حيرة العرب بين الجمهوريات الطائفية والإصلاحات الاقتصادية (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
تعتبر منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم عرضة للخلافات والصراعات والحروب، التي سببت لشعوبها الكثير من الماسي والويلات، وأخرت الحداثة والتنمية المعاصرة، وخاصة بعد بدء الحرب الباردة في القرن العشرين بين الأنظمة الرأسمالية في دول الغرب، والأنظمة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي الصين وأوروبا الشرقية سابقا. وقد أدى الصراع الرأسمالي - الشيوعي لخلق شرخ عميق في المجتمع الدوالي، مع صراعات انفعالية عميقة في الشرق الأوسط، بسبب محاولة المعسكرين الرأسمالي والشيوعي كسب حلفاء لحروبهم العقائدية، لتنقل منطقة الشرق الأوسط من مرحلة النضال للتخلص من الاستعمار وتحقيق الاستقلال، لمرحلة الانقلابات العسكرية، وثورات جمهوريات الصراعات الأيديولوجية القومية والاشتراكية وتطرف الإسلام السياسي، التي رفضت شروط الغرب للتعاون، بسبب الصراع العربي الإسرائيلي، فاتجهت للتعاون مع المعسكر الشيوعي الاشتراكي أو أنظمت لحركة عدم الانحياز. وقد فضلت شعوب الملكيات العربية الاستقرار على الانتفاضات، وتعاونت قياداتها مع الغرب لتطوير مواردها البشرية بالتعليم والرعاية الصحية المتقدمة، وتطوير اقتصاد سوق حرة. كما حاولت الدول العربية أن تحقق أيديولوجيتها القومية، فقامت بتجارب وحدوية، بعضها كانت سريعة وفاشلة، والبعض الآخر ناجحة بوحدة مشتركة، أو بمجالس للتعاون، كما شارك الجميع في شراكة جامعة الدول العربية ومؤتمر الدول الإسلامية. وبينما تخلصت بعض دول العالم من تخلفها وفقرها، لتبرز كدول حداثة تكنولوجية معاصرة، ككوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وتيوان، انشغلت بعض جمهوريات الشرق الأوسط بصراعات أيديولوجيات متطرفة، وحروب حرقت الأخضر واليابس، بفضل دكتاتوريات عظمة زائلة، في الوقت الذي كانت الملكيات العربية مشغولة في تطوير مواردها البشرية وصناعاته الخدمية والتكنولوجية، وبدأت تطوير أنظمتها وقوانينها الاقتصادية، لتستطيع التعامل مع تحديات العولمة، وسوقها الحرة المضطربة.
وما أن بدء بزوغ الألفية الثالثة برزت تناقضات الرأسمالية الفائقة، ليعاني العالم في عام 2008 أزمة اقتصادية خانقة، ولتتبعها في عام 2011 انتفاضة العولمة، التي بدأت ببروز حزب الشاي من جديد في الولايات المتحدة، ومظاهرات محاربة التقشف في الدول الأوربية، ولتنتشر في منطقة الشرق الأوسط من تونس وحتى ليبيا، طلبا للعمل وحياة إنسانية كريمة. وفي خضم هذه الأحداث العالمية المعقدة والمتشابكة، تطل علينا من جديد جماعات أيديولوجيات المعارضة المتطرفة، لتفسر انتفاضة العولمة "بصحوة دينية سياسية،" لتحقيق جمهوريات طائفية. وكأن هذه المعارضة المتطرفة لم تدرس تاريخ الصراعات الطائفية، ولم تتعرف على تحديات الألفية الثالثة، في قريتنا الكونية الصغيرة، وكيفية التعامل مع تحدياتها بأنظمة حداثة عصرية، وبتعاون إقليمي وعالمي، وبقوانين عالمية متجانسة، وبتكنولوجيات وصناعات متناغمة مع الطبيعة ومواردها البشرية الطبيعية، لخلق سوق تجارية حرة منضبطة، توفر العمل لموارد بشرية مدربة وسائلة، بل حاولت أن تجر الشباب، من جديد، إلى فوضى الانتفاضات الأيديولوجية.
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: كيف يمكن للدول العربية وقاية الشباب من إيديولوجيات المعارضة المتطرفة؟ فهل تحتاج المنطقة لتعليم وتدريب يقي الموارد البشرية من هذه الأيديولوجيات الانفعالية، ويهيئهم للعمل بسوق عولمة عمل تنافسية؟ وكيف ستستفيد المنطقة من مواردها البشرية المستقبلية لتحقيق حداثة صناعة تكنولوجية معاصرة؟ وهل ستركز شعوب المنطقة على إصلاحات اقتصادية برغماتية، للتعامل مع تحديات العولمة القادمة، أم ستكرر تضيع الوقت في صراعات سياسية لايديولوجيات القرن التاسع عشر البالية؟ وهل تحتاج لتعاون إقليمي لخلق سوق شرق أوسطية مشتركة، قوامها نصف مليار من القوى البشرية المذكرة والمؤنثة، العاملة، والمستهلكة، ومحركها صناعة تكنولوجية متقدمة، ومبادئها العمل المشترك، لخلق مجتمع عولمة بقريتنا الكونية الصغيرة، أساسها احترام القانون، وبسوق عولمة واسعة؟ وهل حان الوقت للتخلص من صراعات الأيديولوجيات السياسية، والتفرغ للعمل ببرغماتية واقعية، لربط العالم الإسلامي بسوق التجارة العالمية؟ أليست التجارة آلية لإلغاء الحدود وتبادل الثقافات والحضارات، لتتناغم المجتمعات البشرية وتزدهر؟ أليست التجارة السبب وراء تشجيع التعليم والإبداع، وتحويل الاختراعات لمنتجات وخدمات منافسة؟ ألم تؤدي لتطوير وتوظيف العمالة المبدعة، وتوفير فرص الاستثمار في الاختراعات التكنولوجية؟ ألن تطور التجارة، الصناعة والتكنولوجية المستقبلية، وتخلق طبقة مهنية وتجارية مؤهلة لتطوير الاقتصاد، لضمان أمن المجتمع واستقراره وازدهاره؟ وهل ستساعد دول الغرب هذا الجزء من العالم في تطوير تجارته العالمية كما ساعدت دول شرق آسيا من اليابان وكوريا وسنغافورة والفيتنام، وحتى الصين؟
تؤكد نتائج الانتخابات البرلمانية مؤخرا في العالم الإسلامي، بأن شعوبها قد ملت من صراعات الايديولوجيات السياسية، التي فشلت في تحقيق أمنهم واستقرارهم وتنميتهم الاقتصادية والاجتماعية. ولو رجعنا التاريخ نجد بأن الحضارة الإسلامية، لم تنتشر لشرق آسيا، إلا من خلال جهود برغماتية ناجحة، وخاصة من المبدعين والمهنيين والتجار. ويعتقد الكاتب الأمريكي، روبرت كابلين، بأن الإسلام انتشر في شرق آسيا من خلال حركة التجارة البحرية. فقد جاهد التجار المسلمون بين أخطار البحر وأهواله، لينقلوا منتجات واختراعات بلدانهم لدول شرق آسيا، فيتاجروا ببضائعهم، ويعرفوا شعوبها على قيم ثقافتهم وحضاراتهم، ويرجعوا لبلدانهم بمنتجات واختراعات وثقافات متنوعة. وقد أثبت مؤرخو الغرب مدى ترابط التجارة الشرق أوسطية والشرق آسيوية في الألفية الأولى، بعد أن اكتشف رجال الآثار سفينة غارقة في المحيط الهندي، يعود تاريخها لما يزيد عن الألف عام، مليئة بخيرة التحف القيمة من الحضارة الإسلامية والحضارات الشرق آسيوية. وقد يعكس حديث الرسول الأعظم، طلب العلم ولو في الصين، مدى قدم هذا الترابط، وأحاديثه عن العمل الحر، على مدى احترام الإسلام للتجارة، بل اعتبرها من خيرة الأعمال البشرية.
لقد بدأ العالم الإسلامي التوجه لسوق التجارة العالمية، فنشطت بلدانه لتحرير اقتصادها من الاعتماد فقط على مواردها الطبيعية، فطورت أنظمة تسهل التجارة والاستثمار مع دول العالم. كما اهتمت بعض الدول النفطية فيها، بتهيئة شعوبها لمرحلة العولمة القادمة، فطورت دساتيرها، وحققت إصلاحات سياسية واقتصادية جادة، لتحرر اقتصادها من تحديات اقتصاد النفط واختلاطاته. وقد تكون مملكة البحرين بصغر حجمها، وعرق تاريخها، وتقدم ثقافة شعبها، وتطور بنيتها التحتية، وقلة نفطها، خير مثل لهذه التغيرات، وخاصة بعد أن اتفق شعبها على ميثاق وطني في عام 2001، انبثق منه دستور حول البحرين لمملكة دستورية، وبعد أن دشن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، الرؤية الاقتصادية 2030 للمملكة، في عام 2008، والتي تهدف: "لانتقال مملكة البحرين من اقتصاد قائم على ثروة النفط، إلى اقتصاد منتج قادر على المنافسة عالميا، ترسم الحكومة معالمه، ويتولى القطاع الخاص الرائد عجلة تنميته، بشكل يوسع الطبقة الوسطى، لينعموا المواطنين بمستويات معيشية عالية، من جراء زيادة معدلات الإنتاجية، والوظائف ذات الأجور العالية. وستعتمد هذه الرؤية على مبادئ الاستدامة، والتنافسية، والعدالة، لكي تهيأ للفرد السبل التي تمكنه تجسيد قدراته الكاملة، ليعيش حياة كريمة وآمنة، كما تطمح لزيادة الناتج المحلي الإجمالي للمواطن البحريني للضعف مع إطلالة عام 2030."
لقد ناقش البروفيسور الأمريكي، والي نسر، الأستاذ بجامعة تفت، التطورات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، في كتابه، قوى الثورة، صعود طبقة وسطى إسلامية في الشرق الأوسط، وما الذي ستعنيه للعالم. فيعلق الكاتب بقوله: " أدت بيئة التطرف والعنف والغضب ضد الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، لصعوبة التفاؤل بمستقبل أفضل. ومهما تكن هذه الصعوبة يجب إلا نخفق في ملاحظة تيار قد يشكل مستقبل هذه المنطقة، فقد نضر أنفسنا لو فكرنا بمستقبلنا الأمريكي مع العالم الإسلامي من خلال منظار صراعات اليوم، فهناك قوى أخرى تحتاج انتباهنا ... ومع أن غزو العراق قوى الحكم الإيراني، وزاد تأثيره في المنطقة، ولكن النظرة الضيقة لأبعاد هذا التأثير، سيحولها لقوة حتمية ومشئومة. فالشرق الأوسط ليس فقط منطقة للتطرف والعنف، بل أيضا موقع لاقتصاديات مكافحة ومزدهرة، منطقة تتصاعد فيها قوة طبقات جديدة، ومثقفي الإعمال الحرة، لتغير الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية. وتؤكد ذكرياتنا عن القوى الصاعدة، الصين والهند والبرازيل، بأن الصعود في عالم العولمة الجديد لا يعتمد على القوة العسكرية، بل يحتاج لنجوم اقتصادية تقود التنمية في الدول التي من حولها. وليست إيران مثلا ساطعا لهذه النجوم حتى الآن، فاقتصادها المعزول ترتيبه 151 بين 160 دولة في العالم، لذلك ينقصها القوة الاقتصادية لتكون فاعلة على المستوى العالمي. فلم تعد قوتها العسكرية كافية للتأثير في عالم العولمة، مع أن قوتها بارزة في المناطق التي تتمتع بتجارة نشيطة. فمع أنها حليفة لسوريا الأسد، ولبنان حزب الله، ولكن تأثيراتها الحقيقية واضحة قرب حدودها، حيث أن تجارتها قوية في قوس يمتد من آسيا الوسطى وشرق أفغانستان وحتى الخليج وجنوب العراق، والتي تقوم فيها بمعظم تجارتها الإقليمية، من بيع منتجاتها الزراعية والغاز الطبيعي وبضائعها الصناعية." ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان