فضاء الرأي

رحيم العكيلي: رجل النزاهة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

استقالة القاضي رحيم العكيلي من رئاسة هيئة النزاهة دلالة أخرى على الهاوية التي يتدحرج فيها العراق. وكان الرجل محاولة مستحيلة. ان ازهار اللوتس محكومة بالوحول القذرة. تنبت فيها وتنمو وتزهر وتعطي ولكنها لا تغير محيطها. لا تستطيع. تحاول. المحاولة مغامرة ذات شرف. حكاية تستحق الرواية للأجيال، لأنها تعطي أملا، مثل قصة كل مقاتل ضد زمانه.
تمتعت شخصية العكيلي بالجمع بين الكفاءة والفضيلة، وهذه معادلة جد نادرة بين رجال ونساء المشهد العراقي بعد عام 2003 . وكان بين قلة ممن ظهروا في هذا المشهد وكانوا من "عراق الداخل"، عراق صدام الذي لم يستطع استكمال جريمة" الإبادة الأخلاقية" لشعب بأسره. ولذلك ظل"انتصار" صدام على الشعب ناقصا. القاضي رحيم العكيلي وأمثاله من "شخصيات الداخل" الفاضلة، الشجاعة، والحرة اشبه بأضواء على محاولة مستحيلة أخرى، ولكن من جانب الشر، لجعل البلاد خالية مقلوبة.
ولعل هذا ما اراده للبلاد، ويا للمفارقة، اعداء لصدام من ابناء جلدته، قضى استبداده عليهم بالعيش في المنفى. اذ يبدو ، والله أعلم، أن كثيرين من "رجال المنفى" الذين عادوا الى العراق بعد عام 2003 ، اعتقدوا ان البلد خال من العقول ، وتوهموا انه صحراء من الفضيلة والموهبة. ولربما كان للباحث منهم عن المجد والرزق والحكم مصلحة في اعتقاد او توهم فراغ الروح والسوق والسلطة.
وعلى اي حال فقد تحقق لهؤلاء العائدين ما أرادوا، وورثوا صدام، وتابعوا طريقه حتى قطعوا فيها أشواطا أبعد منه في مشروع" الإبادة الأخلاقية". فقد اصطنعوا بنية سياسية من طبيعة منتجة للفساد، لأنها عاجزة عن ارساء الأمن، وهو ما يؤدي الى تآكل دائم في حكم القانون، والفساد نتيجة حتمية لتراجع سلطة القانون. وهكذا أصبح العراق اليوم رابع أفسد دولة في العالم.
ومن دون ارادة سياسية، وسلطة قانون، ورقابة شعبية، لا يمكن الحد من الفساد. وهذه العوامل الثلاثة لن تقوم لها قائمة في ظل " العملية السياسية" الحاكمة. القاضي رحيم العكيلي كان مدركا لهذه المعضلة، وعارفا ممتازا لحجم الفساد ، وايضا لحدود دور " هيئة النزاهة" في مكافحته. ولقد كشف، في رسالة استقالته الى البرلمان، جزءا يسيرا من قمة جبل الجليد، حين قال بأن الارادة السياسية" " اضحت متذمرة بقوة من الرقابة..وتسعى جاهدة لمقاومة ادوات وآليات المساءلة والشفافية، فكأنها مشغولة بمحاربة الرقابيين أكثر من انشغالها بمكافحة الفاسدين".
وكان من بين أعمال هذه "الارادة السياسية" استحصال حكم من المحكمة الاتحادية العليا يقضي بإخضاع الهيئات المستقلة، وضمنها هيئة النزاهة، للسلطة التنفيذية. وهو حكم عارضه العكيلي شفاها وتحريرا، فالمفروض ان لا تخضع هذه الهيئات، المسماة مستقلة، لأي سلطة، عدا السلطة الرقابية للبرلمان.
والخلاصة هي ان الفساد المقارب للكمال، الذي لم يستطع نظام شمولي تحقيقه في سنوات طويلة، حققته" ديمقراطية فالتة" في سنوات قليلة. حتى ليبدو اليوم ان كل صاحب موهبة او كفاءة سنحت له فرصة سرقة اغتنمها، ولم يقصر.
ان صور العراق اليوم تذكرني بما خطه قلم كاتب ألماني في يوم ما من القرن الثامن عشر. قال:" اذا وجد الانسان في جزيرة نائية ذات مرة شعبا بيوته كلها مدججة بالأسلحة المشحونة المتأهبة وعليها بالليل حراس لا يكلون ولا يملون- فهل يخطر بباله شيء آخر سوى ان الجزيرة كلها يسكنها قطاع الطرق؟".
والحال في العراق اسوأ من حال تلك الجزيرة، لأن الحراس دائبون ليلا ونهارا، سيطرات او نقاط تفتيش في كل مكان، احياء مسورة بالكونكريت، طرق مقطعة، وفوق كل هذه العسكرة هناك ميليشيات بعضها يعمل في شبه العلن وبعضها الآخر في الخفاء.
ان الحكومة ذاتها تشكلت نتيجة عملية سرقة علنية. فقد خطف التحالف الشيعي، الذي انبثق بعد ظهور نتائج انتخابات 2010 ، الفوز من " القائمة العراقية" ذات الأغلبية السنية، بناء على فتوى انتزعت تحت الضغط من المحكمة الاتحادية العليا . وبدل ان تسلم " العراقية" أمرها الى الله، وتأخذ دور المعارضة البرلمانية، فقد اختارت التغانم على السلطة والثروة مع " التحالف الوطني".
كان القاضي رحيم العكيلي خبيرا لا يضاهى في فساد تغول بصورة دولة. ولكنه كان يراهن على استكمال بناء المؤسسة، على رفدها بالكوادر والطاقات، على تنمية خبراتها، على تحديثها، وعلى توفر شروط سياسية وقانونية واجتماعية تكون ملائمة ذات يوم لنهوض الهيئة بدورها. كان يبني للمستقبل. والمدهش انه على الرغم من هذا الوضع الزفت فقد ظهر الى الوجود نوع من الخشية لدى دوائر الدولة من "هيئة النزاهة".
وهي خشية ستجد طريقها الى النمو، والى التوسع، في يوم، في شهر، في دهر. فلا مناص من نضال الشعوب من أجل حكام يتمتعون بفضيلة أكثر، وموهبة في الفساد أقل. تماما مثلما لا مناص من استمرار وجود أمثال القاضي رحيم العكيلي على الدوام، فلو خليت قلبت.



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
اللتوس والوحل
قيس حسن -

شكرا لك على مقالتك الجميلة / رحيم العكيلي كان قصة نزاهة وكفاءة في بلد تحتقر السلطة فيه كلا الامرين ،اعطانا القاضي العكيلي فرصة للامل بوجود اشخاص يواجهون طوفان العصابات وقبائل النهب والسلب .

اللتوس والوحل
قيس حسن -

شكرا لك على مقالتك الجميلة / رحيم العكيلي كان قصة نزاهة وكفاءة في بلد تحتقر السلطة فيه كلا الامرين ،اعطانا القاضي العكيلي فرصة للامل بوجود اشخاص يواجهون طوفان العصابات وقبائل النهب والسلب .

القاضي راضي
احمد سلمان -

القاضي العكيلي حاله حال بهاء الاعرجي تصريحات رنانة وطنانةواحدهم ايصرح وسنكشف الاسماء وكلة كلاوات العكيلي من استلم لحد الان لم يكشف اسما واحدا من الفاسدين اوجيب ليل وكهرباء ماكو واكل بتيتة عل ضوء القمر

نفخر شرفاء العراق
ابـو زهـراء -

مقـالـة تستحــق القـراءة واحيـي مـوضـوعيــة الكـاتـب وجـرأتـه وتشخيصــه الـدقيـق للـوضـع العـراقـي بعـد 2003 فـي ظـل تكـالـب القــوى السيـاسيـة علــى المغــانـم التـي يتصــور البعـض بـأنهـا ستظـل هكـذا دون ظهـور الشــرفـاء مـن عـراقيـي الـداخـل والتصـدي لتلـك الحيتـان حتـى ولـو بـأضعـف الايمـان بـرغـم اننـي لا انكـر الجهـود التـي بـذلـت مـن قبـل هيئـة النـزاهـة ورئيسهـا القـاضــي رحيـم العكيلـي للحـد مـن تفشـي ظـاهــرة الفسـاد ومـا استقـالتـه الا صفعـة بـوجـه كـل مـن يـدعـون الــديمقـراطيـة وكـل مـن يــريـد التـدخـل فـي عمـل الهيئـات المستقلـة

مغالطة
ندى العبيدي -

الاخ احمد سلمان لا اعتقد بان هنالك وجه مقارنة بين احد رداحي البرلمان وبين قاضي مهني وله تاريخ مشرف

رد على مغالطة
احمد سلمان -

الى الاخت ندى كلهم في الهوا سوا والا ماسر سكوته كل فترة اشتغاله والساكت عن الحق شيطان ويامكثر الشياطين موديل 2003 فما فوق