولتزيد من نسب الأمراض المزمنة اللاوبائية.
وقد أصبحت فوضى إدارة الرعاية الصحية معضلة خطيرة، وخاصة بعد أن ارتفعت ديون دول الغرب بشكل غير مسبوق، وحددت مجلة النيوزويك الأمريكية صفحة غلافها في 22 من شهر أغسطس الماضي، لمناقشة خطورة هذا التحدي، بعد أن ارتفع عدد الأمريكيين المصابين "بالنوع الثاني" من مرض السكري إلى 26 مليون، بالإضافة إلى أن هناك 79 مليون أمريكي مصابين، بما يسمى، بمرض ما قبل السكري. و حسب الدراسة التي نشرتها مجلة لانسيت الطبية البريطانية، والتي أجريت في 200 دولة، وصل عدد المصابين بمرض السكري، من كهول العالم، لحوالي 10%، كما أن نسب الإصابة في تزايد مستمر، خلال الثلاث العقود الماضية. وتتوقع هذه الدراسة بزيادة هائلة في كلفة الرعاية الطبية، بزيادة العاهات الجسمية المرافقة، كارتفاع نسب الجلطات القلبية، والهبوط الكلوي، والعمى، والإنتانات الخطيرة، وليعلق بروفيسور جامعة هارفارد، فرانك هو، على ذلك بقوله: "لقد أصبح مرض السكري وباء عالمي، وسيغرق الأنظمة الصحية، بمصاريف هائلة في كثير من الدول، وخاصة الدول النامية." وارتفعت نسب الإصابة بمرض السكري في الرجال، فوق 25 سنة من العمر، من 8.3 في عام 1980، إلى 9.8% في عام 2008، بينما ارتفعت النسبة بين نساء نفس الفئة العمرية من 7.5% إلى 9.2%، وعلق بروفيسور جامعة لندن، ماجيد عزتي، بقوله: "وقد يشكل ذلك معالم الصحة العالمية في القرون القادمة، بضخامة تحدياتها، فليس لدينا علاج جيد للسكري حتى الآن." كما أن هناك 40% من مرضى السكري في العالم، يعيشون في الصين والهند، بينما 10% منهم، يعيشون في الولايات المتحدة وروسيا، وارتفع عددهم الكلي في العالم من 153 مليون في عام 1980، إلى 347 مليون في عام 2008. ومع أن زيادة هذه ألأمراض رفعت كلفة الرعاية التشخيصية والعلاجية، ولكن زاد الطين بلة، خصخصة الرأسمالية الفائقة الغير منضبطة لخدمات الرعاية الطبية، ليرتفع كلفة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة إلى 18% من الإنتاج المحلي الإجمالي.
لقد أدت الخصخصة المتوحشة والسوق المنفلتة، لتعاون مريب بين الشركات الغذائية والشركات الدوائية والعلاجية، لترتفع نسب أرباحها، بعد أن زاد الاهتمام بالترويج للأغذية الدسمة والسكرية، وبوجبات هائلة الحجم في المطاعم، ليصبح التفريط في أكل هذه الوجبات الدسمة والزائدة سعراتها الحرارية، طريقة ذكية لزيادة السمنة، وأمراضها المرافقة، ليزداد عدد المرضى المصابين بها، وترتفع أسعار أسهم الشركات المتخصصة في الأدوية والمستشفيات والمطاعم. كما شجعت الخصخصة المنفلتة للرعاية الصحية، لزيادة استخدام الوسائل الطبية التشخيصية والعلاجية، وإهمال الرعاية الصحية الوقائية، كما شجعت شركات الأدوية والمستشفيات التفريط في استخدام التشخيصات والعلاجات الدوائية والجراحية المكلفة، مما أدى لزيادة نسب اختلاطاتها، مع الارتفاع الفاحش للكلفة.
وكشفت الصحفية الأمريكية، شارون بجلي، عن حقائق التفريط في استخدام التشخيصات والعلاجات الطبية في مقال بمجلة النيوزويك الأمريكية في شهر أغسطس الماضي بعنوان، العالم الذي قد ينقذ حياتك، تقول فيه: "التكنولوجية الجديدة زادت من حدة المضاعفات أحيانا، فبينما كان يشخص انسداد الشريان بفحص شعاعي للصدر، يستطيع الأطباء اليوم استخدام فحص مشترك لتصوير الشرايين مع التصوير المقطعي الثلاثي الأبعاد، وكان معجزة حينما اكتشف في عام 2005، أمل أن يوقف جلطة القلب قبل أن تبدأ، وقد علق الطبيب لور، على ذلك بقوله: فحوصاتنا الشعاعية جيدة جدا، فتستطيع رؤية أشياء، لم نكن نستطيع رؤيتها في الماضي. ولكن، إمكانياتنا في فهم ما نراه، ومعرفة الوقت المناسب للتدخل الطبي لم تتحسن. والمشكلة الكبيرة هي أن هناك تفريط في استخدام هذه الاختراعات الجديدة، حيث زاد استخدامها في الحالات المبكرة لبعض الأمراض، والذي لم يثبت فائدتها، بل بالعكس ثبت ضررها. ففي دراسة حديثة أجريت بمركز جون هوبكنز الطبي الأمريكي، على ألف مريض مصاب بنوع مبكر من مرض شرايين القلب، أجريت لهم الفحص المقطعي الشرياني، لم يجد الدكتور جون مكفوي انخفاض نسب الإصابة بالجلطة أو الوفاة، بالرغم من الفحوصات والعلاجات الكثيرة، بل بالعكس عانوا هؤلاء المرضى من إختلاطات توسعة الشرايين، والتي قد تؤدي للوفاة، مع زيادة تعرضهم لنسب عالية من الأشعة، والتي قد تؤدي للسرطان، مقارنة بالمرضى الذين تجنبوا هذه الرعاية.. فباختصار شديد، المرضى المصنفين بمرض القلب الأقل خطرا، ولا يشتكون من أية أعراض لمرض القلب، لا يستفيدون من هذه الفحوصات، بعكس المرضى المصابين بأعراض بارزة. وقد تفهم أطباء مركز كليفلاند الطبي خطورة الفحوصات الكثيرة الغير لازمة، بعد أن عالجوا مريضة في عام 2009، أجريت لها عملية قسطرة القلب في أحد مراكز القلب بالولايات المتحدة، بعد أن بين تصويرها المقطعي تغيرات في شرايين القلب، والتي عادة لا تحتاج لأي تدخل طبي، وبعد أن تم التدخل العلاجي خطأ، انتهت المريضة بإختلاطات عديدة أدت لزراعة القلب.
ويعتقد بروفيسور جامعة براون، ستيفن سميث، بأن هناك كثير من المسح الطبي الغير مفيد يجرى في كثير من المستشفيات، فمثلا هو ينصح أطباءه بعدم أجراء فحص الدم لسرطان البروستات (بي أس أيه)، ولا تخطيط القلب لمراقبة الاضطرابات القلبية البسيطة، لأنها قد تؤدي لتدخلات جراحية غير مفيدة، قد تقتل المرضى. وتؤكد الطبيبة ريتا ريدبرج، أستاذة الطب، بجامعة كاليفورنيا، بأنها لا تنوي تعريض صدرها للفحص الشعاعي، لكشف سرطان الثدي، مع إنها تجاوزت الخمسين من عمرها، لأنها تعتقد بأن الكثير من العينات التي تؤخذ بهذه الأشعة تكون نتائجها سليمة، كما أن النوع الخبيث منها قد يضمر بعفوية، بقوة مناعة الجسم، كما ليس هناك أي دليل بأن هذه الفحوصات تنقذ حياة المرضى، بل بالعكس قد تضرهم. وعلقت الصحفية شارون بجلي على ذلك بقولها: "ليس هؤلاء الأطباء ضد الطب، ولا يريدون ان يقللوا الصرف على الرعاية الطبية لكي ينقدوا الاقتصاد الأمريكي، والذي يمحي 18% من الميزانية، والمقدرة بحوالي 2.7 تريليون دولار. بل هم يطبقون رسالة تجربة حياتهم، التي تؤكد، بأن تفريط الصرف على الرعاية الصحية، تعني صحة أسوء للمواطنين. فهناك الكثير من المجالات في الطب، تكون النتائج أفضل بدون فحوصات الدم، والأشعة، وبدون العلاجات المعقدة." ولنا لقاء.
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان